سمية العبيدي
قصص لليافعين - مركبة في الصيف منزل في الشتاء
عاش عجوزان على أطراف غابة محاذية لبركة ماء صغيرة ولمزارع جميلة تملأ النظر وتسر القلب . غدا جسداهما متهالكين , ولم يكن الزوجان قد أنجبا أطفالاً . غير إنهما اقتنعا بما قدر الله لهما ورضيا بذلك . لم يملك الزوجان من حطام الدنيا غير عربة قديمة مسقوفة لها جوانب من جلود الحيوانات يسدلانها في الشتاء اتقاءً من البرد , حتى البغل الذي يملكانه ويجر عربتهما هلك منذ زمن بعيد . فالعربة بيتهما ووسيلة عيشهما معاً . فهما يعيشان طوال العام بما تدر عليهما العربة في الصيف من مال قليل علماً إن متطلباتهما كانت بسيطة جداً فلا يحتاج كل منهما ولا يملك سوى ثوبين وحذاء واحد , أما مطبخهما فكان صحنين وقدر ومقلاة واحدة فقط وموقدهما الأرض والحطب وفراشهما مفارش وأغطية بسيطة وقديمة لكنهما كانا راضيين تماماً ولم يطمعا بأكثر من ذلك أبداً . وكانا يصطادان الطيور والأسماك لغذائهما كلما سنحت فرصة لذلك . في الصيف يجمعان الخضروات والفاكهة من بيوت الفلاحين - الذين لا يملكون عربات - كلما نضج بعضها فينقلانها الى السوق ويجرا العربة المتهالكة بجسديهما المتعبين , ثم يعودان الى الفلاحين بثمن ما باعا فيمنحهما الفلاحون نصيبهما شاكرين . ذلك لأن الفلاحين يعرفون أنهم لم يُغبنوا أو تُسرق بعض أثمان منتوجاتهم فالأمانة كانت شعار الزوجين العجوزين لا يحيدان عنها مطلقاً كأغلب أفراد القرية الآخرين .
كانت المرأة تطبخ على طرف الغابة في مستوقد من الحطب الذي يجمعه زوجها كل يوم . وفي أواخر الصيف تصنع المرأة نوعاً من الطعام الذي يصلح للخزن هو بين الخبز وبين " الكعك " وكانت تضعه في سلة ليأكلاه شتاء إذ لا يتسنى لها دائماً صنع الطعام بسبب البرد الشديد وكثرة الأمطار والعواصف . كما كانا يخزنان بعض الفاكهة كالتين والتمر والمشمش المجفف . ولم يكونا يحتاجان للكثير من الطعام لأنهما لا يعملان في الشتاء .
اشتدت العاصفة كثيراً فاعتصما بالعربة واستلقيا متدثرَين بما لديهما من أغطية ولم يتحركا - الا للضرورة - بل بقيا يصغيان لصوت العاصفة تهدر خارج العربة وفجأة إذا بشيء يرتطم بإحدى العجلات وسمعا ما يشبه الصرخة ومع سوء الجو أخرجت العجوز رأسها من جانب العربة لتر ما حدث فإذا بسنجاب يتلوى من الألم . نزلت من العربة لتحضره وتمسح دماءه ثم فتتت جانباً من كعكة كانت بيدها وبدأت بإطعامه منها حتى هدأ ونام فوضعته تحت الأغطية بينها وبين زوجها ليشعر بالدفء . ظل معهما بضعة أيام حتى شُفي فبدأ ينسل ويخرج ليلعب في جوانب العربة وكان العجوزان يطعمانه كلما أكلا . وفي صباحٍ كانت العاصفة لا تزال تهز العربة وتضرب جوانبها خرج السنجاب وركض الى شجرة واختفى في ثقب فيها . ظلا ينتظرانه لعله يعود غير إنهما شاهدا بعد برهة شاباً مبتلاً يستند الى الشجرة نفسها ثم أسرع الشاب الى العربة وسألهما المساعدة فطلبا منه أن يدخل الى العربة فوراً . صعد الفتى فإذا بالمرأة تلقي على رأسه بخرقة لتجفف شعره ثم أسرعت الى ثوب زوجها الجاف وطلبت منه أن يستبدل ملابسه المبللة ففعل الفتى شاكراً . ثم أخرجت له كعكة فأكلها وطلبت منه أن يلتحق بجانب زوجها تحت الغطاء فاذا بالفتى يغفو سريعاً . علقت المرأة ثياب الفتى حيث يمكن أن تجف ولو بعد حين . ظلت العاصفة تعصف أياماً ثم فترت أخيراً , وهنا خرج الفتى من العربة ومطّ جسده وتوجه الى الغابة , ثم عاد بعد فترة وقد امتلأت جيوبه بالجوز واللوز وضعها بين يدي العجوزين وبدأ يكسر كل حبة بصخرة ناولتها له العجوز فيضعها في يدي أحدهما حتى شبعا , وأخرج القشور ليرميها بعيداً عن العربة . وأخذ دلواً ملأه بماء بعد أن كسر طبقة من الثلج كانت تُغطي وجه البحيرة وجاءهما به ليشربا منه . ثم أخذ فأساً ومنشاراً يملكانهما بعد استئذانهما ومضى مختفياً في الغابة . استمر على ذلك يومياً وكان يعود قبيل المغرب بشيء من الجوز واللوز المقشرين فيضعها بين يدي العجوزين وربما بعض الفاكهة التي لم تكن بحالة جيدة لأنها متجعدة متغضنة الا انها لا زالت صالحة للأكل . لم يكونا يسألانه أين مضى وماذا فعل ولم يخبرهما هو بدوره بذلك . وفي نهاية أكثر من أسبوعين جاء الفتى مبكراً وبدأ يسحب العربة بهمة الفتى وساعديه القويين سحبها لمسافة قريبة وحين كفَّ عن ذلك مدَّ رأسه لداخل العربة المغطاة قائلاً انزلا قال ذلك وهو يمد إحدى يديه لمساعدتهما وبالأُخرى أخذ يزيح الغطاء الخلفي للعربة القديمة جانباً . نزلت المرأة بمواجهة كوخ جديد جميل سألت الفتى
: أبيتك هذا فأجابها
: بل بيتكما أنتما .
ساعدهما في النزول من العربة , ثم أدخلهما الى الكوخ الجديد الصغير . وبدأ بتفريغ العربة من كل ما فيها و نقله الى الكوخ الذي فيه موقد صغير جميل وكانت النار والدفء يشعان منه , وفوقه بمسافة معقولة علقت بالعرض عصا طويلة يمكن تجفيف الملابس فوقها . وفي الكوخ دكتان خشبيتان يمكن استعمالهما للجلوس أو للنوم . فرح العجوزان لكل ذلك فهما لم يمتلكا بيتاً أبداً وشكرا الفتى كثيراً طالبين منه البقاء معهما فأجابهما : نعم سأبقى لفترة قصيرة فقط . ومن فوره خرج ليصفَّ العربة الى جانب الكوخ ويبدأ بإصلاح بعض جوانبها المستهلكة فوراً . لم يمض الفتى الى سبيله كما توقع العجوزان بل بدأ ببناء سقيفة صغيرة - من جذوع الأشجار - الى جانب الكوخ جمع فيها كل ما تخلف من بقايا ما قطعه من جذوع الأشجار وفروعها لعمل الكوخ والسقيفة وكدّسه فيها ليجف لاستعمال الموقد . ويظهر إن بعض نشاط الفتى دب في المرأة أيضاً فأخذت تعمل داخل الكوخ الدافىء فتطبخ ويأكلون جميعاً بسرور ومتعة حتى زوجها العجوز سرى شيء من النشاط في بدنه فأخذ يجمع الحطب ويكدسه في السقيفة أيضاً , ويجمع بعض خيرات الغابة ليجلبها لزوجه مما سقط من الأشجار من جوز ولوز وبندق , فصنعت المرأة بضع سلال - من أغصان رفيعة لبعض النباتات - ووضعت فيها الطعام وخزنته تحت الدكتين لحين الاستعمال .
بعد أيام بعد أن استقر العجوزان في الكوخ وترتبت حياتهما بدأ الفتى في بناء كوخ آخر بجانبه . وقد ساعده العجوزان قدر ما يستطيعان وما هو الا وقت قصير إذا بكوخ جميل ينتصب بجانب كوخهما فأصبح الفتى جارهما . أخذ الفتى يقطع الأخشاب حتى إذا بلغت مقدار ملء عربة العجوزين وطاقتها مضى بها الى مدينة قريبة وبثمن ما يبيع يجلب بضعة أشياء كل مرة من ملابس جديدة الى أفرشة وفوانيس وحاجات منزلية ومطبخية عدة وخزين من طعام . وحتى قبل حلول الصيف أصبح الكوخان عامرين بمختلف الحاجات الضرورية . سأل الفتى العجوزين أيزعجهما أن يتزوج فقالا : على العكس يسرنا ذلك على أن تكون الزوجة في مثل خلقك وطيبة قلبك . وبعد بضعة أيام صار للعجوزين ابنة كما وهب الله لهما ابناً في أواخر عمريهما . عاشوا جميعاً في سعادة وهناء وفرحوا بالأحفاد الذين لم يتوقعوا ولم ينتظروا .
*****
قصص لليافعين - القرية العطشى والشجعان الثلاثة
كانت القرية تنام في حضن السهل الجميل لقرون عديدة . وكانت تسقي حقولها دائما من ماء المطر, وكذلك تشرب هي وحيواناتها الاليفة من البحيرة الصغيرة التي نمت القرية على ضفافها منذ زمن بعيد. وحتى حيوانات الغابة القريبة تستقي من البرك الصغيرة التي يخلفها المطر .
وفي تلك القرية الهادئة يعيش ثلاثة أصدقاء من الصبيان تعاهدوا أن يظلوا معا في السراء والضراء . فكان أحدهم يساعد الآخر في كل عمل يعرض لهم ولذا كانوا ينجزون أعمالهم بإتقان ودقة وسرعة أكثر من باقي صبيان القرية .
ذات سنة ... عزّ المطر وانقطع , وضحل ماء البحيرة واحتار أهل القرية بحقولهم إذ بدأ الاصفرار يغزوها. وحتى الورود في حدائقهم مالت رؤوسها الى جانب . وكانت الأُمهات تقتر في استعمالات الماء حتى إنهن بدأن بتقسيمه الى حصص معينة لا يشرب أي فرد في الأُسرة أكثر من حصته . وصار الماء وشحته حديث الساعة في تلك القرية الصامدة .
فكر الأصدقاء الثلاثة وكانت أعمارهم آنذاك في حدود العاشرة تزيد أو تنقص بضعة أشهر , فكروا في سبب شحّة المطر , نظروا الى السماء فوجدوا الكثير من الغيوم الكثيفة غير إنها لا يسقط منها ولا حبة واحدة من المطر الغالي .
أزمعوا ان يعرفوا السبب وان يجدوا حلاً لذلك الجدب . صعد كل منهم على كتفي الآخر ولكنهم لم يصلوا للغيمات طبعاً , ولم يعرفوا سبباً لانقطاع المطر . اتفقوا على أن يرتقوا الى مستوى الغيمة ليحاولوا إيجاد حل لانعدام المطر . فذهبوا في البداية الى رجال اطفاء الحرائق فوجدوهم بلا عمل فلا ماء لديهم ليطفئوا به أيّما حريق ولو كان صغيراً . وقد ملوا من ركودهم وان كان غير مقصود . طلب الأصدقاء السلم من رجال الإطفاء وفتحوه الى أقصى ما يمكن وتسلقوا عليه ولكنهم لم يصلوا للغيمات فهي عالية جداً . ولكنهم ظنوا انهم رأوا الغيمات كبيرها وصغيرها حبلى بالمطر وخيّل اليهم أنها أشبه ما تكون ببالونات مليئة بالماء .
فكروا كثيراً ثم قرروا صنع منطاد مسطح النهاية ليستطيعوا الوقوف على سطحه للتعامل مع الغيمات اذا ما وصلوا اليها . وهذا ما حصل فقد تعاونوا جميعا ليصنعوا منطاداً بلا قمة لا مدببة ولا حدباء لانهم أدركوا انهم لا يستطيعون أن يصعدوا الى سطحه ما لم يكن هكذا . وان هذا لن يحصل أيضاً ما لم يصنعوا سلالم لهذا الغرض .
ذهبوا أولاً الى الغابة واستأذنوا صانع السلال فيها أن يعلمهم صنع سلة ضخمة . وأطلعوه على غايتهم فقال لهم
: على الرحب والسعة . هيا بنا يا أولاد نصنع أكبر سلة رأيتموها , ساعدوني وتعلموا .
وحين كملت السلة رفعوها معاً وأخذوها الى القرية ثمّ ذهبوا الى صانع الحبال وسألوه بلطف أن يعلمهم أن يجدلوا من الحبال القوية عدة سلالم ليربطوها في أركان المنطاد العليا ويشدوا نهاياتها السائبة في السلة . ربطوا السلة الى المنطاد ورتبوا وضع الغاز في مكانه كما كل شيء . هذا وقد لبسوا على رؤوسهم قبعات مطرية . وقد حمل كل منهم في جيوبه حقيبة صغيرة مَلأها بعدة ابر من حجم كبير .
ودّعوا ذويهم واتكلوا على الله . أوقدوا شعلة المنطاد فارتفع بهم . وألقوا عدة أكياس من الرمل كانت داخل السلة , وهنا ارتفع المنطاد أكثر وأكثر .
كان أهل القرية يتجمهرون حول المنطاد ملوحين بمناديلهم البيضاء للصبيان الثلاثة الشجعان . أما الآن فصاروا على مبعدة من المنطاد اذ غدا يحلق فوقهم وظل الناس يصغرون ويصغرون حتى اختفوا .
ما لبث الأولاد إلا ساعة وإذا بالغيمات تقترب وتقترب وهنا مسك الأولاد السلالم التي صنعوها من الحبال وتسلقوا الى سطح المنطاد . حينها أصبحت الغيمات على ملمس منهم مغلفة بما يشبه - مادة النايلون - وهنا أخرج الأولاد إبرهم و بدأوا بطعن الغيمات واحدة اثر الاخرى في مواضع لا تعدُّ ولا تحصى وكلما طعنوها أكثر نزل منها الماء أكثر وأكثر . آنذاك عرفوا إن عملهم انتهى فنزلوا الى داخل السلة وخففوا ضخ الغاز تدريجياً وقد لاحظوا في طريق هبوطهم الأشجارَ مغسولة وبرك الغابة بدأت بالظهور من جديد . وحتى البحيرة عاد الماء الى الارتفاع فيها من جديد , وأخيرا وصلوا الى الأرض المبتلة وسط أهازيج الأهالي وترحيبهم الحار بالشجعان الذين أنقذوا القرية من الضياع عطشاً .
*****
سمية العبيدي
1193 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع