قصة من تاريخ بغداد: مذبحة المماليك

                                                          

                              قاسم محمد داود

    

قصة من تاريخ بغداد: مذبحة المماليك

بغداد في اليوم السادس والعشرين من شهر أيلول سنة 1831م، جنود عثمانيون من أصل الباني، يطلقون النار من بنادقهم نحو اشخاص كانوا قبل قليل ضيوفاً مكرمين، دخان البارود ورائحته يملأ المكان، الجثث التي لازالت تنزف الدم متناثرة في ارجاء المكان والدم يصبغ أرضية القاعة الكبيرة في السراي الحكومي، على مرأى من الوالي الذي كان واقفاً يشهد هذه المذبحة، التي كان أكثر ضحاياها من المماليك. فما هي القصة ومن هو هذا الوالي:

           

نعود الى اصل القصة التي تبدأ منذ تولي داود باشا الحكم في العراق في شباط سنة 1817م وهو آخر ولاة المماليك الذين حكموا العراق، والمملوك هو العبد ذو البشرة البيضاء الذي يباع ويشترى، وهم من أصول تركية وقوقازية ويتم تعليمهم وتدريبهم عسكرياً ليتخرجوا فرسان وقادة مؤهلين لرفد الجيش بخبراتهم، ولد داود في جورجيا سنة 1767م وكانت تسمى بلاد الكرج، وأختطف من أهله عندما كان في سن الثالثة عشرة وجيء به الى بغداد وعرض للبيع، فاشتراه أحد الأثرياء من وجهاءها وهو مصطفى بك الربيعي، وبدوره باعه الى ثري آخر، وصار بعدها ينتقل من شخص لأخر حتى انتهى به المطاف إلى الوالي (سليمان باشا الكبير)، وكان من المماليك أيضاً، ومن عتقاء محمد بك الدفتري، كان على البصرة ثم نقل والياً على بغداد عام 1780 وبقي في المنصب حتى وفاته عام 1802. وخضع داود للتعليم والتدريب اسوة بمجموعة المماليك في قصر الوالي، وتدرج في المناصب الإدارية بعد ان عرف بذكائه، ووصل الى منصب (المهر دار) أي حامل الختم، بعدها تزوج احدى بنات الوالي سليمان باشا. وبعد وفاة الوالي تمكن من الاستحواذ على الحكم عام 1817 بمساندة زوجته بعد صراع مرير مع خصومه ومنافسيه، انتهت بمقتل الوالي السابق سعيد باشا ابن الوالي سليمان باشا الكبير في حجرة نوم والدته نابي خانم من قبل سيد عليوي آغا الإنكشارية. واجهت داود باشا خلال سنين حكمه ثورات قامت بها العشائر العراقية المختلفة، إضافة الى دخوله في نزاع مع الدولة القاجارية في إيران وهم سلالة من الشاهات حكمت بلاد فارس من 1779الى 1925م وكانت عاصمتهم طهران، في فترات مختلفة من سنوات حكمه التي امتدت على مدار 14 عاماً. اهتم داود باشا بالجيش وأولاه عناية خاصة فأستقدم لذلك أحد ضباط الجيش الفرنسي إبان حكم نابليون بونابرت كان قد ترك فرنسا بعد سقوط بونابرت، وهو المسيو ديفو الذي كان يعمل على تدريب جيش والي كرمانشاه قبل استدعائه لتدريب الجيش في بغداد، وأشترى داود باشا مصنعاً للبنادق من أوروبا وجلب فنيين لأدارته، كما أسس مصنع منسوجات ليفي بحاجة الجيش من الملابس، ورصد مرتبات منتظمة للجنود لكي تغنيهم عن فرض الإتاوات على المواطنين، وأصدر أول صحيفة في بغداد باسم "جرنال العراق" وكانت تطبع في مطبعة حجرية باللغتين العربية والتركية وتوزع على قادة الجيش وكبار الموظفين وأعيان بغداد وتعلق نسخ منها على جدران السراي، وغيرها من الإصلاحات التي قام بها في العراق والتي تشبه إلى حدما ما قام به محمد علي باشا (1769 – 1849م) حاكم مصر. ويبدو ان داود باشا كان يفكر بالاستقلال عن الدولة العثمانية، وأن يؤسس ملكاً له ولأسرته كما فعل محمد علي. لكن هذا الأمر لم يحظى بقبول السلطان العثماني محمود الثاني (1785 – 1839)، وهو في سبيل إعادة هيبة الدولة العثمانية وإجراء الإصلاحات فيها بعد ان دب الفساد والضعف في اغلب مفاصلها، كما ان داود باشا أوقف دفعات المبالغ المرسلة الى إسطنبول من بغداد وكذلك امتناعه عن مساعدة السلطان في حربه ضد روسيا عام 1828م بعدما أعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية، وذلك دعماً للثورة اليونانية التي كانت قائمة آنذاك ضد الحكم العثماني، وقد طلب منه ان يرسل ما مقداره (6000) كيس من الذهب لدعم الدولة في حربها ضد روسيا ولم يلبي الطلب، ومما زاد الطين بله مقتل صادق أفندي مبعوث السلطان العثماني الى بغدد لتقصي أحوال الولاية، الذي واجهه داود باشا بكل حزم بعد أن عرف ان السلطان يريد أزاحته عن الحكم في بغداد، وعثر عليه مقتولاً في مكان أقامته في دار الضيافة في محلة الصابونجية بعد أيام من وصوله، الأمر الذي أثار غضب السلطان حيث كان لمقتل مبعوثه صدى واسع في إسطنبول وفي مختلف الولايات العثمانية، فقرر الباب العالي إنهاء حكم داود باشا والمماليك مهما يتطلب الأمر. كلف السلطان محمود الثاني والي حلب علي رضا باشا اللاز، الذي تعود أصوله إلى قبيلة اللاز التركية التي سكنت مدينة طرابزون على البحر الأسود بتجهيز جيش للقضاء على حكم المماليك . تحرك هذا الجيش من حلب نحو بغداد لتنفيذ أمر السلطان في يوم 14 شباط 1831م، واستغل علي رضا حالة الفرقة بين القوى السياسية الرئيسة في بغداد لضرب داود باشا، فضم في صفوف القوات العثمانية مجموعة من المماليك الغاضبين على داود، أضافة الى بعض زعماء العشائر العربية مثل صفوق الفارس شيخ شمر وسليمان الغنام من رؤساء عقيل، وعند وصوله مشارف بغداد فرض الحصار على المدينة التي ساءت الأحوال فيها، بعد ان انتشر الطاعون القادم من مدينة تبريز في اواخر شهر آذار حاصداً أرواح عشرات الألاف من سكانها، كما أن دجلة لم يكن رحيماً بها، ففي الحادي والعشرين من نيسان من نفس العام فاض فيضاناً مدمراً فأغرق العديد من محلاتها وأزقتها ليتعاون مع الطاعون على بغداد المنكوبة، أفسد المرض والفيضان كل الخطط التي اعدها داود باشا لمقاومة الجيش العثماني القادم من حلب. فما كان لبغداد إلا ان تنحني امام الجيش الغازي الذي دخلها يوم 14 أيلول من العام نفسه بعد حصار طويل. وكان الوالي الجديد قد وضع خطة محكمة للقضاء على المماليك وانهاء حكمهم في العراق، حيث تظاهر في بادئ الأمر بالرضا عنهم ووعد بعضهم بمناصب رفيعة، وفي اليوم الثالث من دخول علي رضا باشا اللاز بغداد دعا جميع المماليك وبعض الأعيان لسماع قراءة الفرمان الخاص بتوليه الحكم، وفي هذا الأثناء ملأ الدار بالجنود المسلحين ولما اكتمل وصول الجميع وشربوا القهوة ودخنوا الغليون، ترك الوالي الجديد المكان بحجة الوضوء، وكانت تلك إشارة للبدء بقتلهم، فأنقض الجنود على المماليك وقتلوا المئات منهم حتى من كان منهم مؤيداً للوالي علي رضا ولم يبق منهم سوى أثنى عشر شخصاً أرسلوا جميعاً الى إسطنبول، ثم صدرت الأوامر بقتل المماليك أينما وجدوا وتمت مطاردة من استطاع الفرار منهم الى مناطق الجنوب والشمال، وهكذا أنتهى حكم المماليك لبغداد الذي دام أكثر من ثمانين سنة وانتهى بذلك شبه الاستقلال وعادت للحكم المباشر للدولة العثمانية. أما الوالي داود باشا آخر حكام المماليك في بغداد فقد أرسل معززاً مكرماً إلى اسطنبول من دون ان يمسه ضرر. تفرغ رضا باشا بعد ذبح المماليك لأهل بغداد، ولكي يضمن عدم تمرد عساكر الجيش العثماني ضده بسبب تأخر الرواتب، نقض وعده للسكان بالأمان، وأطلق يد العساكر في عمليات نهب وسلب واسعة، وكان الموت نصيب كل من يعترض، كان النهب وسيلة الوالي علي رضا لرشوة الجند، فيما كانت مصادرة أموال الأعيان والمماليك طريقته لإرضاء السلطان الذي كان ينتظر ان تمتلئ خزانته من خيرات العراق، وعين لهذا الغرض مجموعة متخصصة بالقتل والتعذيب لقبت هذه المجموعة (بالجلاوزة) وكانت تستخدم ابشع الطرق لكي يصلوا الى الأموال والعقارات التي تعود الى المماليك. أدت هذه السياسات الهمجية الى نفور الأهالي من العثمانيين حتى صاروا يترحمون على زمن المماليك الذين كانوا أرحم بهم من هذا الوالي، فقد كان أحد أسوء ولاة العثمانيين الذي حكم العراق مدة أحد عشر عاماً.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4216 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع