د.طلعت الخضيري
كشكول الذكريات-ألحلقه ١٥
ألنهر الخالد
ألمقدمه:غنى المغنون وأنشد ألشعراء لدجله الخير ولنهر النيل ولبردى ، فألا يحق لي أن أتغنى بذكريات نهر العرب الخالد ألذي قضيت إلى جانبه أجمل أيام حياتي.
تعود بي الذاكره إلى العقد الثالث من القرن الماضي ، وأتاح لي القدر أن أسكن في قصر يطل على ضفاف ذلك النهر الواسع الجميل، في منطقه البراضعيه ، ألتي اختيرت فيما بعد مقرا للقصور الرئاسيه بديلا عن منتزه السراجي ألذي وجد على ضفته قصرا تراثيا جميلا(قصرأغا جعفر)، إنها ذكريات ساحره وجميله ، لن تغيب عن ذاكرتي أبدا ، فقد عشنا على ضفاف نهر العرب الخالد ، تعلوا مياهه وتنخفض حسب (ألمد والجزر)، فتسقي عشرات الآلاف من الجداول المتفرعه ، لتروي أشجار النخيل الباسقات وسعفها المتدلي كجذائل حوريات البحر ، في انتظار ظهور أعثاق ثمره ( ألجمري) ألذي سيتحول فيما بعد إلى(خلال) و(رطب) وأخيرا إلى تمور يتم تصديرها إلى مختلف أنحاء المعموره.
هل تسعفني مخيلتي أن أرى البواخر البحريه وهي تطل علينا من بعيد، من (لوفه) الشط ،قادمه من أنحاء العالم تحمل مايستورد من بضائع أجنبيه ، و مايصدر من منتجاة البلد الزراعيه ، من تمور وحنطه وشعير ، إلى ما وراء البحار ، يستقبلها عند دخولها زورق قادم من المعقل ، وعليه المفتش الصحي وآخرون ليتسلقوا سلم جانبي يخفض لهم للصعود إلى ظهر السفينه.
ومن المحتمل أن لا تذهب السفينه إلى ميناء المعقل ، وإنما تتوقف أمام دارنا ، وتنزل سلاسل المرساة( ألأنكر) ونسمع صوتها ألمجلجل و يتدلى منها ألثقل الحديدي الضخم ليغوص في الماء وكأنني اليوم أستمع إلى إحدى سمفونيات بتهوفن ، أو تربط السفينه بالعوامات البيضاء المثبته في قعر النهر ، وطيور النورس التي تحوم فوق البواخر القادمه لتلتقط فتاة الأطعمه التي ترمى لها من ركاب السفن.
وتتجمع المهيلات(ألسفن الشراعيه) والدوب( ألجنائب) والزوارق حول السفينه لتنزيل حمولاتها بواسطه ألسلنك( ألرافعه) ألذي يكون في مقدمه السفينه وآخرها ، وهناك أيضا ألمشاحيف الصغيره المغلفه بالقار ، قادمه حامله بعض أهالي نهر (كرمه علي) يبيعون إلى نوتيه المراكب ألمشتقات الغذائيه ، من حليب طازج وقيمر وجبن ، وتدلى لهم من الأعلى ألسلات لرفع بضائعهم ودفع النقود لهم.
لازلت أرى بمخيلتي باخره المسافرون ( الميل) قادمه من الهند إسبوعيا حامله زوار العتبات المقدسه من الهند ، وهي تسير بالعاده بسرعه فائقه ، يتجنبها البلامه لما تثيره من أمواج عاليه ثم ترسو في رصيف العشار ألذي يرجع تأريخه إلى العهد العثماني ، ثم ينتشر ركابها الهنود في شوارع العشار وبجوارسكنهم قرب نصب أسد بابل يجاورهم مطعم إشتهر ببيع الأكلات الهنديه من سمبوسه وباكوره.
وسنويا وفي ليله رأس السنه الميلاديه وفي التحديد عند منتصف الليل ترن بإذني اليوم أصوات أبواق البواخر الراسيه عندك يانهري الحبيب وهي تحيي قدوم السنه الجديده.
وهل أنسى البوارج العسكريه البريطانيه والفرنسيه والروسيه تزور البصره بزياراه سميت وديه ، يحييها مدفع ساحلي عراقي بطلقات صوتيه لترد عليها البارجه الزائره بمثيلاتها.
هل سيرجع مجدك يا أيها البلم العشاري ، ألذي شابهت قرينك جندول البندقيه ، وعليك( ألبلامه) أحدهما بالمقدمه وبيده المجذاف والآخر بالمؤخره ، و بيده ( ألغرافه) ،أوإذا سار البلم بمحاذاه الساحل سيستعملان (ألمردي) وهذا الإسم الخالد هو من أسماء الأجداد السومريون.
وفي منتصف البلم هناك أرائك متقابله لجلوس شخصان لكل جهه ،مع المخدات (ألوسائد) الملونه ، ومن المحتمل إذا كان هناك شمس مشرقه خلال الصيف أن يرفع فوق تلك الأرائك ستار في الأعلى يتدلى منه ستار من كل جانب لوقايه من يجلس في وسط البلم.
إنني أرى في مخيلتي الأبلام متجمعه في مدخل نهر العشار ، تنتظر الركاب للقيام بنزه جميله ، أو نقل أهالي القرى الممتده إلى جانب النهر أو العبور إلى منطقه (ألتنومه) المقابله للعشار.
هل تتذكر يانهر العرب الهياله وهم يلقون بشباكهم وسط النهر لصيد سمك الصبور ، أو أهالي قريه البراضعيه وهم يغلقون نهر القريه ( يسكرون النهر) ،عند ارتفاع ماء المد، بشبكه ، ليصطادوا الأسماك عند ظاهره الجزر ، وبأيديهم ألسلات المقعره ،تغطس في قعرالنهر جماعيا لصيد الأسماك المختفيه بما تبقى من الماء المنخفض.
لقد قدمت لنا أسماك نهرك من(شانك) و(صبور) و(حمري) ،وفي الصيف أرعبتنا بسمك الكوسج ( ألقرش) وهو يهاجم الأطفال الأبرياء عند سباحتهم قرب ضفافك.
ولا تزال أحلامي تذهب إلى عيد الربيع أي عيد نوروز تمخر الماطورات والأبلام براكبيها الفرحون نهرك ثم تدخل نهر الخوره ذهابا وإيابا حتى المساء.
أين ذهب ماؤك العذب ، أو فيضانك عندما تعلو مياهك وتجتاز السواحل ، فتغمر حدائق قصرنا وبستانه ، وتغمر المياه الصحراء الممتده جانبي طريق البصره الزبير، ويسبب غضبك إنتشار الملاريا في المدينه.
أحمل ذكريات ماضيك المجيد وأبكي على حاضرك اليوم ، وأنتظر عودة مجدك وإعمار بساتينك لا بالمسحاه ومعاناه الرجال بل بأساليب الزراعه الحديثه ألتي اختلفت عما استمرت خلال قرون مضت ،أحلام قد تتحقق بمشيئه الله .
1058 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع