د.ضرغام الدباغ
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 221
التاريخ : / 2020
لماذا هاجم هتلر الاتحاد السوفيتي
رؤية جديدة
أتابع منذ زمن بعيد كل ما يتعلق بأحداث ومفردات الحرب العالمية الثانية، وفيما بعد حين قيض لي أن أعيش في ألمانيا سنوات طويلة من شبابي وكهولتي وشيخوختي، وشاهدت الكثير جداً من الأفلام الوثائقية، وقرأت أكثر باللغة الألمانية، حتى بوسعي أن أزعم، أني أحطت بكل ما يدور بالحرب العالمية الثانية، وتركيزاً على ألمانيا.
ولكني لأني درست التاريخ علماً (أحمل شهادة مؤرخ مجاز) أعلم أن الأحداث الكبيرة في التاريخ أعمق مما يمكن الإحاطة بها، لذلك ففي أوربا هناك متخصصون في كل صفحة وفي كل من المتفرعات والأخبار. ومؤخراً قرأت أخبارا مثيرة حقاً، تحمل على التفكير العميق ... فالقائد هتلر لم يكن غبياً بل كان ذكياً وموهوباً، وقد قرأت أن علماء أمريكيون بعد الحرب أجروا اختبارات الذكاء على القادة الألمان بعد اعتقالهم، وأجروا الاختبارات وتسمى علمياً (اختبارات سبيرمان من 150 درجة) (تشارلس سبيرمان ــ Spearman) حتى على هتلر، وكان مستوى الذكاء مرتفعاً للغاية. ولكني من خلال قراءاتي لأحداث الحرب وتفاصيلها كنت ألاحظ أن هتلر أرتكب أخطاء قاتلة .. ترى لماذا أرتكبها وهو الذكي الأريب ..؟ أم ترى أن نشوة الانتصارات الرائعة التي أحرزها في البداية سهلت له الانزلاق إلى مواقف لم يكن له أن ينزلق إليها.. ولا سيما ارتكابه الخطيئة الأكبر بمهاجمة الاتحاد السوفيتي ..
ابتداء أن هتلر كان يعبر عن السخط الشعبي الألماني على مقررات مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى هو تعبير وطني صادق، ومخلص. فالمقررات كان يصعب احتمالها وترتب التزامات على ألمانيا تكبلها وتعيق سبل تطورها وحتى وحدتها الوطنية، فالوقوف بوجه فرساي كان أمراً حتمياً، وهو ما أوصله للسلطة بالانتخابات النزيهة. ولكن السؤال الأهم كان يتمثل : كيف وماذا ينبغي أن تفعل ألمانيا للخلاص من التزامات مؤتمر فرساي ..؟
كان أمام هتلر العقبات التالية لإزالتها واستعادة ألمانيا مكانتها كدولة عظمى :
• استعادة مناطق الروهر التي استولت عليها فرنسا، وهي القلب الصناعي لألمانيا.
• استعادة السوديت الألمانية من جيكوسلوفاكيا.
• إعادة تسليح ألمانيا وهو ما يخالف قرارات فرساي.
• معالجة تبعات تشكيل الدولة البولونية على أراض اقتطعت من ألمانيا، ومن الاتحاد السوفيتي، وبذبك تقطعت أوصال ألمانيا في الشرق في مناطق منقطعة مثل بروسيا الشرقية ومدينة / ميناء دانزنغ.
ــ حين أستعاد بالقوة منطقة الروهر، كان الفرنسيون والإنكليز يدركون صعوبة أن تقوم أمة ألمانية صناعية بدون منطقة الروهر، لذلك سكتوا عنها وقبلوا هذا الاختراق الأول.
ــ حين أتم عملية الإنشلوس (Anschluss) الوحدة مع النمسا، أستطاع تمريرها لأنه لاحظ أن الأوربيين في مرحلة من الهشاشة لن يقفوا بوجهه.
ــ حين أقتحم بالقوة المسلحة منطقة السوديت، بل كل أراضي الجيك، حين قبلت حكومة براغ الإنذار الألماني، وصمت لندن وباريس ثم إخراجه عبر مؤتمر ميونيخ / 1939 إذ أ‘تبر المؤتمر أن هذه هي آخر طلبات ألمانيا في القارة.
ــ مزايا هتلر تجاه بولونيا التي صممت على مقاومة طموح هتلر، وجدت في فرنسا وبريطانيا الحامية لاستقلال وكيان بولونيا، وخطأ هتلر أنه أعتقد أن فرنسا وبريطانيا سوف لن تخوضا الحرب من أجل ممر يفضي إلى مقاطعة دانزنغ وبروسيا الشرقية.
ــ تمادى هتلر أكثر حين لم يواجه بإجراءات أو تصرف جاد من بريطانيا وفرنسا، وتراخي فرنسي اعتقادا [نهم في أمان خلف الخطوط الدفاعية ماجينو المحكمة، ولكن الجيش الألماني الذي كان قد أستوعب نظريات وتاكتيكات الحرب الآلية / المدرعة ، تمكن من اجتياح دول البينولوكس (هولندة وبلجيكا ولوكسمبورغ) متفاديا العقد الدفاعية، وفي غضون أيام قليلة تمكن من الوصول إلى باريس، وكاد أن يغلق طرق الانسحاب (ميناء دنكرك).
أعتقد هتلر أنه قام بصدمة خارقة (كانت فعلا صدمة كبيرة) وبذلك سيرغم بريطانيا وفرنسا بالإذعان لسياسته، في رسم خطط أن تكون ألمانيا قوة عظمى في أوربا والعالم. لذلك أرتكب خطأه الأول : حين سمح للقوات البريطانية والفرنسية بالانسحاب من دنكرك، معتقداً أنه لا يريد إنزال هزيمة مذلة بالإنكليزي تصعب عليهم طريق الحوار والتفاوض.
ترك هتلر الإنكليز طويلاً ليفكروا (أطول مما يجب)، وتلك كانت غلطته الثانية، وحين تأكد يقيناً بأن الإنكليز جاءوا بتشرشل العنيد الشرس ليقف بوجه هتلر، بدأ بحرب بريطانيا بالطائرات، واجهها الإنكليز بكفاءة، وتحملوا بصبر آثارها، حتى بلغوا مرحلة من الاقتدار ليس بمواجهة الهجمات، بل والرد عليها، ونقل آثارها (الاقتصادية والاجتماعية) إلى ألمانيا، كما نجح الساسة البريطانيون من حمل الأمريكان على دخول المعترك الأوربي.
بدخول الولايات المتحدة الحرب، وهي لديها قدرات صناعية هائلة، بدأت بريطانيا تتعافى من تأثير الضربات الألمانية، وانأراضيهم.رحلة الدفاع السلبي، إلى الدفاع النشيط، ثم إلى شن الهجمات الجوية، والبحرية وحتى البرية (في ميدان شمال أفريقيا)، لدرجة أنها أخرجتها من شمال أفريقيا كلها.
وهتلر كسياسي ذكي يعلم أن المكوث في الخنادق، هي الخطوة الأولى لجمود الموقف العسكري، وحين لا تتغير المعطيات على الأرض، ينتج الجمود السياسي، ويبدأ العطب يتسلل إلى الحرب ويشع بنتائجه. والألمان حين خسروا الحرب العالمية الأولى، خسروها وجيوشهم تحتل أراض في فرنسا وغيرها، ولم يكن جندي أجنبي واحد على أراضيهم ..
أعتقد الزعيم هتلر ... ويدعم اعتقاده تصور (ربما أيده بعض من مستشاريه الفلاسفة)، أن الالقومي أنعداء بين الأنظمة الرأسمالية / الديمقراطيات الغربية والنظام الاشتراكي / الشيوعي هو صراع تناقضي تناحري، يعلو على سواه من التناقضات. وقد يبدو هذا التصور صحيحاً من الوهلة الأولى، ولكن بريطانيا تعتمد في صياغة نظريتها للأمن القومي أن تكون القوة العسكرية والاقتصادية الأولى في أوربا، لذلك مثلت الخطط الألمانية مؤشرات الخطر لبريطانيا لأكثر من سبب:
• إن التوسع حتى في القارة الأوربية ولا سيما في البلقان التي لم تخلو من اهتمامات الاستراتيجيين الإنكليز سيعرض نفوذ وهيبة بريطانيا لتدهور.
• إن التوسع السياسي على الأرض يرافقه الإنتاج الصناعي النشيط والمشهور بجودته وغزارته، لا بد أن يرافقه بوسع تجاري واقتصادي عام وسيكون ذلك على حساب التجارة البريطانية.
• إن سياسة التوسع الألمانية والتي كانت تجري تحت شعار " المجال الحيوي " تثير في بريطانيا ذات المخاوف التي كانت في سبيلها إلى التحقق قبيل وأثناء الحرب العالمية الأولى تحت شعار " الزحف نحو الشرق " Drangen nach Osten التي كانت ألمانيا تعتمد فيها على حليفتها الإمبراطورية العثمانية في التوغل شرقاً حتى الخليج العربي وطرد النفوذ البريطاني من تلك الأرجاء التي كان بدء اكتشاف واستخراج النفط يبشر بمكانتها الإستراتيجية.
ومن المعروف أن تركيا كانت قد أعلنت الحياد في الحرب العالمية الثانية، وإن كانت تتعاطف مع ألمانيا ليس فقط للأسباب التاريخية المعروفة، بل وتطميناً لمخاوف أمنها القومي، وذلك من احتمالات تفوق سوفيتي (بنتائج الحرب)، وهو ما حصل حقاً فيما بعد، وتجديد السوفيت لمطالبهم القديمة بمقاطعتي قارص وأرداهن التركيتين، بالإضافة إلى مخاوف من فرض عناصر جديدة (شروط) على المضائق: البسفور والدردنيل، تقلص من حدود السيادة التركية عليهما، وكان أي انتصار ألماني جديد بعد عام 1943 سيدفع بتركيا إلى المحور، الأمر الذي سيفتح أبواب الشرق الأوسط على مصراعيه أمام قوى التوسع الألماني، وكان الشرق الأوسط حتى ذلك الوقت ملعباً للفعاليات البريطانية تهيمن على معظم أقطاره وتستحوذ على ثرواته الطبيعية وفي مقدمتها النفط.
• كان لتحالف ألمانيا مع إيطاليا ذات الأطماع الاستعمارية في القارة الأفريقية، وليس في ليبيا فقط، بل التوسع شرقاً لبلوغ مصر والسودان، ومن الاتصال بالوجود الإيطالي في منطقة القرن الأفريقي، فذلك كان يعني السيطرة على قناة السويس التي تمثل عصب الملاحة التجارية والحربية لبريطانيا إلى مستعمراتها في القارة الأفريقية وإلى شبه القارة الهندية وإلى الملايو في آسيا، وتشكيل كماشة وحصار الوجود البريطاني الذي سيغدو ضعيفاً (نسبياً) في المشرق العربي، ثم غدا أكثر ضعفاً (لاحقاً) بعد أنظام الوجود الفرنسي في المشرق العربي(سوريا /لبنان) إلى حكومة فيشي الفرنسية الموالية للألمان، وكذلك الوجود الفرنسي في المغرب العربي (تونس، المغرب، الجزائر) بالإضافة إلى نشاط فعاليات حركة التحرر الوطنية والقومية النشيطة في مصر والعراق وفلسطين الهادفة إلى طرد الوجود البريطاني، وقد ثبت لاحقاً أن لهذه المخاوف ما يبررها، إذ كاد الفيلق الألماني وقوات المحور بقيادة الماريشال رومل أن يحقق هذه الإستراتيجية وكاد يبلغ قناة السويس.
• بالإضافة إلى المخاوف البريطانية في القارة الأوربية وأفريقيا أنفة الذكر، فإن احتمالاً ينذر بالخطر يتمثل بالقوة اليابانية في آسيا التي لم تكن تخفي أطماعها بالوصول إلى مستعمرتين رئيسيتين لبريطانيا تمثلان المستودع البشري والاقتصادي لها، وهما أستراليا والهند، وكان للتحالف الألماني الإيطالي الياباني ما يمنح هذه المخاوف أبعاداً جدية.
مثلت هذه المعطيات بالإضافة إلى عناصر ثانوية تتمثل بمصداقية التحالفات البريطانية في أوربا، تحالفها مع فرنسا، ضمان وجود واستقلال بولونيا، مثلت عناصر موقف استراتيجي ينذر باحتمال خرق خطير لأمن الإمبراطورية لابد من استباقه، ووضع حد لتدهور الموقف ولإيقاف عجلة الأحداث التي تدور في غير صالحها. فيما أعتقد الزعيم الألماني، أن الغرب الرأسمالي أمام الخطر الاشتراكي / الشيوعي (الروسي) سيعتبر أي خطر سواه معقول ومقبول.
هتلر يعلم بدقة تامة أن روسيا تنور حربي من الطراز الأول، تضم كافة خواص ومزايا المحرقة من :
• مساحات شاسعة بلا أفق,
• شعب بأعداد سكانية كبيرة.
• بلاد وشعب ذا قدرة على احتمال شظف الحياة ونكباتها. ومقاومة الغزاة.
• الطبيعة الخاصة المتمثلة بالصحاري الجليدية شتاء، تتحول إلى بحار من الوحول صيفاً، وكثرة الأنهار والمستنقعات والغابات.
• قرأ هتلر القيادة القوية السوفيتية القوية خطأ، فأعتقد أن الشعب سيهب ضد النظام الشيوعي.
هكذا كانت التصورات والحسابات الدفترية ... ولكن كيف جرت في الواقع ...
ــ ترومان عبر عن جوهر الموقف الأمريكي بقوله " إذا قتل الألمان الروس فهذا جيد... وإذا قتل الروس النازيين فهذا جيد أيضاً ".
ــ ستالين قال بما معناه " هذه الحرب بين إمبرياليين قدامى (فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة)، وبين إمبرياليين جد (ألمانيا وإيطاليا واليابان)،لتقسيم العالم، لا تستحق أن نسفك دماء جندي سوفيتي واحد من أجلها ".
ــ هتلر المشبع ذهنه بأفكار عنصرية فلم يكن ليرغب بإنزال هزيمة تامة بالعنصر الأنكلوسكسون وهو ما يجمعه بالإنكليز، فتوقع أن أميركا سوف لن تجازف وترسل أبناءها للحرب في أوربا لترتاح بريطانيا وفرنسا، فالأمر ليس كارثة أن تنتصر ألمانيا (للاعتبارات العنصرية والدينية / الطائفية)، فتوقع أن تعمد بريطانيا إلى طلب الهدنة والصلح وإنهاء القتال مع ألمانيا، وهنا سيحسم هتلر أمر كونه قوة عظمى، ومن سادة أوربا. ولكن هذا الاحتمال أصبح بعيد المنال حين تولى تشرشل قيادة بريطانيا وفرنسا الحرة (بزعامة الجنرال ديغول).
ولما كان احتمال غزو الجزيرة البريطانية بعيد الاحتمال، كما أن الحرب على بريطانيا جوا وبحراً، لم تؤدي إلى نتائج مهمة، أدرك هتلر هذه المعطيات بسرعة، وربما أستعجل حين قرر أن تبحث الأركان الألمانية خطط الحرب على الاتحاد السوفيتي، معتقداً هذه المرة على حسابات دفترية (على الورق): جيش سوفيتي ضعيف، بلا قيادات حقيقية نتيجة تصفيات ستالين، أسلحة متخلفة تعود للحرب العالمية الأولى، طموح الشعوب السوفيتية للتخلص من الشيوعية، فأعتبر أن الوصول إلى موسكو لا تحتاج إلا إلى قفزة جريئة على يد قادة عباقرة الحرب الخاطفة /الميكانيكية والمدرعة، وسوف ينهار هذا الكيان فإما أن يضعف بدرجة لن يشكل خطراً أو أهمية، أو سيفرض عليهم سلماً ألمانيا ستقرر أبعاده. والغرب الرأسمالي وهذه هي الفقرة الأهم في سيناريو الزعيم النازي سيهرع إلى ألمانيا التي هزمت الشيوعية الخصم الأكبر للرأسمالية، وسيتمثل هتلر لهم بصورة المنقذ والمحرر.
هتلر كان يعرف تمام المعرفة مقولة الزعيم الألماني بطل الوحدة السياسي المحنك أوتو فون بسمارك قوله " من أجل الحفاظ على ازدهار ألمانيا ومن أجل أن تنعم بالسلام ينبغي عليها (ألمانيا) أن تحافظ على السلام مع روسيا ". ولكنه كان يدرك أن الاستسلام للإيقاع الصراع مع بريطانيا خيار خاسر، لذلك قرر اقتحام الجبهة الشرقية مع روسيا ووضع كل ثقله فيها على أمل أن " المعارك مع روسيا الشيوعية " ستقربه حتماً في مرحلة ما من الصراع، وأن الغرب سوف لن يسمحوا بوصول الشيوعية إلى حصونهم في أوربا الغربية. والغريب أن هذه القناعة لازمته إلى الأيام الأخيرة من الحرب أيار / 1945، وحتى ساعاته الأخيرة كان يتوقع أن يهرع الغرب لنجدته في الجبهة السوفيتية، وكانت معظم القوى الألمانية مركزة على الجبهة الشرقية، ويحث قادته على إجراء الاتصالات مع الجيوش الغربية ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
كانت خيارات هتلر تتقلص بتقدم الحرب، ولكنه كان يحصر آماله في :
• أن تقدم الصناعة الألمانية أسلحة متقدمة جداً ترغم الحلفاء على وقف الحرب، وكانت إنتاج الصواريخ البعيدة المدى (V1- V2) متواصلاً، وكذلك إنتاج الطائرة النفاثة مسرشمت (Messerschmitt 262) صنع منها 1433 طائرة، وإن كان تدبير الوقود اللازم للطائرات بدأ يشكل مشكلة، ولكن نتائج البحوث النووية وإنتاج السلاح الذري هو الأمل، ولكن النتائج الإيجابية ظهرت متأخراً بما لا يمثل انعطافة ذات نتائج حاسمة.
• أن تواجه الولايات المتحدة مشكلات في مسارح العمليات الآسيوية بما يكف يدها عن المسرح الأوربي.
• حدث سياسي خارق يلقي بظلاله المؤثرة على القرارات والعمليات الحربية.
ومنذ الانتصار السوفيتي في معركة ستالينغراد التي استمرت نحو ستة أشهر ( من 21/ آب / 1942 وحتى 2 / شباط / 1943) ابتدأ التراجع الألماني في الجبهة الشرقية ببطء ولكن تراجع متواصل حتى يوم 8 / أيار / 1945، يوم استسلام ألمانيا الرسمي. الخيارات تتقلص، ولكن هتلر ظل يعتقد أن حدثاً ما سينقذ الرايخ الثالث من الانهيار التام.
ويكتب وزير التصنيع الحربي الألماني البرت شبير في إحدى مقابلاته بعد إطلاق سراحه (بعد 35 عاماً) أنه كان يستمع للمذياع باهتمام تطورات الموقف الحربي في آسيا، وأنزعج كثيراً بأنباء الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر واندلاع الحرب بين الولايات المتحدة واليابان، وكان هتلر يحاول دفع اليابان لإعلان الحرب على الاتحاد السوفيتي، لأن ذلك سيخفف الضغط على الجبهة الشرقية / السوفيتية، ولمح الوزير شبير تهاوي أمل كان هتلر يأمله. ثم فشل وساطة حاول الفاتيكان القيام بها مع الحلفاء الغربيين.
ومع تقدم الحلفاء على الجبهتين الشرقية / الاتحاد السوفيتي، والغربية الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا (بعد تحريرها حزيران / 1944)، والتقدم على الأرض كان يقابله تضاؤل احتمالات التفاوض، وحتى الاستسلام المشرف للغرب، وهي احتمالات كانت أصلاً ضعيفة، والنصر العسكري بدا بعيد المنال، لتقلص الإنتاج الحربي، وضعف الموارد الخارجية وخاصة النفط، وأتساع الخروق في الجبهات، بحيث أن إنتاج طائرة نفاثة لم تغير من ميزان الموقف رغم أنه أنتج من هذه الطائرة نحو 1200 طائرة. والآمال على إنتاج السلاح النووي يبدو لم يكن وشيكاً، مع تدهور الأوضاع في كافة الجبهات .
وهنا عندما بدا أن غرق السفينة بات وشيكاً، بدأت سيناريوهات اليوم الأخير توضع، ولكالأوربية:ن قادة الدولة بدأ ا يفكر في إنقاذ نفسه، وآخرين في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والبعض الآخر أدرك أن الهزيمة والتدمير لا محالة، ولكن مع عدم الإفراط في التدمير. ولكن من ذا الذي يرحم خصماً عنصرياً شرساً متطرفاً عنيفاً، قتل الملايين من الشعوب الأوربية :
الجدول رقم: (10): الخسائر بالأفراد عسكريين ومدنيين في الحرب العالمية الثانية (الجدول من إعداد الباحث)
وهنا يجيب السؤال نفسه : لماذا رفض الحلفاء الغربيين (الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا)، بالإضافة للإتحاد السوفيتي كل فرصة للتفاوض وإنهاء الحرب سلماً بعد تمكن الحلفاء من تحطيم إرادة النازي، وأصبح النصر النهائي يلوح في الأفق، فضل الجميع أن تكون الحرب هو الحاسم بينهم.
لذلك لم يكن للرحمة مكان في الخطط، فعلى سبيل المثال قصف مدينة دريسدن 13،14،15/ شباط / 1945 حيث قامت 722 من الطائرات البريطانية و527 من الطائرات الأمريكية بقصف المدينة قصفاً مدمراً رغم أنها كانت ساقطة عسكرياً وخالية من القوات العسكرية حيث أسقطت في أربع غارات 3,900 طن من القنابل الشديدة الانفجار دمرت حوالي 7 كم مربع من المدينة، وتسبب في عاصفة نارية قتلت 25,000 شخصاً (أقل التقديرات) من سكان المدينة، استهدفت الغارات المراكز الصناعية المهمة (تحسباً من لا تقع بيد الجيش السوفيتي المطبق على المدينة)، والمراكز الجامعية والبحثية. وهو أكبر وأعنف قصف يطال مدينة في الحرب العالمية الثانية (أوربياً)، وحجم التخريب لم يكن يقل عن حجم دمار هيروشيما وناغازاكي اليابانيتان.
الكارثة بأنهيار كل شيئ كانت محدقة، والزعيم الألماني كان يريد تأخير النهاية، على أمل حدوث ما ليس بالحسبان، ولكن هذا الجيوش (وأفرادها بالملايين) تتحرك كماكنة عملاقة لا يمكن إيقافها، حتى يوم 8/ ايار / 1945 جرى التوقيع على وثائق الاستسلام التام بلا قيد وشرط. توقف نزيف الدم والموارد. (1)
ولكن مأساة الشعب الألماني لم تنهي، إذ كرس مؤتمر بوتسدام تقسيم ألمانيا والشروط الأخرى، منها التعويضات. ومن الغريب أن يكون الاتحاد السوفيتي الذي لقى من التدمير والقتل بقدر كافة الدول والشعوب مجتمعة، كان أكثر رحمة ورأفة بالشعب الألماني. مع الفارق العرقي والديني بين السوفيت والألمان، والتقارب الشديد عرقياً ودينياً مع الحلفاء الغربيين.(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1. شاهدت مرة (الباحث) في مقبرة ألمانيا شاهد على قبر جماعي كتب عليه " هنا دفن ستة جنود ألمان مجهولين يوم 8 / أيار / 1945 " فتصور ....!
2. تحدث لي كثبر من المواطنين الألمان ممن شهدوا اليوم الأخير للحرب وما بعده، أن الجيش السوفيتي الذي كانوا يخشون انتقامه، كان رحيماً بالناس، وكانت مطابخ الميدان تطبخ الشورية وتقدمها مع الخبز مجاناً للناس في الشوارع .
1321 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع