د.صلاح رشيد الصالحي
منطقة نجران في التاريخ
شكل الطريق الرئيسي لمدينة الاخدود (نجران)، مع المباني الأثرية على كلا الجانبين وتظهر الجبال اليمنية في الخلف (اليمين)، الكتل الحجرية المربعة استخدمت في بناء الاخدود وهي دليل على ثقافة متقدمة، وكذلك النقوش بالخط المسند على تلك الصخور.
تقع منطقة نجران حاليا في أقصى الجنوب الغربي للمملكة العربية السعودية، وتبعد عدة كيلومترات قليلة شمال الحدود اليمنية، ولا يصلها الزوار والأجانب إلا نادرا، وتبلغ مساحة الموقع الاثري للمدينة (220 متر في 235 متر)، وقد شيدت المباني بالكتل الحجرية، ويعود تاريخ موقع نجران إلى (4000) ق.م ولكن ليس لدينا تنقيبات قديمة أو حديثة للموقع، ولهذا تاريخ المدينة يعتمد على بعض الإشارات التي وردت في النصوص اليمنية، والرومانية، وعند المؤرخين العرب، وكلها لا تقدم صورة واضحة لتاريخها العريق، أما تسمية نجران فهو في الأصل يشمل اسم الواحة بأكملها بما في ذلك جميع البلدات والقرى، فالاسم القديم للخرائب (الاخدود) (al-Ukhdūd)، ومن المحتمل الاسم يطلق على مركز المدينة رغمات (Ragmat) أو رجمة أو رعمة المذكورة بالتوراة.
كانت نجران ذات موقع استراتيجي في طريق البخور، فجميع الطرق التي تنطلق من اليمن القديم باتجاه الشمال أو الغرب تلتقي في نجران، ومنها تشعبت الطرق إلى اتجاهين:
الأول: يتجه شمالا عبر الحجاز (Hijāz) باتجاه مصر وبلاد الشام.
الثاني: يتجه نحو الشمال الشرقي باتجاه مدينة جرهاء (Gerrha) بالقرب من الخليج العربي، فقد كانت جرهاء مركز لمملكة عربية من عام (650) ق.م ولغاية (300) ميلادية، وتعرضت هذه المملكة للتهديد في فترة من تاريخها من قبل انطيوخوس الثالث الملك السلوقي (205-204) ق.م الملقب بالعظيم.
وتعرضت نجران حوالي (685) ق.م إلى غزو مملكة سبأ من قبل (مكرب ايل وتر الاول) (Mukarrib -KRB-EL-WTR ) الذي يعتبر من اهم ملوك مملكة سبا في اليمن، ويعني اسم مكرب (يقلب سكان اليمن حرف (ق) الى (ك) فهناك يلفظون مثلا العراق الى عراك والحقيقة حكيكة وهكذا) بمعنى مقرب أي القريب من الإله بمعنى كاهن الإله ويقصد به (الإله مقه إله القمر عند سكان سبأ)، وأما وتر فيعطي معنى مدمر المدن، على اية حال لاحقا تمردت المدينة على سلطة ملك سبأ (يثع أمر بين) (Yithi'amar Bayin) فذكر بانه دمر مدينة رغمات (Ragmat) حوالي (510) ق.م، يبدو أن نجران كانت تحت حكم تناوبت عليه مملكتي معين أو سبأ في أوقات مختلفة خلال القرون التالية.
خلال ازدهار الإمبراطورية الرومانية قاد الحاكم الروماني في مصر جايوس أوليوس كالوس Gaius Aelius Gallus (26-24) ق.م (في عهد الامبراطور أغسطس) حملة عسكرية ومعه دليل من سكان الانباط يدعى سيلابوس Syllaeus ، وكانت الحملة مكلفة وشاقة وغير ناجحة في نهايتها لغزو شبه الجزيرة العربية وصولا إلى اليمن والهدف من الحملة هو استكشاف البلاد وسكانها، أو من أجل إبرام معاهدات الصداقة مع العرب، أو لإخضاعهم إذ كانوا يعارضون السيادة الرومان، وكانت الفكرة السائدة في ذلك الوقت بأن الجزيرة العربية مليئة بجميع أنواع الكنوز، أو على الأقل السيطرة على مناطق انتاج وتجارة البخور، وقد حقق القائد الروماني انتصارا في معركة قرب نجران عام (25) ق.م، فاحتل المدينة وصابها التخريب، ثم استخدمها كقاعدة لمهاجمة عاصمة سبأ في مأرب (بالروماني ماريبو)، ووفقا للجغرافي الاغريقي الأصل سترابون (Strabo) الذي شارك بنفسه في الحملة واستهل وصف الحملة بهذه العبارة: (لقد علمتنا الحملة التي قام بها الرومان على بلاد الغرب بقيادة اوليوس غالوس في أيامنا هذه أشياء كثيرة عن تلك البلاد)، وقد أطلق سترابون على المدينة تسمية نيجرانا (Negrana)، وأشار بانها تقع في ذلك الوقت في أقصى شمال مدينة سبأ.
قدم سترابون وكان صديق القائد الروماني أوليوس كالوس وصفا طويلا للحملة الفاشلة التي رافقها دليل من الانباط، وقد وصفه بانه خائن فتم قتله في نهاية الحملة الفاشلة، ومن جملة ما ذكره سترابون الحرارة المفرطة، والماء الرديء، وامراض مجهولة فتكت بعدد كبير من الجنود الرومان، وقد استغرقت الحملة مدة ستة أشهر ثم عاد القائد الروماني بعد مسيرة دامت شهرين مع من بقي من جنوده إلى ميناء الإسكندرية في مصر.
عندما غزت مملكة حمير (Ḥimyarites) (110 ق.م – 520 م) مملكة سبأ، فرضوا في عام (280) سيطرتهم على الأرجح على نجران، وفي وقت ما من القرن الثالث الميلادي تمرد أهالي نجران وانحازوا بعد أن اعتنق غالبيتهم الدين المسيحي إلى ملك الحبشة حيث مملكة أكسوم (Axum) المسيحية، وكانت امبراطورية تقع في أريتريا ومنطقة تيغراي في شمال اثيوبيا وفيها حاليا أقدم كنيسة في العالم التي تضم حسب ادعائهم تابوت العهد وعرش بلقيس ملكة سبأ، فأرسل ملك الحبشة حاكما يُدعى (سقلم-قلم) (Sqlm-qlm) كما ورد في النقوش الحبشية ليدير شؤون منطقة نجران، ولكن سحق شمر يهرعش ملك حمير هذا التمرد.
ثم هاجم إمرؤ القيس بن عمرو ملك المناذرة العربي (مملكة المناذرة وعاصمتها الحيرة) منطقة نجران عام (328) م، وبتشجيع من مملكة أكسوم (Axum) المسيحية في الحبشة، فتحالف نصارى نجران مع مملكة أكسوم مرة أخرى في بداية القرن السادس الميلادي.
الدين المسيحي في نجران
دخل الدين المسيحي إلى نجران مثل بقية مناطق جنوب شبه الجزيرة العربية في القرن الخامس الميلادي أو ربما قبل هذا التاريخ بقرن، وطبقا للمؤرخ العربي ابن إسحاق فان نجران كانت أول مكان انتشر فيه الدين المسيحي في جنوب الجزيرة العربية، ووفقا للمصادر اليمينية المعاصرة أستلم حكم مملكة حمير يوسف ذو نواس ملك حمير (أو يوسف اسار يثار) (468-527) ميلادي وكان ملكا يدين باليهودية (Dhū Nuwās) فقد حمل اسم يوسف وهو اسم عبراني، وينسب له التصدي للغزو الحبشي، ويبدو أنه رأى أن استقرار حكم مملكة حمير يتوقف على القضاء على الاحباش الذين أدخلوا المسيحية إلى اليمن، فقد هاجم الحامية العسكرية اكسومايت (Aksumite) في ظفار (Zafar) واسر جنودها، واحرق كنائسهم، كما فرض سيادته على مخا، وجزيرة الفرسان، و باب المندب، ومنطقة ركب في الحديدة، ثم تحرك باتجاه نجران معقل المسيحية والمتحالفة مع مملكة أكسوم الحبشية، وبعد ان فرض الحصار عليها استسلمت المدينة وتم ذبح سكانها الذين رفضوا التخلي عن دينهم وقدر عددهم (20000) نسمة، ولا يوجد نص صريح يشير إلى حرق ذو النواس لأعدائه، ولذا فقد روى مؤرخي السريان نقلا عن مؤرخي العرب عن أحداث مفزعة تظهر قسوة وعنف ذو النواس ضد نصارى نجران، وأحد المصادر التي يعتمد عليها جاءت ضمن رسالة (النجاة) تدعى ديمنون (Dimnon) كتبها شخص اسمه سمعان (Simon) ويعمل اسقف بيت أرشام (Beth Arsham) عام (524) م ، يروي كيف اضطهد ذو نواس المسيحيين في نجران، وقد ادان الإسلام هذا الاضطهاد كما ورد في القرآن الكريم (سورة البروج آية 4)، وأصبحت نجران مركز مهم لصناعة الأسلحة في عهد النبي محمد (ص)، ومع هذا كانت المدينة قد حققت شهرة في الصناعات الجلدية اكثر من تعدين الحديد، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رض) تم ترحيل سكان نجران المسيحيين إلى بلاد الرافدين على أساس لا يجوز ان يعيش في الجزيرة العربية غير المسلمين فيها.
ما بقي من يهود نجران
كان في نجران جالية يهودية يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام، وارتبط تاريخ اليهود بقلعة بني كوراث (Bnei Chorath) أو (Ctherith) وهو اسم تيار أو وادي ذكر بالتوراة، وتنحدر قبيلة بني كوراث من أصل قحطاني، وكانت ذات يوم واحدة من أهم قبائل نجران واصولهم يمنية فرضوا سيطرتهم على المدينة حتى الغزو المسيحي لليمن، أما في القرن العشرين الميلادي فقد غزا عبد العزيز آل سعود نجران عام (1934) ميلادية فهرب (200) يهودي من نجران إلى عدن التي كانت تحت الاحتلال البريطاني آنذاك، وفي عام (1949) طالب عبد العزيز آل سعود ملك السعودية بعودتهم لكن الملك اليمني أحمد بن يحيى رفض تسليمهم لانهم لاجئون في اليمن، وتم توطينهم في مخيم شاهيد (Hashid)، وبالاتفاق بين بريطانيا وإسرائيل تم نقله إلى فلسطين المحتلة كجزء من عملية ماجيك كاربيت الكبيرة (Magic Carpet).
668 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع