جودت هوشيار
ماكرون.. المفتون بدوستويفسكي
استهل الرئيس الفرنسي إيمانوئيل ماكرون زيارته الأخيرة الى لبنان بزيارة الفنانة الكبيرة فيروز، وتقليدها وسام جوقة الشرف، وهي أعلى وسام في فرنسا، على خلاف الرؤساء الآخرين،الذين لا يخطر ببالهم زيارة أي فنان أو كاتب أو عالم شهير لدي زيارتهم للبلدان الأجنبية.
وقد اثبت ماكرون انه جدير بالمجد الفني والأدبي الفرنسي، فهو يولي اهتماما كبيرا بالأدب والمسرح والموسيقى، وكان يحلم في شبابه أن يكون كاتبا، حتى انه كتب رواية طويلة من (300) صفحة عندما كان في السادسة عشر من عمره. ضاعت مخطوطة الرواية ولكن ماكرون لم يتغيّر، حتى بعد وصوله الى سدة الرئاسة في فرنسا. فقد ظل قارئا نهما للروائع الأدبية، ويبدو أنه مفتون بروايات فيودور دوستويفسكي، ولا يتوانى - حتى في مؤتمراته الصحفية المشتركة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين – عن تضمين تصريحاته مقتطفات من روايات الكاتب الروسي العظيم.
يقول ماكرون في كتابه “ثورة” الذي صدر في نوفمبر 2016 عشية الحملة الإنتخابية في فرنسا: “اننا نشارك روسيا في القارة الاوروبية، وفي التأريخ والأدب، فقد عاش تورغينيف في فرنسا، وأحبّ بوشكين بلدنا، وكان لتولستوي وتشيخوف تأثير كبير في الأدب الفرنسي .”.
حقا لقد عاش الكاتب الروسي الكبير إيفان تورغينيف (1818 – 1883) الجزء الأكبر من حياته الأبداعية في فرنسا، وكانت تربطه علاقات صداقة وثيقة بأهم الكتّاب الفرنسيين وفي مقدمتهم غوستاف فلوبير.وكان تورغينيف يحيط الكاتب – المبتدئ في ذلك الحين - جي دي موباسان برعايته ولا يبخل عليه بنصائحه الأدبية الثمينة. وقد اهدى موباسان روايته الأولى “ الحياة “ الى تورغينيف.
أما أمير الشعراء الروس الكساندر بوشكين ( 1799-1837) فانه كان يكتب رسائله في العادة باللغة الفرنسية. وثمة في الأصل الروسي لرواية ليف تولستوي “ الحرب والسلام “ صفحات كثيرة مكتوبة باللغة الفرنسية لأنها هي التي كانت سائدة في صالونات المجتمع المخملي الروسي في العهد القيصري. كما ان اللغة الفرنسية كانت اللغة الأجنبية الرئيسية في المراحل الدراسية كافة، حتى ان الكاتب الروسي الشهير اسحاق بابل (1894 - 1939) كتب اولى اعماله الأدبية باللغة الفرنسية.
الوشائج الثقافية بين فرنسا وروسيا قديمة وتمتد جذورها الى عدة قرون حيث بدأت في عهد القيصر اسكندر الاكبر وظلت قوية ووثيقة حتى يومنا هذا.
الاعمال الادبية الفرنسية كانت وما زالت تترجم اولا باول الى اللغة الروسية. وبالمقابل فان رحلة عمالقة الأدب الروسي (بوشكين، غوغول، تولستوي، دوستويفسكي، تشيخوف، بونين) الى القاريء الأوروبي، كانت تبدأ من فرنسا في العادة، حيث تترجم على نطاق واسع الى الفرنسية قبل اللغات الأوروبية الأخرى.
وخلال زيارة ماكرون الى روسيا عام 2018، قال في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، :” أعتقد أنه يجب علينا أن نحدد، كما قال دوستويفسكي، الأرضية الحقيقية للمصالحة لجميع التناقضات الأوروبية”.
واضاف ماكرون :” عام 2018 هو عام اللغة والأدب، الذي حل محل السياحة الثقافية في عام 2017. وانتم تعلمون ان العام الماضي كان ناجحا للغاية بفضل مجموعة لوحات (شوكين) المعروضة في باريس، ومجموعة اللوحات الفنية من متحف اللوفر،التي عرضت في موسكو. غدا سنتحدث عن (بيتيبا)، الذي يصفه البعض بأنه فرنسي، ويصفه البعض الآخر بأنه روسي. إنه في الواقع فرنسي ومن مرسيليا، وقد منحته روسيا ثقة كبيرة، حيث اسهم على نحو ملموس في تطوير الباليه الروسي“.
تجدر الإشارة هنا الى أن سيرجي ايفانوفيتش شوكين (1854 – 1936) ثري روسي من العهد القيصري كان في غاية الذكاء، ويتحرى - خلال زياراته المتكررة الى باريس - عن الفنانين الشباب الواعدين، ويقتني لوحاتهم الحداثية الرائعة من شتى الاتجاهات الفنية. بعد ثورة 1917 وتأميم قصره الباذخ، والأستيلاء على مجموعة لوحاته النادرة، لجأ شوكين الى فرنسا وعاش فيها حتى وفاته، حيث دفن في احد مقابر باريس. وقد اصبحت مجموعته الأساس لمجموعات اللوحات الفرنسية الحداثية في متحف ايرميتاج في سانت بطرسبورغ ومتحف بوشكين الفني في موسكو.
اما فيكتور ماريوس ألفونس بتيبا (1818 – 1910)، فهو راقص باليه، ومعلم ومصمم رقصات باليه، فرنسي الجنسية، ويعد معلم الباليه الأكثر تأثيرا في تطور هذا الفن الرفيع.
وفي مستهل زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الى فرنسا عام 2019 عقد الرئيسان مؤتمرا صحفيا مشتركا، وقد ذكّر ماكرون ضيفه الروسي والصحفيين بفقرة من رواية “المراهق“ دوستويفسكي التي يشير فيها الكاتب العظيم الى ما يميز الانسان الروسي عن الفرنسي او الالماني وهذا التمايز – حسب دوستويفسكي – يكمن في ان الانسان الروسي كلما كان روسيا اكثر اصبح اوروبيا اكثر. وان سمات الانسان الروسي تتجلى على نحو كامل عندما يعتاد على الثقافات الاوروبية الاخرى، على النقيض من ممثلي شعوب أوروبا الغربية، الذين يتم الكشف عن إمكاناتهم من خلال الهوية.
وقد اشار ماكرون في مناسبات عديدة اخرى الى أقوال كتّاب روس آخرين منهم فلاديمير نابوكوف، والكساندر سولجنيتسين. وكتب ماكرون ذات مرة في صفحته الشخصية على موقع “ فيسبوك “ كلمة باللغة الروسية موجهة الى الشعب الروسي.
في العام الماضي منح ماكرون وسام جوقة الشرف الى الكاتب الفرنسي الشهير ميشال اولبيك خلال حفل اقيم لهذا الغرض. وكان من بين الحضور، الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، والكاتب الفرنسي المعروف فردريك بيجبدير. واشار ماكرون في كلمته التي القاها خلال الحفل الى ان روايات اولبيك تدل على انه كاتب رومانسي في عالم أصبح مادياً. واضاف ماكرون، ان اعمال اولبيك ليست تشاؤمية، بل مليئة بالأمل بمستقبل أفضل.
ماكرون يتابع عن كثب المشهد الثقافي الفرنسي،حتى في ظروف العزل الاجتماعي بسبب جائحة كورونا وقد عقد قبل حوالي شهرين اجتماعا ضم كبار الشخصيات الثقافية وقال ماكرون عقب اللقاء: “سنقدم الدعم اللازم الى الفنانين والكتّاب والمخرجين والعاملين في المسرح. واصاف قائلا : “نحتاج الى احياء المراكز الابداعية وعودة الجمهور”.
329 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع