ضرغام الدباغ
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 174
التاريخ : / 2019
الرائد البحري فيرنر هينكه
خلال تصفحك للتاريخ العسكري الألماني / البحرية العسكرية، تلاحظ بسهولة من بين أبطال كثيرون، أسم لضابط بحري لامع، (فيرنر هينكه / Werner Henke) كان يعمل في البحرية التجارية (المدنية) لكنه تطوع للعمل في البحرية الحربية عندما شعر بأن بلاده بحاجة له أكثر في المجال الحربي، فتطوع للبحرية فعشق القتال في الغواصات وأبدع فيه وطور خطط تكتيكية وإستراتيجية في هذا المجال، وكان قائداً لامعاً لفت أنظار قادته وخصومه على السواء. وبسبب أن البحرية الألمانية لقيت في كل مرة حاولت فيها الابتعاد عن سواحل القارة الأوربية الهزيمة وخسرانا لأفضل وأقوى قطعها البحرية، وأشهر تلك القطع البحرية البارجة بسمارك درة البحرية الألمانية، والبارجة شارنهورست، والبارجة غنيزيناو، وغراف سبي، وغيرها، لذلك أتبع الألمان إستراتيجية لمواجهة التفوق البريطاني / الأمريكي البحري، تكثيف العمل في مجال بناء الغواصات وتشكيل وحدات كثيرة وأتباع تاكتيكات ذكية لإيقاع أكبر قدر من الخسائر على بريطانيا وبحريتها العسكرية والمدنية فأضحى الإبحار بالنسبة لبريطانيا ولحلفائها في أعالي البحار مجازفة محفوفة بالمخاطر.
وجد الضابط هينكة وبعد فترة قصيرة طريقه إلى سلاح الغواصات الذي كانت ألمانيا تركز عليه لسبب واضح، هو أن بريطانيا بوصفها الخصم العسكري لألمانيا والمنافس اللدود لها في البحر، كانت متفوقة في القدرات البحرية بدرجة حاسمة، أضافت إليها القدرات الأمريكية قوة فوق قواها، لذا أدرك الضابط الشاب هينكه أن مصير بلاده ألمانيا مرهونة بما يقدمه هو وأمثاله من قادة الغواصات من أعمال جسورة باهرة في مياه البحار والمحيطات، وعليه أن يضرب بلا هوادة، بلا توقف ولا استراحة، وبدون حساب للمخاطر التي قد تلحق به وبطاقم غواصته، فكان يظهر حيث لم يكن ذلك متوقعاً، ويضرب حين يكون ذلك مس من الجنون، وتصاب غواصته بجروح ثقيلة، ولكنه يعود ويهاجم حين يتوقع العدو أن الفرار يمثل مكسباً له، قادته اعتبروا أعماله باهرة ولكنها جنونية، وجنوده كانوا يرون فيه المقاتل الذي لا يعرف الهدنة، والاستراحة في القواعد الآمنة بالنسبة للضابط هينكة كانت مجرد إعادة تموين بالوقود والغذاء والعتاد، وملئ البطاريات التي لها أهمية حاسمة في عمل الغواصات، وإصلاح ما لحقت به خلال المعارك من إصابات بجسم غواصته.
قرأت الكثير عن أعمال هذا الضابط الشجاع الذي أفتدى بلاده ألمانيا بكل ما أوتي طيلة حياته القصيرة(35 عاماً) فمنحها حلمه وأمنياته، وأمله بالسلام الآمن فامتزجت طموحاته كفرد بمستقبل وأمن وسعادة وطنه، وعندما أنظم إلى " قطيع الذئاب " ( هكذا كانوا يطلقون التسمية على الغواصات الألمانية التي تعمل بعيدة عن قواعد الوطن، وكان هؤلاء الضباط الشبان يدركون طبيعة مهمتهم، ويعلمون أن إقامة التعادل أو التفوق في البحر سيأتي فقط من خلال عملهم وتضحياتهم، وحقاً اكتسبوا طبيعة الذئب الشجاع الشرس الذي يواجه بنادق صياديه دون خوف أو وجل، وحين تصيبه رصاصة الصياد لا يهرب بل يواصل اندفاعه، يعض على جرحه، ويقاتل حتى النفس الأخير .... كنت أشعر بأحاسيس هذا الضابط الشريف الذي وضع لنفسه قاعدة " الوطن أو الموت " وأتفهم قراراته الجسورة التي كان يرى فيها قادته تهوراً، وجنوده من طاقم غواصته انتحاراً ... ولكنه يمضي بلا هوادة غير مبال لشيئ سوى الواجب المكلف به من قيادته، تدمير العدو .. ليكون مساهماً في تحقيق النصر.
ولد هذا البطل في 23 / أيار / 1909 في قرية تدعى روداك هي اليوم ضمن الأراضي البولونية، ثم انتقلت عائلته إلى منطقة تسيلة ضمن ولاية هانوفر، التحق في مطلع حياته بالبحرية التجارية (المدنية)، ثم أنتقل للعمل في البحرية الحربية الألمانية (Reichsmarirne) منذ 8/ نيسان / 1934، وبعد فترة تأهيله كضابط في القوات البحرية، نسب إلى نسب للعمل في البارجة أدميرال شير، ومن آذار 1939 إلى آذار 1940، عمل على القطعة الحربية شليزفيغ هولشتاين، حيث شارك للمرة الأولى بمعركة بحرية في معركة فيستربلات، بعدها تخصص كضابط في سلاح الغواصات.
في 15 / تشرين الثاني / 1940 صعد الملازم الأول فيرنر هينكه لأول مرة على متن الغواصة (U 124) ، كضابط ثاني التي كانت بقيادة الرائد البحري فيلهام شولتس، وبعد أداؤه لمهمتين حربيتين، عين كضابط أول على نفس الغواصة. وشارم بعمليتان بأمرة الرائد يوهان مور. وفي تشرين الثاني 1941 رشح هينكه لدورة قادة غواصات في قاعدة ميمل (Memel)، وبعد وقت قصير تولى قيادة مجموعة تعليمية تختص بسلاح الطوربيد، في قاعدة غوتنهافن (Gotwnhafen)، وفي كانون الثاني من عام 1942 تولى للمرة الأولى قيادة الغواصة (U515) وفي 21 / شباط من نفس العام أبتدأ بالخدمة فعلاً كقائد لهذه الغواصة.(1)
الصورة نموذج للغواصة 515
تسلم النقيب البحري فيرنز هينكه قيادة الغواصة (U515) للفترة من 12 / آب / 1942 إلى 9 / نيسان / 1944 وقام ب6 طلعات (رحلات) حربية تمكن خلالها من إغراق 25 سفينة معادية إجمالي حمولتها 155,000 طن، كان من بين هذه السفن الغارقة عدد من المدمرات، وأصاب بأضرار عدد آخر من المدمرات، وبهذه النتائج أعتبر من أكثر قادة الغواصات تسجيلاً للنتائج في الحرب العالمية الثانية نال بموجبها وسام فارس الصبيب الحديدي مع اوراق البلوط، وأوسمة أخرى.
في طلعته (رحلته) الثانية بالغواصة (U515) تمكن في 7 / كانون الأول / 1942 من إغراق سفينة الركاب البريطانية كيراميك (Ceramic) التي كانت تبحر غربي جزر الأزور، وهذا الإغراق مثل أمراً حاسماً في حياة الضابط هينكة. (2)
كان هناك 656 شخصاً على متن الباخرة البريطانية الغارقة، ووجهت إليه السلطات البريطانية (وكانت هذه التهم قد نالت تأييد سلطات الولايات المتحدة) تهمة جرائم الحرب بأنه أطلق النار على الناجين من السفينة الغارقة، وفي الواقع لم يكن هناك ناجين من السفينة سوى رجل واحد، وقد تم إخلاؤه إلى متن الغواصة، ومنه علم وجهة وهدف رحلة السفينة والقوات التي على متنها وآخرين قضوا نحبهم في أمواج المحيط .
وفي 9 / نيسان / 1944 كانت الغواصة تبحر في المحيط الأطلسي شمال جزيرة مادايرا Madeira (جزيرة تابعة للبرتغال تبعد 951 كم عن لشبونة، و737 كم عن السواحل المغربية) أكتشف وجودها من قبل وحدة مطاردة أمريكية بقيادة الرائد دانيال فينسنت غاليري. والطائرات التي أقلعت من على متن حاملة الطائرات الأمريكية غوادالقنال (Guadalcanal) وترافقها أربعة مدمرات وبدأت بمهاجمتها بقنابل الأعماق، مما اضطرها لأن تطفو وهي مصابة بشدة، وهكذا تم أسر الرائد البحري هينيكة مع 43 من رجاله فيما لقى 16 من الطاقم مصرعه.
الصورة : الغواصة 515 تحترق وتغرق في مياه المحيط الأطلسي
وكان هينكة على ثقة بأن الإنكليز سيعملون على تقديمه أمام محكمة حرب، لذلك عمل بكل وسيلة إن يمضي للأسر في الولايات المتحدة، وبدأ بشرح أحداث إغراق الباخرة البريطانية كيراميك والاحداث التي رافقتها، أمام المحققين من الضباط الأمريكيين، وكان الضابط الأمريكي الذي أسره غاليري، يضغط بالمقابل من أجل الحصول على معلومات سرية، وضغط على هينكة من اجل أن يوقع على إيضاح بأن يقبل التعاون مع الأمريكيين، وبعكسه فإنه سوف يسفر ويسلم للإنكليز، والتهديد كان خديعة من أجل حمله على التعاون مع السلطات الأمريكية.
وبعد وصوله إلى الولايات المتحدة اقتيد النقيب فيرنر هينكة إلى مركز استجواب الأسرى في فورت هنت / فرجينيا (Fort Hunt / Verginia) حيث كان يجري استجوابه ولأكثر من مرة يومياً بدون نجاح، وإيضاحاته تم أنتزاعها منه تحت الإرغام. وبناء على ذلك قرر الأمريكيون تسفيره إلى كندا حيث سيكون تحت إمرة الإنكليز هناك. وكان النقيب فيرنر هينكة واثقاً بأن الإنكليز سيقدمون لمحاكمة عسكرية ويحكمون عليه بالإعدام.
وفي مساء يوم 15 / حزيران / 1944 وقبل يوم واحد من موعد تسفيره إلى كندا، قام بتسلق السلك الذي يحيط بالمعسكر كسياج، ولم يمتثل للأمر الصادر إليه من قبل الحراس فقم جندي أمريكي من حراس المعتقل بالإطلاق النار عليه، ثم نقل إلى مستشفى، الذي لم يفعل شيئ سوى تأكيد وفاته، وجرى تثبيت الواقعة في تقرير إلى السفارة السويسرية، وفيه أن الحراس قاموا بتنبيهه وإنذاره وتصرفوا حسب التعليمات. وأن هينكة كان بنفسه يبحث عن الموت ووجده بهذه الوسيلة.
دفن هينكه الذي رقي بعد وفاته إلى رتبة رائد بحري بتاريخ 18 / آذار / 1945. في مقابر الحرب في معسكر فورت جورج ميادا بمريلاند (Fort George G. Meade / Marzland) ورقي إلى الرتبة التي يستحقها بعد وفاته ولكن أسمه سجل كأعظم قائد غواصات في التاريخ.
الصورة : ضابط من الجيش ومن البحرية الأمريكية يؤدون التحية لقبر الرائد فيرنر هينكة
هوامش
1. لاحظ رجاء أن بعض أسماء هذه القواعد تغيرت الآن، لأنها أصبحت ضمن الأراضي البولونية أو الليتوانية / المترجم.
2. كانت الخسارة فادحة بالنسبة للإنكليز والأمريكان، ، وكانت تحمل جنوداً على الأرجح، لذلك قرروا الانتقام من هينيكه وغاراته الجسورة.
1003 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع