د.ضرغام الدباغ
شريف الربيعي ...عراقي رائع ...
في نهاية الستينات رحل شريف إلى بيروت يعمل في الصحافة المقاومة، فعمل في مجلة إلى الأمام التي كانت تتخذ من بناية منظمة التحرير الفلسطينية مقراً لها، والمجلة كانت يرأس تحريرها الصديق العزيز المرحوم فضل شرور ويعمل فيها عدد من الكتاب العراقيين.
شريف كان شاعراً ... يكتب أشياء جميلة، يعبر فيها عن معاناة داخلية صعبة، لذلك لم يكن الكثيرون يجيدون التعامل مع شريف الإنسان، كانت له عذاباته الشخصية، في مقدمتها بعده عن بغداد التي يحب، ومقاهي باب الشرقي التي يرتادها (مقهى المعقدين) والأزقة التي تعرفه ويعرفها، ثم جاءت بيروت لتضيف له أصناف جديدة من المعاناة.
بيروت كانت مدينة معبأة بالمثقفين والأدباء والكتاب، ولم يكن شيئاً هيناً أن تتخذ لك مكاناً بين الأسماء الكبيرة، والكتابة والنشر حرفة وعلاقات عامة، وأشياء أخرى ....! وشريف لم يكن يفقه تلك العلاقات ولا يجيدها، فهو حر كالهواء لا منتمي بأمتياز، له عالمه الخاص ... الخاص جداً ... وجد في المقاومة مجالاً ليعبر عن رفضه التام، ومن ذلك الرفض .. رفض الحال والأحوال، والسكوت عن المسكوت عنه، شريف لم تكن دواخله تعرف النظام، بل كان فوضوياً في كل شيئ يفعله، كان شيوعياً قديماً، ولكنه كان غاضباً على حزبه، يسخر من كل شيئ، بل هو لم يجد حتى في الحركات المتمردة على الحزب أنها تشفي خواطره، فشريف يصعب أن يرضى بشيئ، فهو يجد في كل شيئ علة وخطأ، ونقص فيرفضه ويسخر منه .. هو لم يكن شيوعياً تاماً .. ولا وجودياً تاماً ... ولا تروتسكياً تاماً .. ولا فوضوياً تاماً (أقصد الفوضوية على مذهب باكونين)، شريف كان شيئاً خاصاً ...
انتمى شريف للمقاومة الفلسطينية بقناعة، ولكن شريف سوف لن يستطيع أن يطلق النار، ليس خوفاً من النيران، فهو لم يكن ضد فكرة القتال وبل كان يمجدها، ولكنه هكذا لم يكن يستطيع تبرير فكرة عدم قدرته على إطلاق النار .. وتلك كانت إحدى عذاباته الدفينة .. كنا نسير ذات يوم في بيروت ، فجأة توقف وقال لي : أتعرف ضرغام .. أني أحسدك . فقلت له على ماذا ..؟ قال أنت تستطيع القتال دفاعاً عما تؤمن .. قالها لي ببساطة شديدة ..شيئ عجز فكره عن استيعابه وفهمه، رغم أنه كان يقدس فكرة أن تموت دفاعاً عن الثورة. وكان هو من عمل ملصقاً عن الفدائي وضع فيها مقطعاً من قصيدة هي أجمل ما كتبت عن مصرع غيفارا الاسطوري .. كتبها حين تفوق غيفارا حتى على نفسه .. مبتسماً مرحباً مصافحاً الموت من أجل القضية ..غيفارا دفع ملايين الشباب في العالم إلى الثورة ..! شريف كتب عن غيفارا ....
حين أستطاع أن يضحك عبر الموت ...
أرعب ذل الصوت ..
حين تحدثنا عن هذه القصيدة قال " لم أكتبها أنا.. كتبها شريف الآخر ".
هو كان يناضل عبثاً للاتحاد مع الذات .. شريف الآخر كان عملاقا .. ولكنه لم يؤت إلا القليل من القدرات ليبلغ نفسه وهكذا كان يعدو خلف ظله في برية قاحلة .. كلوحة رسمها سلفادور دالي في ساعة محمومة...
شريف كان مثقفاً.. كان حراً، مخلصاً، أبياً، وشخص كمثله .. كشريف، تكون جيوبه دائماً خاوية من النقود، وكان يطلب مني ما يشاء من النقود دون أدنى إحراج، وهو يدرك أن النقود هي أسخف من أن تمثل شيئاً. ذات يوم جاء من بيروت إلى دمشق وكان يسكن في بيتي عندما يزور دمشق، ويتقاسم معي ما أملك .. وتصادف أني لم أكن موجوداً ذلك اليوم في دمشق، وهو المفلس التاريخي، وليتجنب البقاء كمشرد في الشوارع، أضطر أن يبيت تلك الليلة عند أصدقاء لنا، وكانت ليلة ليلاء .. لم يرحبوا به وهو الشديد الحساسية، بل ضايقوه في ليلة، أنفجر فيها شريف شعراً، وفي فجر اليوم التالي، ومع شروق الشمس، أنسل شريف من البيت بصمت وقد ألصق بباب البيت قصيدة ... وضع فيها وجعه الذاتي أكثر من نذالة الآخرين .. وجع وطنه الأبدي، وغربته الدائمة، وهو الذي غادر بلدته (الكوت) منذ سنوات سحيقة .. يبحث فيها عن نفسه .. وخيبة أمله في ما كان يعتقد أنها قناعات نهائية ... لم يكن يعلم أن ليست هناك أشياء نهائية ..
وفي بيتي ترك لي رسالة ... من كلمتين فقط .... أين أنت ...؟
وعاد إلى قلعته ... بيروت التي كان يحبها رغم أنها تعذبه
شريف كان صديقي .... وكان إنساناً صادقاً وحراً، ساخطاً على الكل ومن كل شيئ، ورغم جذره الماركسي كان وجودياً حقيقياً .. يرى أن الحياة عبارة عن عبث .. ومشاريع فاشلة .. والإنسان محكوم بالموت لا يعرف موعد تنفيذه ..ولا طريقة التنفيذ .. وأنا كنت له ملاذاً .. وهو خسر حتى هذا الملاذ حين سجنت لستة عشر عاماً .... يا صديقي العزيز أنا مثلك ساخط على ما يدور حولنا .. أداري غضبي بالثورة .. وحين ادركتني الشيخوخة .. وداهمني العجز صرت أعبر عن سخطي بالكتابة ..! أرفع وتيرة غضبي وثورتي، ثم أهدأها حيناً .. ثم أبكي بصمت على أشيائنا التي ضاعت .. كي لا يراني أحد .. خسرنا أعز أشيائنا .. ومن نحب ونعشق .. كم مرة تكفي الإنسان أن يتحطم ..؟ مرة .. مرتان .. خمسة مرات .. خسرنا أكثر بكثير ولا تواسينا سوى حكمة أرنست هيمنغواي " قد يهزم الإنسان .. ولكنه لا يتحطم " .
ستة عشر عاماً أنتظر الليل والنهار من طاقة صغيرة جداً في زنزانتي .. ولكني قررت أن لا تهزمني قضبان الحديد .. قضبان فولاذية واجهتها بلحم صدري .. وخرجت لأواجه الشمس والنور .. نعم خسرت الكثير جداً .. ولكني كسبت نفسي ..!
في الحرية عندما أراد صديق مشترك أن ينبأني وفاة شريف وهو يعلم ثقل النبأ علي ... قال لي ... ضرغام ... عندي لك خبر سيئ ..صديقك راح .. هتفت جزعاً ... شريف ...!
توفي شريف في لندن مبكراً وبسرعة .. ألتهمه غول السرطان ..كأنه هارب من حياة لا فهمته ولا فهمها ...! لا أدري .. فبرغم أنه كان يخاف الموت لأنها نهاية الأحلام .. ولكني أعتقد أن السأم كان ملئ روحه.. كثيراً ما أتخيل لحظات وفاته ..
آه يا شريف لو كان بإمكاني هذه اللحظة أن أضع زهرة على قبرك في لندن .. يا صديقي العزيز لنضع هذا أيضاً في قائمة العجز المؤلم ..!
512 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع