د.صلاح الصالحي
القرابين الحيوانية في بلاد الرافدين
شكل لوحة مطعمة بالأصداف تصور متعبد أو كاهن سومري من فترة عصر فجر السلالات الأول يحمل صغير الماعز يقدمه كأضحية، وجد اللوح في معبد الإلهة ننخرساك (Ninhursaga) في مملكة ماري (تل الحريري في سوريا) (اليمين)، شكل شخصيات إنسانية مرتدية جلود الأسود ربما هي صورة تقليد للإله (لا تاراك) المنحوت على نقش حجري ضخم من غرفة العرش في القصر الملكي للملك الآشوري آشورناصربال الثاني من العاصمة كالخو (الوسط)، شكل شخص ذو مظهر انساني يرتدي جلد سمكة، ويمسك بدلو فيه ماء دجلة والفرات، النقش مأخوذ من نصب حجري كبير من قصر آشورناصربال الثاني (883-859) ق.م في مدينة كالخو الآشورية (نمرود الحديثة) (اليسار) .
تعتبر القرابين ضمن الطقوس الدينية في بلاد الرافدين قديما، حيث يتم تقديم نذور بهيئة مواد مثل (الذهب، والفضة، والاحجار كريمة، والملابس) أو حيوان أو انسان إلى الإله في محاولة البقاء على علاقة مقبولة للفرد أو مجموعة الأفراد أو المجتمع بشكل عام مع الإله المعبود، وفي كثير من الثقافات بما فيها بلاد الرافدين القديمة اتخذت عادة الذبح وتقديم الحيوان كأضحية للإله المقدس.
في الميثولوجيا الرافدية كان من واجب الانسان الذي خلقته الآلهة ان يقدم الرعاية والمتطلبات المادية للمعبودات، والتي تشمل توفير الغذاء للآلهة حيث كانت تقدم وجبات الطعام لتمثال الإله وبأشراف الكاهن الأعظم (شيشكالو) (šešgallu) (لان الآلهة مثل البشر تأكل، وتشرب، وتتزوج، وتنجب، وتكره، وتحب..) وكان ينظر إلى التضحية بالحيوان على أنه الوسيلة لإشباع حاجة الآلهة من الطعام كما في معبد الإله مردوخ في بابل أو معبد الإله آشور في مدينة آشور، لذلك كان يتم إعداد الأطعمة في مطابخ المعبد وتعرض أمام تمثال الإله ومثل هذا الطعام يكون مباركا، وبعد الانتهاء من مراسيم تقديم الطعام إلى الإله يتم غسل اليدين وفم التمثال، ويرسل قسم من الطعام إلى الملك، والقسم الاخر لمن حالفهم الحظ في المعبد لتناول القليل منه بسبب التهافت علية من قبل زوار المعبد، ولا نزال نعتبر اعداد الطعام في المناسبات الدينية فيه البركة والخير والرزق والانسان المحظوظ من يأكل منه، ويتلقى المعبد الكثير من الحيوانات كنذور وهبات وهدايا من المتعبدين وتبقى تلك الحيوانات في حضيرة المعبد باعتبارها ملك للإله، وهذه الحيوانات ليست فقط لإعداد طعام الإله المدينة انما كانت تستخدم لإطعام رجال الدين، وخدم المعبد، وزواره حيث تقام الولائم على شرف الإله، وكانت الأغنام من الحيوانات المفضلة لدى الآلهة لذا تحتل مرتبة الصدارة في القرابين، كما تم التضحية بالماعز والماشية (الابقار والثيران) أيضا، وليس تقديم القرابين مقتصرا على الحيوانات فقط، فقد كشفت التنقيبات التي أجريت في غرف المعابد في مدن جنوب بلاد الرافدين في فترات ما قبل التاريخ أو المراحل التاريخية المبكرة وجود كميات هائلة من عظام السمك (يطلق على السمك بالسومرية سمكو SIM KU6) التي اعتبرت بمثابة قرابين قدمت إلى المعبد.
هناك نوع آخر مختلف من القرابين الحيوانية نجدها في مدافن بلاد الرافدين، فقسما من القرابين تشكل غذاء للمتوفى، ففي المدافن السومرية، كانت الخيول والثيران، وأحيانا العربات جزءا من الاحتفال الكبير الذي يرافق الجنازة، ومن المحتمل التضحية بالثيران هدفه مواصلة مهمتهم كحيوانات تعمل في خدمة المتوفى في العالم الاخر، ولا نزال نضحي في أول أيام عيد الأضحى بثور للرجل المتوفي ليكون شفيعه يوم الحساب العظيم.
كذلك قدمت الماعز كأضحية وتدعى (بديل الانسان) ففي بعض الطقوس تجري عملية تحويل المرض أو الشر من الأفراد إلى الماعز التي يضحى بها، بعكس التضحية بالأغنام كانت تجري في احتفالات رأس السنة الجديدة البابلية (عيد اكيتو) (Akitu) وهي ليست مرتبطة بفكرة كبش الفداء، أو اعتبرت حيوان يضحى به ليحمل خطايا الشعب بكامله، وهو مفهوم غريب على فكر بلاد الرافدين.
لدينا أدلة على وجود تضحية حيوانية لها علاقة بطقوس خاصة ترتبط بإقامة بناء، وما نزال إلى الان نمارس تقاليد قديمة جدا فعند شراء بيت جديد أو الانتهاء من تشيد دار يتم ذبح خروف ويغمس الكف في دم الاضحية ثم طبعها على الباب أو الجدران، واحيانا ذبح ديك ووضع دمه على الجدران، وفي اقل الحالات يتم كسر بيضة أمام عتبة الدار، والهدف من كل ذلك طرد الشر وعين الحاسدين، وهذه التقاليد من الموروث البابلي القديم وربما أقدم من ذلك، فعلى سبيل المثال جرت تنقيبات في مدينة كالخو (نمرود الحديثة) واكتشف وجود غزال مدفون تحت أرضية مبنى ملكي واعتبر من قبل علماء الاثار بانه قربان لحماية المبنى.
هناك أيضا احتفال ديني يقدم فيه الحمار (الحمار بالأكدية إمارُ (memāru) أو (mImāru) من حيث اللفظ قريبة من العربية) كوليمة ضمن طقوس آمورية عظيمة (Amorrite)، ويعتقد انها تدور حول ركوب الإله للحمار، وكانت يقدم صغير الحمار كقربان في طقوس السلام والتحالف بين الممالك الصغيرة أو القبائل، ونفس الاضحية تقدم في حالة الاتفاقيات الدبلوماسية بين الدول أيضا، علاوة على ذلك، هناك صنف خاص من الحمير وهي (الحمير البرية) كانت مفضلة كقرابين فقد ذكر بان الناس في بلاد الرافدين كانوا يأكلون لحومها لأن لحم الحمير البرية يشبه لحم الغزال لكنه سريع التلف، وقد وردت في مصادر مملكة ماري ومدينة شوباط-انليل (يعتقد انها موقع شجر-بازار أو تل ليلان في سوريا، وكانت مقر حكم شمشي-ادد الاول الملك الاشوري)، هذه السمات موثقة في العديد من الأماكن الأخرى في مواقع شمال بلاد الرافدين، فقد وجد علماء الآثار مدافن للحمير في منطقة ماري على الفرات، وشوباط-انليل على رافد الخابور، وقد توصل الباحث (Magen) إلى فكرة بان إله الطقس (يقابل الإله ادد) كان في الكثير من الأوقات يصور راكبا حمار، ولذلك فان إقامة احتفال مع وليمة من لحم صغير الحمار في مدينتي حلب وإمار (Emar) (في سوريا) كانت مكرسة إلى هذا الإله الذي كان يعبد هناك، ولدينا رسالة ذكر فيها تقديم صغير الحمار البري كقربان، وكاتب الرسالة عنونها إلى ملك ماري بأنه: (ذبح مهرة الحمار، انثى صغيرة، وليس عنزة ولا كلب كما اقترح عليه)، كما ذكر في هذه الرسالة بانه لن يذبح بغل أو حصان كأضحية، فقط الوحيد الذي قدم كقربان الذي ولد من انثى الحمار، أما في مدينة أور فقد عثر على عظام طيور صغيرة مع تماثيل هي الأخرى صغيرة في صناديق طينية وضعت في أساسات مبنى يعود إلى العهد الاشوري الحديث.
كما نجد في العصر الاشوري الحديث، مشاهد بالنحت البارز تصور الصيد الملكي الذي اعتبر في بعض الاحيان، شكلا من أشكال التضحية بالحيوان كما هو في منحوتات الملك اشوربانيبال (627 -668) ق. م، فقد صور في أحد النقوش الصخرية في قصر الملك اشوربانيبال وهو يقف بجوار الأسود التي قتلها، ويقوم بسكب السائل المقدس (ماء أو نبيذ)، اما تصوير تقديم الأضاحي في معابد بلاد الرافدين بكل تفاصيلها الدامية فكانت نادر للغاية، وفي بعض الأحيان كانت تجري طقوس حرق الاضحية الحيوانية مع اجراء طقوس دينية معينة ربما إيصال الاضحية إلى الآلهة في السماء (لأن جميع القرابين تكرس إلى الآلهة التي تسكن في السماء) بواسطة أحد الآلهة إما
1- إله النار جيبيل (Gibil): في الاساطير السومرية هو إله النار ابن إله آن (An) وكي (Ki) وله حكمة واسعة وعقل كبير لدرجة جميع الآلهة لا يستطيعون فهمه يطلق عليه بالأكدية كيرا Gerra.
2- إله نوسكا (Nusku): الإله نوسكا كان وزير الإله انليل السومري ويوصف بان كاتب يسجل الاحداث، وقارب يوصل انليل إلى زوجته الإلهة ننليل، وفي وقت لاحق أصبح إله النور والنار، ولا يمكن تميزه عن الإله جيبيل Gibil.
ارتداء ملابس جلود الحيوانات
تم اكتشاف اثار تثير الاهتمام خلال التنقيبات التي جرت في موقع زاوي جمي (Zawi Chemi) في شمال بلاد الرافدين، وهي مستوطنة صغيرة تعود إلى أواخر الالف العاشر أو أوائل الالف التاسعة ق.م. فقد عثر عن كومة وضعت خارج هيكل حجري تضم على الأقل خمسة عشر جمجمة لحيوان الماعز ومعها عظام اجنحة لسبعة عشر طائر مفترس كبير مثل النسور، والعقبان، والحباري، ولاتزال علامات السكين واضحة على عظام الطيور مما يدل على قطعها بعناية من أجساد الطيور، وفسر علماء الآثار جماجم الماعز والأجنحة المقطوعة بانها جزء من القرابين وفق طقوس دينية.
في ملحمة گلگامش البابلية وفي ذكرى وفاة إنكيدو، كان گلگامش يطوف الصحراء مرتديا جلد الأسد، وفي الفن الاشوري الحديث صورت شخصيات بشرية ترتدي جلود الحيوانات، ومنها شكل يرتدي جلد الأسد صور بالنحت البارز في قصر الملك تجلاتبليزر الثالث (744-727) ق.م ربما هذا الباس تقليد للإله (La-tarāk) (الاسم السومري الإله لولال (Lulal)، وفي اللغة الأكدية لاتاراك، كانا منفصلين ولكنهما مرتبطان ارتباطا وثيقا وفي أواخر الالفية الثانية ق.م يشار اليهما كزوجين، وفي العصر الاشوري الحديث كان يتم دفن تماثيل لاتاراك عند مداخل المعابد والقصور حتى يقي من السحر، ويجسد التمثال شخص بشري برأس أسد ويرتدي جلد أسد، ويحمل سوطا لطرد السحر، وكان الإله لولال له علاقة وثيقة بالإلهة إنانا (عشتار) ولكن تلك العلاقة غير واضحة، يبدو انه إله محارب، واما لاتاراك فمعنى اسمه هو الجلد) وعلى الأرجح من يرتدي جلد الأسد هم الكهنة، أو يمكن أن يكون الإله نفسه، وهناك زوج من هذه الشخصيات تمثل رجال يرتدون ثيابا (يطلق بالأكدية على الملابس لبوسُ lubūssu أو لبوشتي lubušti) من جلود الحيوانات (يطلق عليها الكوناكيس) نراهم في نقش بارز من عهد الملك اشورناصربال الثاني (883 - 849) ق.م، وكذلك اشكال إنسانية ترتدي زي السمكة يطلق عليهم أبكالو (apkallu) أي (الحكماء السبعة) الذين خدموا الملوك في وقت مبكر، واعتبر الإله (اوننا) (وهو بهيئة بشر وذيل سمكة) في العصر البابلي القديم ابن الإله (أيا)، وبذلك فهي إشارة إلى أنه (حكيم)، وكان كهنة ابكالو يرتدون زي السمكة عند أداء الطقوس الدينية، وأسم (اوننا) مرادفة إلى اونيس (Oannes)، فقد ذكر المؤرخ البابلي بيروسوس حول أصل الحضارة البابلية بقوله: (ظهر من البحر الأحمر(يقصد هنا الخليج العربي) في منطقة قريبة من الحدود مع بابل، وحش مخيف يدعى اونيس (Oannes) جسمه الأعلى انسان والاسفل سمكة، وبدل القدمين لديه ذيل أسماك، وصوته مثل صوت الأنسان... هذا الوحش قضى أيامه مع الرجال لا يأكل أبدا، وكان يعلم الرجال المهارات للازمة للكتابة، والرياضيات، وجميع أنواع المعرفة: وحتى كيفية بناء المدن، والمعابد، وكتابة القوانين، وعلم الرجال كيفية تحديد الحدود، وتقسيم الأرض، وأيضا كيفية زراعة البذور ثم جني الاثمار والخضروات ... وفي نهاية اليوم يذهب الوحش اونيس إلى البحر ليقضي الليل هناك (لاحظ التقارب في اللفظ بين اونيس=ادونيس= ادريس)، أن بعض الاشكال التي ترتدي شكل السمكة صورت وهي تحيط بسرير رجل مريض توحي بأنها شخصيات بشرية ترتدي زي السمكة ربما هي ملابس الاطباء قديما، في هذه الحالة، لا يعني زي السمكة بانها سمكة حقيقية، لان الزي يغطي رأس الرجل وحتى خصره أو عند الركبة أو حتى يصل الأرض، ولهذا اقترح بأن تكون تلك الملابس قد تم صناعتها كتقليد دقيق تشبه الأسماك الحية.
3366 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع