التدمير المزدوج

                                               

                           د.ضرغام الدباغ

   

المراسلات :
Dr. Dergham Al Dabak : E-Mail: drdurgham@yahoo.de

دراسات ـ إعلام ـ معلومات

العدد : 222
التاريخ : / 2020

التدمير المزدوج

هناك نظرية تقول أنك إذا سعيت لتدمير خصمك، فأنت تدمر في نفس الوقت جزء من ذاتك ....!
لنقرب المسألة أكثر إلى الأذهان ...
تتقدم أنت ومعك كل قواك التدميرية، تنطلق مصمماً على سحق الخصم وتدميره، والتسارع في تقدمك يعززه انتصارات صغيرة وكبيرة هنا وهناك، تتعب خصمك، ولكنك لا تكتفي، والغل يأكل قلبك، وهذه ليست سياسة، ولا علاقة لها بالخطط التكتيكية والاستراتيجية، هذا حقد أسود تراكم على قلبك وفكرك، ثم تسرب إلى عينيك فمنعك من الرؤية والتفكير، فمضى قطارك يدوي ويزمجر وأنت تحاول سحق خصمك حتى العظام، ولا تبالي بأي نتيجة أخرى .. ولكن ماذا حدث ...
لكل علاج أضرار جانبية (Said Effect)، وتقريب لما يجري علم الصحة على علم السياسة نقول : لكل عملية سياسية / اقتصادية / عسكرية كبيرة (نتائج ثانوية) تظهر هذه النتائج على خصمك وعليك أنت أيضاً وعلى الواقع الموضوعي.
مثلاً حين حاصر الغرب الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي، ساهم هذا في رفع قدرات (السوفيت) لأنهم أضطروا لصنع كل شيئ بأنفسهم، ونفس المثال بطريقة أخرى، حين كرس الغرب (وخاصة الولايات المتحدة) كل شيئ للصدام، والصدام كان يدور يومياً على أصعدة عديدة ...
حسناً أدرك الاتحاد السوفيتي أبعاد ونتائج لعبة سباق التسلح، فإنها سوف تفضي إلى :
1. حرب نووية لا تبقي ولا تذر ليس فقط للمشاركين فيها، بل حتى للمتفرجين ...!
2. إفقار شديد للموارد، وتحويل التراكم في الاقتصاد الوطني بنسبته الأعلى للتسلح، والنتيجة شلل شبه تلم للتنمية.
3. محو منجزات كبيرة شيدها الملايين من المواطنين السوفيت في ظروف تكاد تكون مستحيلة.
والغرب كان يسعى لهذه الأهداف بوضوح تام مستخدماً أدوات :
1. استخدام الفضاء الخارجي في الصراعات.
2. تطوير متواصل لقدرات التدمير الشامل: النووية، والهيدروجينية، والنيوترونية، والبايولوجية / الكيمياوية.
3. شن الصراعات المسلحة غير المباشرة، في مواقع ثانوية، فيما يطلق عليها الحروب بالوكالة.
4. إحداث انفجارات وإن كانت غير مهلكة ولكنها مضعفة، في تخوم المعسكر الاشتراكي، وفي بعض أجزاءه الرخوة.
والقيادة السوفيتية أدركت مبكراً واستشرفت مآل هذا الصراع الذي يطحن الخصم ولكن يطحن مواردك أيضاً ...! قد يبقيك على قيد الحياة، ولكن يبقيك ضعيفاً..! لهذا آثرت القيادة السوفيتية بعد دراسة الموقف بتفاصيله، وقررت اتخاذ قرارات كبيرة، وصعبة، ولكنها كانت الممكن الأفضل .. التي ينجيك من عملية طحن العظام الغبية التي تسعى إليها وتمارسها الولايات المتحدة، وقامت بتفكيك الأمبراطورية السوفيتية بنفسها (تفكيك تحت السيطرة) لا ينطوي على انهيارات، نعم بخسائر مؤلمة، ولكن لا انهيارات، ولبضعة سنوات عانت روسيا من (الأضرار الجانبية) لتفكيك الاتحاد السوفيتي، سياسيا واقتصادياً وأمنياً، ولكنها (روسيا) الكبيرة دائماً في التاريخ والجغرافيا، تمالكت نفسها، بعد بضعة سنين وعادت تفرض نفسها طرفاً قويا في ميدان العلاقات الدولية، بنظام سياسي واقتصادي متين يتجاوز مكامن الضعف في النظام القديم. يتصاعد دوره إلى مستويات واعدة.
ولكن ماذا حدث في الجانب الآخر ...؟
الولايات المتحدة أرادت استثمار انفرادها في ميدان السياسة الدولية عبر: النظام الدولي الجديد، العولمة، وحين وجدت من يعارض هذا النظام عادت لشن الحروب والصراعات المسلحة وأشباهها في أرجاء مختلفة في العالم : أفغانستان، العراق، كوريا الشمالية، أجزاء توتر في أفريقيا ..وأميركا اللاتينية ..الخ.
هذا الموقف كان يستدعي أن تضخ الإدارة الأمريكية المزيد من القدرات لتتمكن من القيام بدورها القيادي / الغاشم، ولكن قطارها كان متعباً بفعل السباق والصدام مع الاشتراكية، وبعد أقل من عقد خارت قواها .. وهي على وشك أن تنبطح، والنتيجة أن بدل المركز / القطب الواحد الذي سعت إليه السياسة الأمريكية وحاولت تكريسه، حولت أسم النظام الدولي الجديد، إلى العولمة، فبرزت أقطاب جديدة (روسيا، الصين،) وأخرى واعدة في الطريق (البرازيل، الهند، تركيا) وغيرها ..!
صحيح أن قطارك سحق قطار الخصم، أو حمله على الانسحاب، ولكن قطارك نفسه لحقه تدمير شديد، أشد تدميرا من قطار خصم الذي قبل بخسارة جزئية على الخسارة التامة المحدقة بك ... الروس أدركوا نتيجة المباراة في مرحلة مبكرة (نسبياً)، وهم شعب قديم له قادة محنكون، ليسوا كالامريكان الذي لا يعرف أحسن بطل فيهم أسم جده الثالث أو الرابع .. كل مزاياهم أنهم أقوياء ولديهم أموال .. والقوة والمال تغري أشد الناس حكمة إلى قرارات خاطئة ..
بالامس (18/ تموز) قرأت عنواناً (مانشيت) لوكالة أنباء غربية كبيرة " لقد أخطأنا في سوريا "، والسؤال هو : وأين لم تخطأؤا ...؟ في العراق وأفغانستان، في ليبيا ...؟ أنتم تخطئون في كل مكان، ولكن بفضل " ديمقراطيتكم المحكمة " تحول دون ظهورها على السطح، وإذا تطلب الأمر لديكم صواريخ كروز وأسلحة محرمة على غيركم لحل المشكلات ..
في فصول كثيرة من التاريخ القديم والوسيط والحديث، أن آفة الدول هي التوسع ..التوسع يعني بالطبع الكثير من تحقيق المصالح، ولا تتوقف الشهية للتوسع وتواصل القضم والهضم .. ولكن في نهاية المطاف أحد أسباب هلاك الدول يكمن في التوسع، ولطالما قرأنا في كتب التاريخ هذه الجملة " ولكن سعة الإمبراطورية قاد سعة في المشكلات وإلى العجز في مواجهة مشكلاتها ".
يقول غورباتشوف في كتابه البيروسترويكا، أن نظرية المنظر الألماني كلاوس فيتز أن " الحرب هي مواصلة للسياسة بوسائل أخرى " نظرية فات أوانها، ولم تعد صالحة ليومنا هذا.لأن الحرب إذا وصلت حافتها النووية، لا يعود فيها منتصر وخاسر، بل الطرفان سيكونان خاسران، السوفيت انسحبوا بسلام وهذا صح، وبأمان، وهذا صح أيضاَ، وحافظوا على أنفسهم ودولتهم، وهذا عين الصواب، وانكفؤا لبضعة سنوات، ثم استعادوا توازنهم بعد الهزة، تراجعوا عن الدور القيادي العالمي ومستحقاته الباهظة، فيما رفع الغرب (الولايات المتحدة وحلفاءها) من وتيرة العنف والتدخل المسلح في أرجاء عديدة من العالم، ورفعوا شعارا عدوانيا شرسا " من ليس معنا فهو ضدنا ".
اليوم تعاني الولايات المتحدة من مظاهر التعب في أكثر من مجال، هي ليست ضعيفةـ ولكنها تعاني من مشكلات جمة، وفي مقدمتها عدم قدرتها التفاهم مع الآخرين بما فيهم الحلفاء، والسبب أنها نريد من الجميع الانصياع لأوامرها وتوجيهاتها، وهي في هذا لا ترى إلا مصالحها، أما مصالح الآخرين فهو أمر مؤجل بأستمرار، وهكذا تضخمت قائمة وجدول أعمال الخلافات الأمريكية مع أصدقاءها ومع الأطراف الأخرى في الساحة العالمية في آن واحد .
الولايات المتحدة تدرك أن مواصلة الخط السابق هو غير ممكن، ولكن التراجع عن متر في ساحات المواجهة، يعني تقدم قوى (غير حليفة) وخسارة تدريجية في خطوطها الدفاعية .. وهي وحلفاءها ليسوا متفقين على نهجها في معظم الخطوط العامة وفي التفاصيل .. هذا هو بأختصار المأزق الناجم أصلاً عن سياسة مواجهة وتوتير المواقف وتصعيدها وهي سياسة انتهجتها الولايات المتحدة منذ 1949 وحتى الآن دون توقف. تلجأ الولايات المتحدة إلى تصعيد في الموقف في أوربا من أجل رص صفوف حلفاءها خلفها، ومواصلة الدور القيادي بتكاليفه ومزاياه .. كما تفعل في أرجاء أخرى، حين تدفع إلى تدهور الوضع، لكي تواصل بيع الأسلحة، وتبقي الجميع تحت مظلة حمايتها . فهي سياسة باتت معروفة رغم أن الولايات المتحدة حاولت تغليفها بشتى اللافتات والشعارات.
بالطبع يمكن صياغة ملامح استراتيجية موحدة في المنطقة (العالم العربي / الشرق الأوسط) ولكن ذلك من المهام الصعبة بسبب طغيان النظر إلى المصالح الخاصة بكل دولة، والميل إلى اللعب الفردي، والميل المفرط للزعامة واستعراض المهارات ومحاولة جني مكاسب، مع الإدارك أن هذه المكاسب عرضة للفقدان لأنها بلا أسس ولا ركائز لذلك فهي عرضة للفقدان.
بسبب هشاشة الوضع الداخلي في البلدان المستهدفة، بمفرداته يسهل التدخل من قبل القوى الأجنبية، بل وتصبح ميادين هذه البلدان ساحة تنافس وصراع قد يكون في إحدى مراحله صراعاً مسلحاً، وتتحول قدرات ومزايا البلدان إلى ساحة قتال تدمر القليل من تلك القدرات، وتلحق بها جروحاً ليس من السهل تجاوزها. ثم في نهاية المطاف، تصبح فقرة في مفاوضات يجري التلاعب في مصائر البلدان وشعوبها .
الولايات المتحدة الأمريكية هجمت على الشرق الأوسط بكامل قواها العسكرية والسياسية، ورمت بنفسها في أتون شبكة التناقضات المعقدة، ومثلها مثل الطبيب الجراح الفاشل، الذي يجري عملية فتح لشخص على طاولة العمليات، ويمسك بيد كتاب " كيف تجري عملية ناجحة " بمعلومات وحسابات دفترية واستناداً لتقارير فاسدة من خونة، ومصالح أعضاء مجلس الأمن القومي النفطية خاضوا مغامرة منذ 18 عشر سنة وما زالوا يتخبطون وقد خسروا الخيط والعصفور .. دمرونا صحيح ... ولكن هم أيضاً تدمروا ...! وهذا هو التدمير المزدوج ..!

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

626 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع