(أنا الملك الأسد) في نصوص العراق القديم

                                              

                       د.صلاح الصالحي

 (أنا الملك الأسد) في نصوص العراق القديم 

يعد الأسد من الحيوانات المعروفة بشراستها وقوتها البدنية وقدرته على الفتك بالأرواح، فقد عاشت الأسود الاف السنين في بلاد الرافدين منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى العصور التاريخية، وهي حيوانات مفترسة معروفة بشراستها وأسنانها القوية وزئيرها المخيف، وانتشرت في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية على نهر الفرات الأوسط واعالي دجلة، و آخر ذكر لوجود الأسود كان عام (1944) م، ولعل سبب انقراضها يعود إلى تقلص مناطق صيدها الطبيعية والصيد الجائر، فانقرضت إسوة بالفيلة وطائر النعام وغيرها من الحيوانات، لقد كان ارتباط الملوك بالأسد شائعا عبر التاريخ، غالباً ما يقال إن (الأسد) هو رمز (الملك)، فقد شكل هذا الحيوان رمز القوة والهجوم العنيف والانياب والمخالب الحادة وكلها تثير الرعب في القلوب، ولذلك سعى الانسان في داخله إلى التشبه بالأسد على مر العصور، ففي العبارات المتداولة فيما بيننا بان الأسد ملك الغابة ومعها الحيوانات المتوحشة، وعندما نصف شخصا نقول بانه أسد للدلالة على الرجولة والقوة، كما يعتبر نعت الأسد محببة لدى الناس بعكس نعت شخص ما بانه مثل الكلب أو الخروف فهذه التشبيهات تعتبر نقص من كرامته، كما اتخذ البعض اسم أسد كاسم شخصي لهم، كما اتخذ اسمه لقب للعشيرة أو قبيلة مثل (بني أسد، والأسدي)، اما في الجانب الديني في الوقت الحالي فقد صور الأسد وهو رابض بجنب الامام علي (رض) يقال له (شير علي) (شير بالفارسية القديمة تعني أسد وهي تحريف بسيط للكلمة الأكدية شارُ (šarru) وتعني (ملك) والتي تطابق كلمة شاه بقلب حرف (ر) إلى (هـ) وتعني ملك، وشاهنشاه بمعنى ملك الملوك)، كما دخل اسمه في الأغاني فاذكر مع بداية عقد الستينات من القرن الماضي خلال حكم الرئيس عبد الكريم قاسم جاء مغني تركي وغنى في بغداد اغنية (عبد الكريم اصلادم Aslan) واصلانم أو اصلادم بالتركية تعنى أسد، أما في اوربا وتحديدا في العصور الوسطى فقد حمل ريتشارد الاول (Richard) ملك انكلترا لقب (ريتشارد قلب الأسد)( -11571199) ميلادي، وشارك ريتشارد في الحروب الصليبية التي درات رحاها في فلسطين واعتبر أول ملك إنجليزي وضع شعار على معطفه يمثل ثلاثة أسود، وقد استخدمت صورة الأسد كشعار منذ ذلك الحين ليس فقط في إنكلترا انما في اوربا ايضا. 

نجد في بلاد ما الرافدين قديما العديد من استعارات أخذت عن الأسد وطبقت على الملك كما في النصوص السومرية والأكادية وكذلك نجدها في الأدلة الفنية، مع ملاحظة لابد من الإشارة لها فلا نجد وصف (الأسد) كملك لا في الأدب السومري ولا الأكادي فقط (الملك) يحمل وصف الأسد، وأقدم نقش رائع هي لوحة من الحجر الاوبسيدين تتناول صيد الأسود(Lion-Hunt Stele) تعود إلى أواخر دور أوروك (Uruk) (الوركاء في محافظة المثنى) (3500) ق.م، حيث يظهر رجل ملتحي يرتدي تنورة تصل إلى الركبة وحزام حول وسطه، ويضع على راسه عمامة (agulum) وهي طاقية (عرقجين) سميكة والقماش يلف عليها عدة مرات، ويعتقد الباحث (Leo Oppenheim) بان هذا النوع من العمامة لها طابع ديني يرتديها الملوك، ولا زالت هذه العمامة متداولة بين الرجال الكبار في السن في المناطق الشعبية في بغداد، وتظهر خلف العمامة خصلة من الشعر على هيئة كعكه (الشكل 1).

                                    

شكل 1: صيد الأسود من عصر الوركاء
نقش على اللوحة الحجرية عملية صيد الأسود بالرمح تارة وبالقوس والنبال تارة أخرى، وفي فترات لاحقة أصبح صيد الأسد يرتبط حصريا بشخص الملك، وفي لوحة أخرى نجد نفس شكل الانسان وتعرف باسم لوحة بلاو (ما يسمى بآثار بلاو) (شكل 2)، والتي يرجع تاريخها أيضا إلى أواخر دور أوروك، وعادة تفسر شخصية الرجل الملتحي الذي يرتدي التنورة على أنه (حاكم)، ويمكن أن نفترض أن الرجل الذي يقتل الأسود يؤدي عمل مهم في المجتمع، فهو يعمل جاهدا على إبادة الحيوانات المفترسة لغرض التمهيد في إصلاح الأرض وتهيئتها للزراعة والاستيطان.

   

شكل 2 و 3: آثار بلاو (Blau Monuments) من حجر الشيست موجود حاليا في المتحف البريطاني ويعتقد انها شكلا من أشكال كودورو القديمة، اكتشفت بالقرب من موقع اوروك عام 1886(اليمين)، رأس الصولجان للملك مسيليم (اليسار)
كما نلاحظ وجود ارتباط الأسد بمفهوم الملكية وبالصولجان، وهو أحد سمات شارُ (šarru) (الملك) ففي اللغة البابلية (nám) تعني (السيد) أو (الحاكم) و (šita + giš) تمعنى (صولجان)، وقد يدل (الصولجان) على الملك، فقد اقترح الباحث (Lambert) بأن مصطلح (الحاكم) خلال دور جمدة تصر (Jemdet Nasr) (3200) ق.م ربما كانت (nám.giš.šita) تعني (سيد الصولجان)، وقد ارتبط الصولجان بالأسد لأن بعض رؤوس الصولجانات من الألفية الثالثة ق.م، زُخرفت بشكل الأسد، فعلى سبيل المثال نقش على رأس صولجان مسيلم (Mesalim) ملك كيش شكل أسد (الشكل 3) (عصر فجر السلالات السومرية)، كذلك رأس صولجان جوديا (Gudea) أمير لگش (2143-2124) ق.م نقش عليه رأس أسد، ونقش على الصولجان الملكي في أسطورة نينورتا (Ninuta) عبارة تصف الإله نفسه وأن الصولجان مناسب للملكية الإلهية: (أنا الصولجان الذي يدمر (الجبال)، وتعلو بالملكية إلى القمة)
بالإضافة إلى الصولجان، تم تزيين رأس رمح من البرونز عثر عليه في موقع جرسو (Girsu) (25 كلم شمال غرب لگش) على شكل أسد (الشكل 4)، وفوق شكل الأسد يوجد نقش يقرأ: لوكال ... ملك كيش (Lugal .... king of Kiš) (الشكل 5).

         


شكل 4 و 5: رأس رمح من البرونز (اليمين)، نقش على راس رمح (اليسار)
كتب اسم الأسد بالنصوص السومرية اورماخ ( ur.maḫ) بمعنى(كلب ضخم) و يقابله بالأكدية (pirig / pirig) أو لبو أو نيشو (Labbu / nēšu)، وقد اقترح أن تعدد اسم الأسد قد يمثل أنواعا مختلفة من الأسود، ولكن لا يوجد دليل أثري يدعم هذا الرأي، ويتجلى الارتباط بين الأسد والملكية بالعبارات التالية التي استخدمت من عصر فجر السلالات الاول وإلى فترة سلالة أور الثالثة:
Lugal-pirig "الملك [الأسد]"
Šarru laba "الملك الأسد"
Lugal-pirig-bànda "الملك أسد شرس”
Šulgi-pirig " شولكي [هو] الأسد"
على الرغم من أن (الأسد) نفسه لا يوصف اطلاقا باسم (الملك) في نصوص بلاد الرافدين، إلا أن (الملك) يوصف كثيرا بـ (الأسد)، سواء عن طريق الاستعارات أو التشبيهات، على سبيل المثال، في فترة أور الثالثة، يُقارن الملك شولكي (Šulgi) (2094-2047) ق.م نفسه بـ (الأسد): (الأسد لا تضعف قوته، فهو دائم القوة)، و (الأسد ذو فم واسع مفتوح)، و (قوة الأسد الهائج)، و (أسد بعيون رهيبة)، و (أسد ذو مخالب بارزة)، ووصف حمورابي (Hammurabi) (1793-1751) ق.م بأنه (أسد شرس) (pirig.bànda) ، واطلق لبت-عشتار (Lipit-lštar ) (1935-1924) ق.م ملك سلالة ايسن على نفسه وصف (الأسد العظيم ليس له منافس)، اما النصوص الاشورية فقد وصفت أدد-نيراري الثاني بعبارة (أنا أسد) (la-ab-ba-ku)، كذلك آشورناصربال الثاني (Aššurnasirpal) (883–859) ق.م بـ(أنا أسد) ، وايضا اسرحدون (Esarhaddon) (680-669) ق.م وصف نفسه بأنه (الأسد الشرس) (lab-bu na-ad-ru) .
بالعودة إلى إحدى تراتيل شولكي، نقرأ كما يلي: (أنا الملك، أنا الثور البري القوي العظيم، أنا الأسد ذو الفم الواسع)
ربما صورة الأسد ترعب المشاهد بالأنياب الطويلة الحادة التي تعض وتحرم الآخرين من الحياة، وقد يثير مشهد (الفم الواسع) بـ (زئير) الأسد، الذي يلهم الرعب والخوف، وفي كلتا الحالتين، يؤدي الخوف إلى الموت وهذا امر شائع، واستخدمت استعارة أخرى في النقوش الملكية لـ شولكي: (أسد ذو مخلب بارز) (pirig šu.zi.ga)، وهي تشبه تعبير (أسد ذو فم واسع) (pirig ka.duḫ.ḫa) .
في اللغة السومرية تستخدم كلمة خوش (ušḫ) وتعني(الرعب) والمعنى الأصلي لـ( ḫuš) هو (اللون المحمر)، أي لون القرميد، لذلك يفترض أن (ḫuš) لها ارتباط بشيء مضيء لا سيما (النار) لأنها ذات لون أصفر محمر، ومثل هذه الظاهرة نجدها في (عيون القط) وكل الحيوانات السنورية: عيونها تتوهج عند انعكاس الضوء في الظلام، واغلب الحيوانات السنورية هي ليلية وغالبية صيدها يكون في الليل، وذلك باستخدام رؤيتهم ليلية، وعند مواجهة مثل هذه العيون الوامضة في الليل تولد الخوف فورا في العقل البشري، لأنه يتعرض لخطر الهجوم، وفي هذه الحالة يكون الانسان في وضع لا يحسد عليه، ولهذا استعيرت العبارة (الأسد ذو العينين المرعبتين) كما وصف الملك بأنه (بطل ذو العيون المضيئة) (ur.sag igi.kù.ga) ، أما الملك لبت-عشتار فوصف نفسه في النص (الأسد القوي لا منافس له) (pirig.zà.dib gaba.ri nu.tukn) ، وفي واحدة من تراتيل شولكي نجد ذكر للأسد: أنا الملك، أنا الثور الوحشي القوي العظيم، أنا الأسد (pirig) بفم مفتوح واسع، أنا شولكي، أنا الثور البري القوي العظيم، أنا الأسد (pirig) بفم مفتوح واسع، مثل العاصفة المدوية في السماء، أنا أشيع الخوف من بعيد، كراع مخلص ينشر العدالة، بالسوط والقصبة أنا ضد الشر، قوتي مثل قوة الأسد الهائج (á pirig .ug) في المعركة، ليس لدي منافس، أنا عادل، أسد بمخلب بارز (pirig šu.zi.ga) أسلحة من [...]، أنا أحمل الصولجان اللازورد والفأس، قبضة أصابعي قادرة بان تقطع العقد والاربطة مثل السكين الحاد في وسط المعركة، أنا اسير بلا خوف.
وهكذا استخدم تعابير (الثور البري)، و(الأسد)، و (العاصفة)، وكلها (قوة غير عادية)، كذلك النصوص الاشورية تصف آشورناصربال الثاني باعتباره (أسد) كما في النص التالي: (في ذلك الوقت، أصبحت سيادتي، وسيطرتي و(قوتي) عظيمة، بقيادة الآلهة العظيمة، أنا الملك، أنا السيد، أنا جديرة بالثناء، أنا العالي (يقصد شديد الباس)، انا عظيم الشأن، أنا الرائع، أنا الأول، انا البطل، أنا المحارب، أنا الأسد، أنا الشجاع)، وفي نص للملك اسرحدون وصف بأنه (أسد هائج) (labbu nadru). نقرأ كالتالي: (لا أرحم، أنا المحارب، الذي أخضع الناس العنيدين، وألبسهم ثياب فخمة، لا خوف في المعركة، أنا المحارب الشجاع لا أرحم في المعركة، الأمير القوي العظيم الذي أمسك بزمام الحكام (الأجانب)، أنا الأسد الهائج المنتقم لوالده).
يتحدث اسرحدون بانه بلا رحمة وشجاع في المعركة، فهو (المحارب الشجاع) و (الأمير القوي العظيم)، يسعى جاهدا بان ينتقم لمقتل والده سنحاريب الذي اغتيل في مؤامرة من قبل مجموعة من الامراء والمتعاونين معهم وشارك فيها أحد أبنائه، وانه بلا رحمة ضد القتلة الذين حاولوا اغتصاب العرش، فقدم صورة أخرى لشخصيته: (الذي أخضع عدوه، الذي قهر خصومه، عندما يسير الملك كالطوفان وأفعاله أسد هائج، قبل أن يأتي (أمام) المدينة، وبعد مغادرته (تصبح) المدينة تل من الخراب)، كما وصف اسرحدون جده سرجون الثاني ملك آشور بانه (أسد هائج) فقال : (عندما غضب قلب (سرجون)، حرك جيوش آشور ومثل الأسد الهائج، انطلق لغزو تلك الأراضي)، أنا اسرحدون أصبحت غاضبا مثل الأسد، وأصبحت هائجا).
يتم التعبير عن القسوة بكلمة باندا (bán.da) باللغة السومرية ولدينا اسم ملك من السلالة الأولى السومرية لوكال-باندا (lugal.bàn.da) ارتبط اسمه بـ(الملك الشرس)، كما وصف حمورابي نفسه في نص ثنائي اللغة (سومري-أكدي) بأنه (الذي يكون شرس ومتفوق)، وأيضا كل من ادد-نيراري الاول (Adad-nirari) (1307-1275) ق.م، وتوكلتي-ننورتا الاول (Tukulti-Ninurta) (1244-1208) ق.م، وشلمانصر الثاني (1274- 1245) ق. م جميعهم يحملون نفس الوصف (الشرس)، بينما وصف شلمانصر الثالث (824–859) ق. م نفسه (الملك الشرس والقاسي).
على صعيد صيد الأسود التي لا اعتبرها رياضة انما تدريب عسكري يختبر الملك قوته وصلابته أمام اشرس حيون على الأرض، فقد قتل تجلاتبليزر الأول (Tiglath-pileser) (1115-1076) ق.م الأسود واصفا نفسه (الشرس)، كما قتل شمشي-ادد الخامس ((Samsi-Adad (823-811) ق.م (ثلاثة أسود شرسة)، وعبر سرجون الثاني (Sargon) (721-705) ق.م رحلة صيد الأسود بـ(البطولة الشرسة) quiādija ekdūte)).

  

شكل 6 و 7: طبعة ختم ملكي اشوري (اليمين)، طبعة ختم ملكي اشوري (اليسار)
في الاختام المنبسطة الاشورية الملكية يظهر الملك الملتحي يمد ذراعه اليسرى فوق رأس الأسد الذي يقف أمامه (الأشكال 6 و 7)، بينما يحمل الملك في يده اليمنى خنجرا يطعن صدر الأسد وهو في حالة هيجان، وقد رفع الأسد ساقه الأمامية اليمنى وراء رأسه على استعداد للضرب، والساق اليسرى قريبة من الفخذ الايمن الملك، والفم مفتوح على مصراعيه، الشكل الاخر مختلف الأسد بمفرده (الشكل 8).

    

شكل 8: طبعة ختم ملكي آشوري
(فم مفتوح على مصراعيه) (pirig ka.duḫ.ḫa)، رافعا الساق الامامية اليمنى (مع مخلب بارز) (pirig šu.zi.ga)
هناك ايضا ثلاثة أزواج من الآجر المزجج عثر عليهم في خرسباد، خارج معبد الإله سين، يظهر الإله شماش والإله نابو وشخصية الملك، يليها أسد، وطائر، وثور، وشجرة تين، ومحراث، وإنسان يحمل رمحا (شكل 9).

    

شكل 9: أسد، طير، ثور، شجرة، محراث على آجر مزجج من خرسباد
يتم تفسير هذه الأشكال على أنها (سرجون، الملك العظيم، ملك بلاد آشور)، يُعتقد أن شخصية الأسد تمثل (الملك) LUGAL/šarru وباقي الاشكال تحمل صفات يملكها سرجون حتما مثل (عيون الصقر)، و (قوة وخصوبة الثور)...الخ وسبق وان نقشت هذه الاشكال على أواني من الحجر والزجاج تحمل اسم سرجون الاشوري ملك الجهات الأربعة .

    

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4800 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع