د.رعد البيدر
الاجتياح العراقي للكويت ... لُعبةٌ غَربية و بيادق عَرَّبية / 5
مارثون الأزمة بين ... الاتفاق و التنَصُل .
في مقالتنا السابقة تطرقنا إلى اجتماع وزراء النفط في جدة يوم 10 حزيران / يونيو 1990 وما حصل فيه من إخبار لوزير النفط العراقي بأن ذلك الاجتماع يُعتَبَرُ بديلاً عن قمة دول الخليج النفطية المزمع عقدها . إلى هنا و تاريخ الاجتماع و ما يُفهم عَمَّا دارَ فيه - يمثل نشر مصدر متعاطف مع طرف من طرفي الأزمة .
للوقوف على الحقيقة التي يعلمها أكثر المُعايشين لها ؛ استوضحنا رأي السيد وزير النفط العراقي الأسبق الأستاذ عصام الچلبي ؛ فزودنا بمعلومات " وثائق خطية و صور " منشورة بوضوح لا يقبل تفسيرين في كتابه الموسوم " خمسون عاماً في عالم النفط " .
أتضَحَ منها بأن الحقيقة لا تتشابه مع أشار إليه المصدر المُتعاطف .
نُطلِعُ القارئ على مقتبسات مما تضمنه كتاب وزير النفط العراقي ، نُشير لها ( بتصرف ) لغرض الاختصار ؛ دون ان نغيِّر شيئاً في المعنى .
شملت جولة الدكتور سعدون حمادي مبعوث الرئيس صدام في نهاية حزيران / يونيو 1990 اربع دول خليجية و ليس ثلاث دول . كان من ضمن مهمة المبعوث الرئاسي -الدعوة و التنسيق لعقد قمة الخليج النفطية . لم يُحسم آمر القمة المُرتقبة بين الملك فهد و المبعوث الرئاسي العراقي – وفق ما أشار لها المصدر الذي عرضنا رأيه ، وإنما جاء لاحقاً ، بموجب ما أوضَحَهَ السيد عصام الچلبي في كتابه – مُشيراً إلى ما يلي :
لم يحصل أي تطور في الموقف النفطي بعد قمة بغداد ، و استمرت اسعار النفط ضمن معدلاتها (12) دولاراً للبرميل . تجاوباً مع زيارة الدكتور سعدون حمادي للسعودية ، وما جرى فيها من تباحُث مع الملك فهد ؛ ففي أوائل تموز / يوليو 1990 تلقى وزير النفط العراقي اتصالاً من وزير النفط السعودي السيد هشام ناظر؛ أخبره برغبته لزيارة بغداد حاملاً جواب ملك السعودية إلى الرئيس العراقي حول قمة الدول النفطية المُرتقبة .
تَكَفَلَ وزير النفط العراقي بإخبار رئاسة الجمهورية ؛ فحددَت له موعد المقابلة ، أبلَغَ به الوزير السعودي ... ثُم استقبله و صاحبه لمقابلة رئيس الجمهورية يوم 7 تموز / يوليو.
وافق الرئيس العراقي على العَرض السعودي باستعاضة اجتماع وزراء النفط بدلاً من القمة كونها انتهت قبل ما يزيد عن الشهر بأيامٍ قليلة ، وقال للوزير الضيف بالحرف الواحد:
(( ما تتفق عليه أنت و أخوك عصام ... أنا موافق عليه )) .
عاد الوزير السعودي بعد انتهاء المقابلة و أتصل بوزير النفط العراقي ليخبره بأنه قد تم التنسيق مع بقية المدعوين ، و حَددَ له مكان الاجتماع في جدة ، و تاريخه يوم 10 تموز / يوليو 1990 .
يتضح أن المصدر المُتعاطف قد أشار إلى تاريخ (مخطوء) و خبر ( مُلَّفَق ) أُبلغَ به وزير النفط العراقي . أن تقديم تاريخ الاجتماع لمدة شهر في ظروفٍ تتنامى فيها أزمة بين بلدين بشكل متسارع ؛ يُربك ترابط الاحداث لدى المتلقي . وهو تقصير من المصدر الناشر في حالتيه : إن كان سهواً ، أو قصداً . اخطاء كهذه ( تُسقِطُ الموثوقية ) بالمصدر قَبلَ أن تُضعِفها .
قُبيل الموعد المتفق عليه سافر وزير النفط العراقي ، وحضر اجتماع جدة بحضور الوزراء الأربعة ( هشام ناظر – السعودية , مانع سعيد العتيبة – الإمارات , وزير الداخلية القطري عبد الله آل ثاني "أبن أمير قطر" , سعيد العميري – وزيز النفط الكويتي الذي تم تعينه قبل أيام قليلة من موعد الاجتماع - بدلاً عن الوزير السابق علي الخليفة الصباح ) .
شخَّصَ الوزير العراقي أن الوزراء الخليجيين قد عقدوا اجتماعاً فيما بينهم قبل الاجتماع الذي حضره بوقته المُحدد ، وقد بَنى السيد الچلبي تشخيصه ؛ على تخويل الوزراء الحضور لوزير النفط السعودي بالتَحَدُث نيابة عنهم جميعاً في بداية الاجتماع .
كان لوزير النفط العراقي حُضوراً و تأثيراً خلال فترة الاجتماع الذي استغرق ساعتين ؛ إذ حَفَّزَ الوزراء الحضور لقبول الاتفاق على رفع سعر النفط إلى ما لا يقل عن ( 18) دولار للبرميل قبل أن يحين موعد اجتماع الأوبك القادم يوم 25 من نفس الشهر . لكن حَصَلَ موقفان سلبيان سريعان قبل وصول الوزير العراقي إلى بغداد ، تسَبَبا بعرقلة تطبيق الاتفاق - هما :
الأول - اقترحت إيران رفع سعر النفط إلى (35) بدلاً من (25) دولار للبرميل وفق ما اتفق عليه الوزراء الخمسة المجتمعون في جدة ؛ و تسَرَّعَ وزير الإعلام العراقي فأيَّدَ الاقتراح الإيراني . كان المفترض من وزير الإعلام العراقي التأني لحين وصول وزير النفط العراقي إلى بغداد ، و الاستئناس برأيه الاختصاصي ... ثُم التأييد أو عدم التصريح ؛ ما لم يكن قد صَرَّح بتوجيه من مستوى أعلى – دون الانتظار .
الثاني - تصريح وزير النفط الكويتي بعدم استعداد بلاده لتخفيض حصتها من الانتاج .
السؤال الذي يطرح نفسه .. كيف سيتحقق الاتفاق برفع سعر برميل النفط دون مراعاة ابسط الضوابط الاقتصادية التي تتحكم بالسعر ( المعروض و المطلوب النفطي ) ؟
في أعراف العلاقات الدولية أن حضور مُمثل دولةٍ ما اجتماعاً أو مؤتمراً دولياً ، و قبوله بصيغة اتفاق اجمعَت عليه آراء الحاضرين - يُلزم دولته بقبول الاتفاق ؛ ما لم يُبدِ تحفظاً على صيغة القرار عند التشاور و التوقيع عليه ...
فلماذا وافق وزير النفط الكويتي في جدة ... و صرَّحَ رافضاً من الكويت ؟!
عرضنا حالة محاولة جادة لإزالة عائق من عوائق تنامي الأزمة العراقية – الكويتية بجهد جماعي ، قوبِلَ بعرقلته من دولة - بدافع فردي ؛ إلا يثير الاستغراب و الريبة تمَلُص الكويت من اتفاقٍ وافقت عليه قبل ساعات ؟ ... مجرد سؤال لا ننتظر له جواباً .
يوم 18 تموز / يوليو 1990 ، أي بعد يوم واحد من القاء خطاب الرئيس صدام حسين مساء يوم 17 تموز / يوليو 1990 - توجَّهَ امير الكويت إلى المملكة العربية السعودية بزيارة خاطفة للتباحث مع الملك فهد – الذي عرض على أمير الكويت تولي الرياض مهمة الوساطة بين العراق والكويت ؛ درأً لسوء العواقب . وافق الأمير جابر على العرض السعودي ... وفق ما سيتضح لاحقاً.
عاد الأمير جابر عصر نفس اليوم الذي زار فيه السعودية ، وحال عودته اجتمعت الحكومية الكويتية - بحضور الأمير و الشيخ سعد العبد الله ولي العهد ؛ للاتفاق على صيغة مُقنعة بالرد على مذكرة وزير الخارجية العراقي طارق عزيز ، و التوصل إلى حلول للجانب الاقتصادي المتعلق بالأزمة منذ بدايتها ، أضافة إلى مناقشة الجانب العسكري – الذي أضحى من أهم الجوانب ... بعد أن بدأ احتمال بزوغهِ في أفُق الأزمة .
ذكَرَ السيد سليمان المطوع وزير التخطيط الكويتي بأن المذكرة العراقية التي قُدِمَت إلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية " ما هي إلا علامة ضُعف من السهل الرد عليها " .
بينما كان وزير الدفاع الكويتي - أعمَقُ تصوراً في تشخيص تسارع الواقع نحو احتمال استخدام القوة ، حيث قال " لا يكفي أن نرفض اتهامات العراق بقولنا إن العراقيين حشدوا قواتهم على الحدود ؛ فما ينبغي معرفته هو مدى جدية التهديد العراقي .... ليست المذكرة العراقية سوى البداية ؛ فالله وحده يعلم إلى أي حد سوف يذهبون ، أن مسألة أسعار النفط لا تخرج عن كونها حُجة ؛ فالواقع أن العراق هو الذئب ونحن الحمل " .
أما أمير الكويت الحالي الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء و وزير الخارجية آنذاك فقد قال : " إن العراق قد يُهاجم الكويت ، و إن الوضع على الحدود متفجر ، و إننا نُجري محادثات مُكَّثفة مع إخواننا في مجلس التعاون الخليجي " .
بينما كانت تصورات الشيخ سعد العبد الله ولي العهد التي أعلنها في الاجتماع " أن العراقيين لن يقوموا بعملية عسكرية واسعة النطاق ، و ستنحصر عملياتهم العسكرية في منطقة الحدود ما بين أم قصر العراقية و الرتقة الكويتية ".
قرر أمير الكويت خلال الاجتماع - إرسال طائرة خاصة إلى تونس لنقل الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى الكويت للاجتماع بزعمائها .
رغم حراجة الوضع الذي لا يَحتمِلُ تأجيلاً ، إلا أن المجتمعين لم يتخذوا قراراً بشأن الديون العراقية ، ولا بما يوضح الاستجابة لطلب العراق بمنح قرض بمبلغ (10) مليار دولار - الذي سَبَق أن أشرنا له في مقابلة سعدون حمادي مع أمير الكويت قبل أقل من شهر ... عندها كان من المحتمل أن تتنفس الأزمة بَدَل من أن تتضخم .
تحليل طروحات و مناقشات المجتمعين من الحكومة الكويتية تُظهرُ : عدم مُبالاة البعض بالمذكرة العراقية , الافتقار لدقة التصور , تجاهُل سِبق النظر , غياب التوقع الصائب ؛ الذي لم يُراعِ الربط بين تزامن و مضامين مذكرة وزير خارجية العراق و خطاب الرئيس العراقي قبل يوم من الاجتماع .
على الرغم من أفضلية تصورات وزير الدفاع الكويتي عن الآخرين ؛ لكنه لم يتخذ موقفاً مُتحسباَ للقيام بإجراء ضرورية - أهمها رفعُ درجة استعداد الجيش عن الحالة الاعتيادية ؛ كخطوة تمهيدية من مُتطلبات الإستحضارات لمجابهة ( تهديد محتمل ) وفقاً لتوقعه . أن عدم مراعاة دقة التوقع الذي اعتبرناه قصوراً في الإجراءات – هو من أبجديات إدارة الأزمات و وضع خطط معالجتها، وهو نفس المبدأ يُقاس التخطيط لعمليات عسكرية ( دفاعية أو تعَرُضية ) إذ يُفترضُ أن تُبنى على أسوأ الاحتمالات المُمكن حصولها ؛ و الشروع بتنفيذ الإجراءات الملائمة بالمعالجة . بذلك كل ما سوف يحصل يكون : أما مساوياً للتوقع ، أو أقل منه ؛ فأن كان مساوياً للتوقع (استُبعِدت المُفاجئة ) و إن كان أقل من التوقع ( صار ربحاً ) مُنصَّبَاً في إيجابية النتائج .
بالمقابل من التوقعات الكويتية في تلك المرحلة من الأزمة - أياً كان مدى صَوابِها أو خَطَئِها ؛ فقد أشار وزير النفط العراقي السيد عصام الچلبي في كتابه الذي سبق الإشارة إليه بشهادةٍ اعتبرها للتاريخ - بما معناه : رغم كثافة الاجتماعات و الاتصالات التي شَهِدَها شهر تموز / يوليو 1990 و لقاءاته المُتكررة بالرئيس العراقي ؛ فأنه لم يلمَس أية بادرة لنوايا فعل عسكري عراقي مُحتمل لحَسم نُقاط الخِلاف مع الكويت ، بَل إن كل المؤشرات التي استنتجها كانت سلمية النوايا .
لا بُدَ من الإشارة بأن العلاقات الدولية تتغير ما بين حالتي ( السلم ، الحرب ) . الأولى هي الحالة المفضلة و الطويلة ، أما الثانية فهي حالة وقتية ... تنتهي مهما طالت أمَدُها . و لابد أن يَمُر الانتقال من أحدى الحالتين إلى الأخرى بمرحلة التفاوض من خلال الجهد الدبلوماسي ، و قد تقترن معه وساطات لتذليل المصاعب . و حينَ يعجز الدبلوماسي عن أنهاء مُسببات النزاع من على طاولة التباحث و التفاوض ؛ فسَيقتَحِم الجندي إلى ميدان القتال مأموراً بإرادة سياسية، لكون الجيش ذراع القوة بتنفيذ القرار السياسي لأنظمة الحُكُم .
بتوقف النشاط الدبلوماسي و بدء فعاليات القتال باستخدام القوات البرية , الجوية , البحرية ، تُنطوي صفحة السلام و تُنفتَح صفحة الحرب بما تحمله من ويلات على الشعوب و الحكومات . عَرَّفَت المصادر العسكرية و مصادر العلاقات الدولية مصطلح الحرب بأنه :
" آخر وسيلة من وسائل فض النزاع " . لن نَسبِق عَرضَ الحقائق و لا النتائج ؛ لكن لنتسائل - هل استَنفَذَ طرفي الأزمة كُل وسائل المُعالجة و التفاهم و تغيير سقوف المطالب للقبول بمطالب وسطية على أقل تقدير – مما لا يضُر بالمصالح الوطنية لكلاهما ؟
أم أن التحَّكُم بمجريات اللعبة كان خارج ارادتيهما ؟ فانطفأ بَصيص نور الحِكمَة و فُقِدَ جميلُ الصبر ؛ فكانَ ما كان .
في نهاية المقالة السابقة أثرنا ثلاثة أسئلة، و وعدنا بالإجابة عنها في هذه المقالة ؛ إلا أن تصحيح ( مغالطات) ما يتعلق باجتماع جده لوزراء النفط يوم 10 تموز / يوليو 1990 ؛ ألزمنا بالإجابة عن بعضها و التلميح عن البعض الآخر؛ توخياً لعدم اتساع حجم المنشور .
سنبقى مُلتزمين بتوضيح الإجابة بتعاقب منطقي ، وفق السياق التاريخي مع تطورات الأزمة ، موعدنا المقالة السادسة .... بمشيئة الله .
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/maqalat/41343-2019-08-25-08-56-14.html
4784 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع