د. زكي الجابر
هناكَ تَنميةٌ وهناك تنميةٌ مُستَدَامة
إعداد وتعليق د. حياة جاسم محمد
لكَ أن تقولَ إنّها تنميةٌ مُستديمةٌ إذا ما شئتَ أن تحتَفِظَ التنميةُ بحيويَّتِها الداخليّةِ وقُدرتِها على الإنتاجِ وإعادةِ الإنتاجِ، ولكَ أن تقولَ مُستَدامَةً إذا ما احتفظتَ للإنسانِ بحقّهِ في تحريكِ عَجلتِها، وأمامَكَ الكثيرُ من الأدبيّاتِ التي تقولُ بأن الإنسانَ هدفُ التنميةِ وصانعُها.
لا أريدُ لي ولكَ أن نَدخُلَ في حَذْلَقَةٍ لُغويّةٍ، ولُغتُنا بحرٌ زاخرٌ لا يَقوَى على خَوضِه إلّا فقيهٌ لُغَويٌّ ماهِرٌ، ولكنّي أتحدثُ إليكَ ببساطةِ مَن يُريدُ أن يُطارِحَكَ الرأيَ ويُشاطِرَكَ الهَمَّ، هُناكَ تنميةٌ وهناك تنميةٌ مستدِيمَةٌ مُستَدامةٌ، واختصاراً نكتفي بمُستَدامة لِما بينَ المُصطَلَحَينِ من تَداخُلٍ وتَكامُلٍ ولِما في تَعريبِ المُصطَلَحِ من اجتهاداتٍ والتِباسات.
هُناكَ تنمِيةٌ ذاتُ مفهومٍ تقليديٍّ يركِّزُ على الإنتاجِ مع غَضِّ النظرِ عن مشاكِلِ توزيعِ هذا الإنتاجِ، والتنميةُ بهذا المفهومِ لا تكادُ تبتعدُ كثيراً عن المعنَى اللُغَويِّ الذي يقولُ بأن تَنمِيةَ الشئِ تعني ارتفاعَهُ، ونُمُوَّ المالِ يعني زيادَتَه. إن التنمِيةَ بهذا المعنَى ترَى الاقتصادَ المِحورَ الأساسيَّ للتنمية.
وعِندَ التَطَرُّقِ إلى المشاكلِ الناجِمةِ عن اقتصارِ التَنمِيةِ على نُمُّوِ الناتجِ القوميِّ الإجماليِّ، وإذا كان الاختصارُ أمراً لا بُدَّ منه، فإنَّ أيَّ اختصارٍ لتلكَ المشاكلِ لا يستَثني غيابَ الزيادةِ في فُرصِ العملِ، الشعورَ بالرِضا، حقوقَ الإنسانِ، الفُرَصَ المُتاحَةَ، الحُرّيّاتِ العامّةَ، استهلاكَ الثرواتِ الطبيعيةِ، مُستَحَقّاتِ الأجيالِ القادِمة.
إن الحديثَ عن تلك المشاكِل يقودُ حَتماً إلى التعرُّضِ للمفهومِ الآخَرِ للتنميةِ، أعني التَنمِيَةَ المُستَدامةَ التي تَعتَبرُ تغييرَ الإنسانِ أثمنَ رأسمالٍ وتَضَعُ نوعيَّةَ حياتِه وبِيئتِه في صُلبِ اهتماماتِها من غَيرِ إغفالٍ لِزيادةِ الإنتاج.
إنَّ هذا الضَرْبَ من التنميةِ يقومَ على رَدمِ الشُروخِ الاجتماعيّةِ ومُقاومةِ اللاتوازُنِ بينَ الغِنَى الفاحشِ والفَقرِ المُدقِعِ، كما يقومُ على ضَرورةِ التصرُّفِ العقلانيِّ بالمَوارِدِ النافِدَةِ والمَحدودَةِ، وذلك يُمَكِّنُ أداءَ ما يتطلّبُه الوفاءُ بحاجاتِ أبنائِنا وأحفادِنا من غيرِ إضرارٍ بالوفاءِ بما هو قائمٌ وما يَستجِدُّ من حاجاتِنا.
لقد صادقَ مؤتَمرُ الأممِ المتّحدةِ المعنِيِّ بشؤونِ البيئةِ والتَنمِيَةِ على مجموعةٍ من الأهدافِ والفعّالياتِ في قائمةِ أعمالِ القرنِ الحادي والعِشرين، واستناداً إلى هذه القائمةِ فإنّ الهدَفينِ الأساسيّينِ هما:
- الحَدُّ من ضُروبِ الاستهلاكِ وأنماطِ الإنتاجِ غيرِ المُستَدامِ بالإضافةِ إلى مُعالجةِ الآثارِ السالِبةِ على البيئةِ الناجمةِ عن العواملِ ’’الديمُغرافيّةِ‘‘ في إطارِ المُحافَظَةِ على تَمكُّنِ الأجيالِ القادمةِ من تَلبيَةِ احتياجاتِها.
وهنا يُطرَحُ التساؤل عن صُعوبةِ المحافظةِ على مُستَوى عَيشٍ كريمٍ في الحاضرِ، وفي الوقتِ نفسِه عَدمُ تناسي اختياراتِ الأجيالِ المُقبلةِ وحَظِّها من نعيمِ الحياة.
إن الجوابَ يَكمُنُ في تخطيطٍ مَرِنٍ يأخذُ بالاعتبارِ مُقوِّماتِ ما هوَ تَنميَةٌ ومُقوِّماتِ ما هو تَنميَةٌ مُستَدامة، مع التركيزِ على مجالاتِ التقاطُعِ في الحاضِر والمستقبل.
إن الانطباعَ المُرتَسِمَ في الأذهانِ هو أنّنا على امتدادِ الوطنِ العربيِّ في حاجةٍ ماسّةٍ إلى التفكيرِ المُعَمَّقِ عند استغلالِ ثرواتِنا الطبيعيّةِ من ’’پترول‘‘ ومَعادِنَ وماءٍ وغاباتٍ وأسماكٍ وحيوانٍ وتُربةٍ. إنَّ أيَّ نَمَطٍ من أنماطِ استغلالِ تلكَ الثَرواتِ لا ينبغي له أن يأخُذَ في حساباتِه الحاجَة العاجِلَة فقط، إن الاستجابةَ العاجلةَ للحاجةِ العاجلةِ تَعني الإخلالَ بالشُروطِ الأساسيّةِ للتنميةِ المُستَدامَة.
وإذا ما كُنّا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى التفكيرِ المُعَمَّقِ من أجلِ تَحديدِ سياساتِنا الاقتصاديّةِ وصولاً إلى التجاوُبِ مع مُتطلَّباتِ الحِفاظِ على البيئةِ فإنَّ سياساتِنا الاجتماعيّةَ في حاجةٍ أيضاً إلى إعادةِ النظرِ والتَجديدِ بالأخصِّ في مجالِ اكتمالِ المرأةِ لِحُظُوظِها من المكانةِ الاجتماعيّةِ وما يرتبطُ بهذه المكانةِ من قَضايا مُزاولةِ العملِ والحِفاظِ على الصحّةِ وتربيةِ الأطفالِ وتوفيرِ التعليمِ والحُصولِ على المهاراتِ والتدريبِ الحِرَفِيّ.
إنَّ الحاجةَ ما زالتْ قائمةً ومُلِحَّةً للشُروعِ بتأسيسِ الآليّاتِ لضَمانِ تعزيزِ مُشاركةِ المَرأةِ في عمليّاتِ التنميةِ المُستَدامة، وأُولَى هذه الآليّاتِ إنشاءُ مُؤسَّسةِ الزواجِ على الشَراكةِ والحُبِّ والتَدبيرِ والقَضاءُ على مُمارساتِ التَمييزِ ضدَّ المرأةِ وإنهاءُ الأساليبِ اللاإنسانيّةِ في التَعامُلِ معها. إنَّ بِناءَ مُؤسَّسةِ الزواجِ على أُسُسٍ سليمةٍ يُؤدّي بدورِه إلى خَلق جَوٍّ أُسَريٍّ سليمٍ يتهيّأُ فيهِ الأطفالُ لممارسةِ ما يصلُ بهم إلى الارتفاعِ في مستقبلهِم بمُستَوى عَيشِهم وتَفاعُلِهم مع جَمالِيّاتِ الحياة.
السياساتُ الاجتماعيّةُ الجَديدةُ تأخُذُ في اعتبارِها مشاكلَ القَهرِ وإخضاعِ الناسِ دونَ تفريقٍ إلى الامتثالٍ لسُلوكٍ جماعيٍّ تَسِنُّ شِرْعَتَه ’’البيروقراطيةُ‘‘ ومشاريعُ تكوينِ إنسانٍ يستجيبُ انعكاساً لإغراءاتِ الإعلانِ والاستهلاكِ العاجلِ وبصورةٍ تتّصفُ بالسَلبيّةِ والخُمول.
كما أنَّ تلكَ السياساتِ الاجتماعيّةَ الجديدةَ لا يُمكنُ لها أن تَنسَى، والقرنُ الحادي والعِشرونَ يَطرُقُ الأبوابَ، قضايا التَفسُّخِ الأخلاقيِّ، وما قد يُصيبُ القِيَمَ الفاضِلَةَ مِن خَلَلٍ نتيجةَ استعمالِ المُخدِّراتِ وشُربِ الخُمورِ وتَناقُلِ الأمراض. إنَّ تفشِّيَ هذه الأوبئةِ الاجتماعيّةِ يَنتَهي إلى انهيارِ الأُسرةِ وانحرافِ المُراهقينَ وشُيوعِ البطالةِ والمرضِ والتَشرُّدِ والجُوعِ، ويؤدّي إلى عَجْزٍ في السواعِد التي تَبني وفي العقولِ التي تفكّرُ في هذا الجو من التفكُّكِ الإنسانيِّ، وتتلاشَى مُقوِّماتُ التَنميةِ المُستَدامةِ، وينتابُ المؤسساتِ الاجتماعيّةَ والاقتصاديّةَ الخوفُ، ويَحُولُ الضَعفُ العامُّ بينها وبين ممارسةِ عملِها في تدبيرِ الشؤونِ العامّةِ وتَقديمِ الخدَماتِ النافِعةِ للصالِحِ العامّ. هناكَ تَنمِيةٌ وهناك تَنمِيةٌ ’’مُستَدِيمةٌ‘‘ مُستَدامة، ومع إطلالةِ القرنِ الحادي والعشرينَ تبدُو التنميةُ ’’المُستدِيمةُ‘‘ المُستَدامَةُ وما يترتَّبُ عليها من قراراتٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ واجتماعيّةٍ من أُولَى الأَولوِيّاتِ إنْ لم تكنْ أُولاها.
************************
نشرت في صحيفة ’’البيان‘‘ (الإمارات). لم يَتَسَنَّ العثورُ على تأريخ النشر.
1157 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع