عوني القلمجي
ايران وانتفاضة البصرة المغدورة
اذا اخذنا بالحسابات المصلحية، او كما يسموها البرغماتية، فان الحكومة لم تكن مضطرة لمعاقبة ابناء البصرة بقتل وجرح المئات، لمجرد مطالبتهم بتوفير الماء والكهرباء، بل ان المدعو حيدر العبادي، بصفته رئيس الحكومة، كان في امس الحاجة لتلبية هذه المطالب، او اطلاق الوعود بصددها، واضافتها للانتصار الذي حققه ضد تنظيم داعش الارهابي التكفيري، على امل ضمان ولاية ثانية من جهة، وتجميل صورة حكومته القبيحة وكسب ثقة الناس بالحكومة القادمة من جهة اخرى. وهذا ما يفسر اسراع المليشيات المسلحة لاحتلال البصرة والتصدي للانتفاضة بقوة السلاح، بعد اتهام المنتفضين بحرق مبنى المحافظة والقنصلية الايرانية، لقطع الطريق على العبادي لاجراء اي اصلاح جدي او شكلي، الامر الذي يؤدي حتما الى تهميش دور ما يسمى بالدولة العراقية وقواتها الامنية.
هذا الفعل المشين من قبل هذه المليشيات لا يدخل في خانة اضعاف العبادي وحكومته لحرمانه من ولاية ثانية فحسب، وانما يمثل، هذه المرة، محاولة جدية من قبل ملالي طهران للهيمنة على العراق. فزج هذه المليشيات، التي هي الذراع العسكري لايران، في عمليات قمع الانتفاضة، يعني حصر السلطة الفعلية في يدها، ليس في البصرة فحسب، وانما في عموم المدن الجنوبية، التي تحتوي على 90 بالمئة من الثروة النفطية، وتشكل اكثر من ثلث مساحة العراق. ولا يغير من هذه الحقيقة قوة امريكا وقدرتها على ضمان نفوذها في العراق ضد هذه المليشيات، فحين يخلو ملالي طهران الى شياطينهم، يستحضرون دور المقاومة الشعبية في مجابهة القوى الاستعمارية مهما بلغت من قوة. ومثال الفلوجة ووقوفها ضد الاحتلال الامريكي وهزيمة قواته في هذه المدنية الصغيرة على يد مجموعات صغيرة واسلحة بدائية، يعد بالنسبة لهم النور الذي يهتدي به هؤلاء الملالي، خاصة وان هذه المليشيات، التي تتخذ من اسم الحشد الشعبي غطاءا لها، هي اكثر قوة واكبر حجما وتسليحا من المقاومة العراقية حينها، ناهيك عن بذل الجهود الكبيرة لجعل هذه المليشيات موازية للحرس الثوري الايراني. في حين ان المقاومة ضد المحتل عمل مشروع يعترف به القانون الدولي والشرائع السماوية، بينما مشروع ملالي طهران هو يدخل في باب احتلال دول اخرى الامر الذي ترفضه الشرائع السماوية والوضعية.
هذه النظرية الميلشياوية العدوانية، بصرف النظر عن التشبيهات المفتعلة والاسماء الجذابة التي تتخذها والاهداف السيئة التي ترمي اليها، لم تات من فراغ، حيث ارسى قواعدها الخميني قبل استلامه السلطة، فهو قد امن بان الاعتماد على المليشيات المسلحة ضد اي قوة دولية كبرى او عظمى، هو اكثر ضمانا من الاعتماد على الجيوش النظامية، وان حماية مشروع الجمهورية الاسلامية العالمية المبتكر من قبله، لا يمكن تحقيقه والحفاظ عليه من قبل جيش نظامي ينتمي الى جيوش دول العالم الثالث، لان مثل هذا الجيش مهما كان متطورا لا يمكنه مقارعة جيوش الدولة العظمى، مثل جيش الولايات المتحدة الامريكية، ليس فقط في العدة والعتاد، وانما للفرق الهائل في التطور العلمي والتكنولوجي وانواع الطائرات والقنابل ذات الدمار الشامل. فليس صدفة اذن اعتماد ملالي طهران على الحرس الثوري الايراني اكثر من اعتمادهم على الجيش النظامي الايراني، كما انه ليس صدفة الاهتمام بتقوية مليشياتها المسلحة في العراق وسوريا واليمن ولبنان على حساب الجيوش في هذه البلدان، بل ان ملالي طهران قد سعوا فعلا الى اضعاف هذه الجيوش لصالح المليشيات المسلحة. وقد نجد نموذجها الصارخ في العراق، حيث تسعى من خلال عملائها في السلطة الى اضعاف الجيش العراقي. من هنا تاتي خطورة دعوة قادة المليشيات لاهالي البصرة على التطوع والانضمام الى "الحشد الشعبي المقدس"، سواء عبر سياسة التهديد او الترغيب.
امام هذا الوضع الخطير، فان الخاسر الوحيد هو الشعب العراقي، الذي قد تدفعه طهران من خلال هذه الرؤيا الى حروب اهلية او طائفية تاكل الاخضر واليابس. اما الانتفاضة في البصرة، فضمن الية نشاطها السلمي للابد، لن تستطيع تحقيق اي هدف من اهدافها مهما قدمت من تضحيات ومهما طال الزمن. واذا ارادت الحكومة الحالية او الحكومة القادمة، لاي سبب كان، تلبية مطالب الانتفاضة، فانها لن تتمكن من ذلك في ظل حكم المليشيات المسلحة، التي يتناغم مخططها بتجويع العراقيين واذلالهم وحرمانهم من ابسط حقوقهم المشروعة، مع المخطط الامريكي لتدمير العراق دولة ومجتمع. اضافة الى ان العراق يعاني ايضا من غياب المؤسسات القادرة على انجاز اي مشروع اصلاحي، ووقوع الكثير من مناطق العراق تحت سيطرة الاحزاب والمليشيات والقبائل ورجال الدين. ناهيك عن ان الحشد الشعبي، الذي اصبح الاطار العام للمليشيات المسلحة، قد تحول في جانب منه الى قوة سياسية متمكنة. وكان اول ترجمة لهذا التحول هو فوز قائمته بالانتخابات الاخيرة بالمرتبة الثانية، تحت اسم قائمة الفتح بقيادة هادي العامري وابو مهدي المهندس.
هل بامكان الحكومة القادمة التي وصفها بعض الموهومين بانها ستكون وطنية وابوية وعابرة للطائفية، تحقيق مطالب الناس وبناء دولة حديثة وجيش قوي واجهزة كفوءة الخ؟
الوقائع العنيدة تقول غير ذلك، فمهما كان شكل الحكومة والاوصاف البراقة التي تتخذها، قادرة على الافلات من نظام المحاصصة الطائفية المقيت، او حتى المساس، بشكله وليس بجوهره، وخير دليل على ذلك، فان مجلس النواب الجديد قد افتتح باكورة اعماله، بانتخاب رئيس برلمان "سني"، ونائبان احدهما كردي والاخر شيعي يعقبها لاحقا رئيس جمهورية كردي، ورئيس وزراء "شيعي" ثم تمتدت المحاصصة لاحقا لتشمل الوزارات والمناصب كبيرها وصغيرها.
اما سائرون وزعيمها مقتدى الصدر وبرنامجه الافلاطوني، فقد تراجع بعد فوزه مباشرة عن هذا البرنامج، حيث ركع السيد مسبقا في محراب المحاصصة الطائفية، وساهم في اول جلسة للبرلمان بانتخاب سني لرئاسة مجلس النواب، ونائب له شيعي والاخر كردي، ثم ان مقتدى الصدر يعلم علم اليقين، بان الوعود التي قطعها على نفسه لن تجد طريقها للتحقيق في ظل وجود دولة محكومة بنظام المحاصصة الطائفية والعرقية من جهة، والمليشيات المسلحة والحرامية من جهة اخرى، وانما تتحقق في ظل وجود دولة مدنية، او شبه مدنية، او على الاقل دولة تتوفر فيها مؤسسات واجهزة امنية تحفظ امن المواطن وتحميه من التسلط السياسي والقهر الاجتماعي وتومن له مقومات الحد الادنى للعيش بكرامة.
وكان اكثر هذه التصورات او التوقعات الوردية سذاجة، ما يجري من حديث عن الرئيس الامريكي الجديد دونالد ترامب، وحزنه الشديد جراء ما حل بالعراق من دمار وخراب على يد اسلافه المجرمين جورج بوش الابن وباراك اوباما، وانه من شدة حبه لهذا البلد، قرر انقاذه من محنته وانهاء معاناة اهله، بل ذهب البعض ابعد من ذلك واخذ يروج لخطة وهمية وضعها ترامب وسماها خارطة طريق تضمنت، التخلص من الاحزاب الحاكمة كونها احزاب دينية متطرفة. والقضاء على المليشيات المسلحة، وحل الحشد الشعبي، والغاء جميع القوانين التي صدرت بعد عام 2003، وتعديل الدستور، وتطهير القضاء، وتقديم الفاسدين والسراق والمجرمين الى المحاكم، واقامة نظام فدرالي شبيه بالنظام السويسري، كبديل لنظام المحاصصة الطائفية والعرقية!!!!. هل سمعتم بمثل هذه الترهات السخيفة من قبل؟
لا طريق اذن لاستعادة حقوقنا المشروعة سوى الانتفاضة ثم الانتفاضة ثم الانتفاضة، كونها الوحيدة القادرة على اسقاط العملية السياسية بكل حلقاتها، ومحاسبة شبكات الفساد ومافيات النهب المنظم، ولتحقيق هذه الطموحات المشروعة، فانه لا طريق سوى لجوء الانتفاضة الى استخدام كافة الوسائل بما فيها حق الدفاع المشروع عن النفس ضد اجهزة الدولة القمعية التي استخدمت كل وسائل العنف ضد هذه الانتفاضات السلمية رغم مطالبها المتواضعة، فهؤلاء الاشرار لن يكتفوا بما قتلوا وما سرقوا، وانما مصرين على الاستمرار في هذا الطريق، وهذا ما اكدته مجريات الصراع الدائر حتى الان، اذ لم نسمع عن مفردة واحدة من بين مفردات الصراع تضمنت اية اشارة تدل، ولو من بعيد، على يقظة ضمير او مراجعة للذات الخبيثة او كلمة عن مطالب الناس في البصرة. بل على العكس من ذلك تماما، فلازال الجميع يتحدث عن الكتلة الكبرى ومن هو الاحق بها. ولا يغير من هذه الحقيقة اتخاذ بعض الاجراءات الترقيعة لامتصاص غضب المنتفضين.
بمعنى اخر، فان تغيير الية مسيرة الانتفاضة كفيلة بتحقيق الانتصار النهائي طال الزمن ام قصر، خاصة وان أطراف عملية الاحتلال السياسية قد وفرت كل المبررات لانتشارهذه الافكار الوطنية والثورية، بسبب سقوطها السياسي والاخلاقي المدوي، واصرارها على مواصلة العبث بشؤون البلاد والعباد، وعدم الكف عن ارتكاب الجرائم والسرقات، اضافة الى اصرارها على رفض اي إصلاح يمس ولو شعرة من راسها، او يهدد مكسبا من مكاسبها، او يهز ركنا من مواقعها، الامر الذي سيدفع الناس الى الدخول في رحاب الانتفاضة افواجا افواجا.
بالمقابل فان من يصر على تشجيع الناس على الخنوع واستجداء المطالب، يساهم في استمرار نزيف الدم العراقي البريء. لسنا اقل من الشعوب الاخرى التي كنست حكامها الظالمين وعملائها المؤجورين عن طريق الثورات الشعبية والانتفاضات المسلحة.
نعم يا شعبنا العراقي العظيم وانتفاضته الباسلة، فالنصرسيكون حليفكم بمجرد ان تلغوا من حساباتكم اية مراهنة على الحكومة، او البرلمان للقيام باي اصلاح جدي، وتشطبوا من ذاكرتكم اية فكرة او مقترح لاصلاح العملية السياسية من داخلها، وان تضعوا في سلة المهملات جميع المراهنات على اي حكومة مهما اتخذت من اسماء براقة، اوالاحتكام للدستور، او القضاء، أو تشريعات مجلس النواب، لان كل هذه المفردات نتاج عملية الاحتلال السياسية.
عوني القلمجي
19/9/2018
4823 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع