نصرت مردان
(كور شاكر)،تعني بالعربية (شاكر الضرير).
ومع ان الرجل لم يكن ضريرا و لامن يحزنون، ماعدا وجود ضعف في بصره إلا أنه كان يكني من قبل الجميع بشاكر الضرير.
كان شاكر رجلا عجوزا لا تغادر الابتسامة شفتيه. لم يكن له بيت ولا مأوي. كان يحل ضيفا علي هذا البيت أو ذاك حيث يبقي في هذا يومين وفي ذاك ثلاثة أيام يعامل خلالها وكأنه فرد من العائلة.
كان (كور شاكر) رجلا مرحا، يحفظ النكات ويجيد الحديث عن التاريخ القريب للعراق. إلا أن أكثر ما كان يجذبني إليه وأنا صبي هو حديثه بشغف عن الموسيقي العربية والمصرية منها بالتحديد. وكان بسبب إدمانه الاستماع للإذاعة المصرية وإذاعة (صوت العرب)، يجيد الحديث وهو الأمي عن المغنين والمطربين، حيث سمعت منه لأول مرة بأسماء :
لوردكاش،سيد درويش، الشيخ سلامة حجازي وشهرزاد والسيد الصفتي ومحمد القصبجي وزكريا احمد . لكن إلمامه بأعمال أم كلثوم كان استثنائيا، كان وهو الأمي والذي لا يجيد إلا القليل من العربية،يعرف اسم ملحن أي أغنية لكوكب الشرق أم كلثوم واسم مؤلفها.
كان يحمل معه دائما كمية معدودة (الليف) أو أي شيء آخر قابل للبيع .كما كانت بعض العوائل تتصدق عليه بمبلغ الزكاة. ولن أنسي بأنني اشتريت منه أول راديو ترانزستور في حياتي وأنا في المتوسطة بالأقساط وكان ثمنه بالتمام والكمال دينارين ونصف.. وكان ذلك في مرحلة بدء شيوع هذا النمط من أجهزة الراديو.
كانت نساء المحلة يحبن مجاذبته الحديث الذي لم يكن يخلو من إيماءاته الجنسية حول صاحبة الحديث وزوجها، ولم يكن واحدة منهن تستنكر حديثه بل كن يكركرن لإيماءاته مع التعليق من نوع (عابت وأخواتها)،والذي كان بمثابة تحفيز له بمواصلة الحديث في الموضوع ذاته.
كان شاكر مغرما بمتابعة حفلات برنامج (أضواء المدينة) فيروح في اليوم الثاني يحدثني عن الأغاني التي غنتها مها صبري أو سعاد محمد واستقبال الجمهور لعبدالحليم حافظ.
صورة لكوكب الشرق أم كلثوم في بيت جمال بابان من أعيان بغداد. الجالسون بجوار المضيف: رئيس الوزراء نوري السعيد على يساره، والوصي عبد الإله على يمينه
من طرائفه التي لن أنساها،حديثه لي عن زيارة أم كلثوم لبغداد في ثلاثينيات القرن الماضي،حيث أقام لها نوري السعيد حفلة خاصة شدت فيها ببعض أغانيها، في نهاية الحفلة يحاول نوري السعيد (كما يقول شاكر) بعد ان لعبت الخمرة برأسه، التحرش بكوكب الشرق الآنسة أم كلثوم. فما كان منها وهي الشريفة العفيفة إلا أن ترتجل أبياتا من الشعر كانت كافية لردع نوري باشا.. ولأن الصفة في اللغة التركمانية تخلو من التأنيث فان الأبيات شعر(الحلمنتيشي) المنقولة من شاكر كانت خالية منها أيضا.
قالت أم كلثوم في شعرها المرتجل للمرحوم نوري السعيد (حسب مارواه لي العم شاكر)، والذي لا يزال محفورا حتى الآن في ذاكرتي:
أنا مردا (شريفة)
مستورا (مستورة)
حرا (حرة)
أنا درا (درة)
أنا أختك!!
كانت العبارة الأخيرة التي توجتها أم كلثوم بـ (أنا أختك) بمثابة الضربة القاصمة التي أخمدت نار الشهوة التي اجتاحت نور ي السعيد فورا.. فما كان منه إلا أن اعتذر من أم كلثوم ولعن الشيطان ألف مرة بعد ان اكتشف إنها شريفة وعفيفة.
رحم الله (كور شاكر) ورحم الزمن الجميل،الذي لم يكن فيه للحقد والاحتقان والعصبية والعنصرية مكان في علاقات العراقيين،كما هو الآن.
781 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع