محمود سعيد
وكلاء أدبيون وناشرون عرب انتهكوا حقوق الكتاب الفكرية
دافع الأستاذ الكبير ناطق خلوصي عن الأدباء العراقيّين في ظلّ الحصار، في مقالة نشرها في موقع النّاقد العراقيّ، فذكرني بمقالة كتبتها عنهم سنة 1999 ونشرتها في جريدة الحياة اللندنيّة، والقيتها في النّدوة العربيّة جامعة شيكاغو في شتاء السّنة نفسها ثم قام الدّكتور إيلي شلالا، بترجمتها إلى الإنكلزية ونشرها في مجلة Aljadid التي تصدر في لوس أنجلس.
لم أعثر على المقالة العربيّة الأصلية، لكن التّرجمة موجودة، وهذه مقتطفات منها منذ مدة قصيرة وصلتني رسالة من موسى كريدي، قبل وفاته ، يشكرني لأني أرسلت إليه ما يعادل 100 دولار مكافأة لمادتين كنت قد رتّبت لنشرها في إحدى الصّحف الإماراتيّة البيان خارج العراق كان أمامي خياران إما بيع سيّارتي أو تركها يتآكلها الصّدأ تحت المطر والشّمس، إضافة إلى أنّها في حاجة ماسة لإطارين جديدين، الأنّ مع 100 دولار أستطيع شراء الإطارين وتجنّب وفاة سيّارتي . نعم استطاع موسى أن يجنب سيّارته من الموت، ولكنه لم يستطع هو نفسه تجنّب الموت، فتوفي بعد بضعة أشهر، وهم بالكاد يبلغ خمسين سنة.
مما لا شك فيه، أن موسى كريدي لم يستطع مقاومة الضغوط الاقتصاديّة التي فرضتها الامم المتحدة، من عقوبات وممنوعات، بعد أن وضعت حرب الخليج الثّانية أوزارها فتوفي. نما كريدي في ظلّ حزب البعث العربيّ الاشتراكي، واقتنع بأيدلوجيته، وتتمتع بامتيازاته، براتب سخيّ من وزارة الإعلام العراقيّة، كغيره من الكتاب من أقصى الشّمال حتى أقصى الجنوب، لكن هؤلاء السّادة المثقّفين لم يستطيعوا الاستمرار عندما اهتزت القاعدة الاقتصاديّة للنظام إثر هزيمته في حرب الخليج الثانية، وبخاصة بعد أن فرضت الأمم المتحدة حصارها. عندئذ أصبحوا يعانون كباقي أبناء الشّعب، إذ لم تعد موارد البلد الضئيلة تكفي لحاجات النّظام الأساسية، ملغية المصروفات التّرفية التي كان من ضمنها إجازة مداحي صدام حسين سياساته.
أجور معظم المثقّفين العراقيّين تتراوح من 5,000ــ 8,000 دينار عراقيّ، أي ما يعادل ثلاثة إلى أربعة دولارات شهريا، وهو الدّخل الذّي يكشف محنتهم الاقتصاديّة كالمواطنين الآخرين. ومثل بقية السّكان لجأ الكتاب والفنانّون إلى بيع مجوهرات أسرهم والأدوات المنزليّة الخاصة بهم، سواء كان ذلك ثلاجة أو مكيفاً، قطعة أثاث أو جهاز تلفزيون، كلّ ذلك من أجل الحفاظ على لقمة كفاف لا تكاد تسدّ الرّمق.
لم يعان المثقّفون وحدهم من الحصار، فقد شمل المؤسسات التّعليمية والإدارية وحتى المستشفيات، أصبح مشهدا مألوفا ورود تقارير تتحدث عن تجارة الأعضاء البشرية في صفوف المثقّفين وغير المثقّفين على حد سواء، فقد عم الإذلال والإهانة الجميع، حيث لم يفكّر في العواقب من استغنى عن عضو في جسمه. وربما كان للمثقّفين امتياز متفرّد إذ قاموا ببيع المكتبات الشّخصيّة، والكتب المهمة التي يعتزّون بها ثم أصبحوا يعقدون مزادات كلّ يوم جمعة، لبيع ما كانوا لا يفرّطون به مهما ساءت الحال. ومن نافلة القول أصبح المشهد الاكثر اثارة للصدمة هو قيام المثقّفين أنفسهم ببيع كتبهم بأنفسهم إضافة إلى بيع أحد أعضاء أجسادهم أحياناً، ولعل أكثر المفارقات غرابة أن نتصور المثقّفين يقفون في تقاطع الطّرقات يبيعون السّجائر والسّاعات والأثاث المنزليّ.
ضحايا الاستبداد
استغل الحال بعض الصّحف العربيّة التي تصدر في الخارج، فكانوا يبعثون بمكافآت للكتّاب لا تزيد على بضع دولارات، ولعلّ كلّ تلك المظاهر البائسة صوراً للبحث اليائس من أجل الحصول على مزيد من الدّخل. وبهذا تساوى ما تدفعه الصّحف الحكوميّة التي تصدر في الدّاخل بمكافآت الصّحف العربيّة التي تصدر في الخارج. ولشدة السّيطرة الحكوميّة على الأدب وللضغوط الاقتصاديّة على المواطن والأديب بشكلّ خاص بات ما ينشر من أدب عراقيّ في الثّمانينات والتّسعينات رثّاً متأرجحاً بين الجودة والهبوط قياساً بإنتاج العصر الذّهبي للفترة السّابقة حينما كان الشّعراء والرّوائيون العراقيّون في طليعة الإبداع والتّقدم.
الثّقافة العراقيّة والأدب هي ضحايا مجموعة من الأولويات التي حددها النّظام، التي تنص على وظائف معينة يتم الاحتفاظ بها أو إلغاؤها، وتتأثر القرارات في المقام الأول باعتبارات سياسية. وهكذا، نرى مجموعة كبيرة من مهنيّين، مصورين، مترجمين، مذيعين عاطلين عن العمل، لا لأنهم لا يدعمون النّظام، لكن لأنّ خدماتهم لم تعد ضروريّة لخدمة النّظام حالياً. إضافة إلى اعتماد تقليد طويل من التّمييز بين الكتاب بعيداً عن اعتماد معايير نقيّة في السّياسة والأيديولوجيّة.
إن من أهم مظاهر استغلال الأديب هو وقوعه ضحيّة دور النّشر العربيّة التي تتحكم به في منطق السّوق، وإن كان بعض الكتاب العرب يتمكن من دفع ثمن معين لنشره كتاباً فإن الكاتب العراقيّ الذّي أمضه الحصار يعجز عن ذلك، وبهذا تم استبعاد الكثير من الكتاب والأدباء العراقيّين وأصبحوا في واقع الحال عاجزين عن اللحاق بالشّوط.
ولا يتوقّف استغلال المثقّف العراقيّ عند دور النّشر الجشعة بل برزت إلى الوجود ظاهرة أخرى في ظلّ الحصار الجائر وهي وجود ما يسمى الوكلاء الأدبيّون إذ أصبح الوكيل سيد انتهاك حقوق النّشر الفكريّة، من خلال ترتيب مبيعات، قصائد، قصص، روايات، مخطوطات مقابل حفنة من نقود لا تسمن ولا تغني من جوع.
توفي عبد الملك نوري، سيد القصة العراقيّة القصيرة في الآونة الأخيرة، كان وحده، شبه أعمى، لم يكن ما معه كافٍ لشراء قطرات العين. قبل أن يتوفى، اضطره الضغط الاقتصاديّ لبيع ما لديه من مكيّفات هواء، وأدوات منزليّة أخرى مما جعله يعاني بشدة من حرارة عالية لا يمكن تحملها صيفاً. وكان مصيره متوقعاً، فقد حالتّ طبائعه السّامية وما يتوافر على كرامة ونزاهة من بيع قلمه للدولة. وشاركه في المصير نفسه الشّاعر العظيم البياتيّ، والكاتب هادي العلويّ، الذّي توفي في سبتمبر الماضي في دمشق، بعد أن غادرا العراق لنفس الأسباب التي دفعت الآلاف من المثقّفين أخرى للمغادرة. توفي الأوّل رغم شهرته، والثاني رغم كتاباته المنتشرة فقيرين أيضاً، ولعل الفقر سمة المثقّفين العراقيّين فهم يموتون دائما فقراء في العراق وخارج العراق.
نشرت في مجلة الجديد، المجلد. 5، NO.26، شتاء 1999
ترجمة وتحرير من العربيّة من قبل إيلي شلالا.
2192 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع