الزعزعه

                                                   

                           ابراهيم الولي*

الزعزعه - Destabilization

تعريف : الزعزعه بالعربيه تعني هز الشيء وتحريكه بسرعه ، فزعزعة الإيمان تعني تقويض إيمان شخص او جماعه أو شعب، كما يمكن القول أن أساسات المبنى تزعزعت بفعل العاصفة. أما في اللغات اللاتينية عموما فهي تعني حصرا نقيض الإستقرار ذلك أن de تعني نقض ما يليها وهي الإستقرار stabilization .

أما في السياسة والعلاقات الدولية فهي تعني : التدخل من قبل دوله في شؤون غيرها من الدول التي تعتبرها ممن يهدد مصالحها أو تكون متعاونة مع أعداءها عبر تخطيط وتنفيذ عمليات إقلاق لأمنها وإضعافه لشل إرادته وتأثيره حتى لقد يؤول الأمر الى تغيير نظامه السياسي ليحل مكانه نظام ضعيف وربما عميل لتلك الدوله ، أي أن الزعزعه هنا تعمل على تخريب السلطه السياسيه أو العسكريه أو الإقتصاديه في البلد المستهدف ، يكون كل ذلك من خلال إستخدام قوة ناعمة أو خشنه.
والزعزعه ، في نظري ، جانب مهم من تطبيقات لعبة الأمم خصوصا الصفريه منها ، مثلما هي الجيوبوليتيك ، أقول صفريه لأن مرتكبها دولا أو أفرادا، إنما يهدفون من وراء فعلتهم إلحاق الأذى الكامل بمن يستهدفون دون أن يلحق بهم هم أذى.
عناصر الزعزعه: الثورة والإرهاب أو الحرب ، إستقرار النظام السياسي يكون حيث تكون الدوله قادرة على القيام بمسؤولياتها تجاه الشعب بصورة ثابتة ومستمرة، وبعكس ذلك فإن عدم الإستقرار سواء وقع بفعل زعزعة خارجية ، يكون سببه التنافر في داخل الدولة ، الذي إن تفاقم فسيقود حتما الى إنقلاب أو حرب أهلية أو ثورة وإرهاب.
وللزعزعة وجهان : داخلي وخارجي وهما يتخادمان سرا أو علانية فيما بينهما. فالداخلي منها يكون على إنتشار الرشوة والفساد بشكلين ، بحسب منظمة الشفافية الدولية Transparency International، ظرفي situative هو الفساد العرضي البسيط كالرشوة في الوظائف العامه والتعاملات . وهيكلي structural وهو ما يتعلق بحالات فساد أكبر كالإختلاس الواسع في نهب المال العام من خلال التدخل في التعاقد على مشاريع صناعية أو عسكرية وإقتصادية في صناعة النفط خصوصا وكذلك المزايدة على تعيينات في مراكز مهمة في الدولة كالوزارات أو مجالس النواب . ويدخل في هذا الباب الإستحواذ بصور ملتوية وغير شرعية على ممتلكات الدولة وعلى المال العام.
فالزعزعة الداخلية تجد هنا الجو الملائم لإستشرائها حيث تختفي الحوكمة الرشيدة والشفافية في التعامل بين الحاكم والمحكوم، فيتآكل الإستقرار حين يلجأ الحاكم الى إستخدام القوة ، فعدم الإستقرار تزداد وتيرته بتزايد المطالب السياسية ولعدم قدرة المؤسسة السياسية على الإستجابة لتلك التطلعات ، فالقوة لا تلغي المطالب السياسية ، وكما يقول الفيلسوف هنتنتجون Samuel Huntington، إن عدم الإستقرار يساوي المطالب السياسية مقسومة على المؤسسات السياسية.
ذلك عن الزعزعة من داخل الدولة ، أما الخارجية منها فأسبابها عديدة تتعلق بطموح الدول في التمدد خارج حدودها إما لحاجة مادية، كالحاجة الى مصادر مياه ـ أو نقص في موارده الطبيعية التي تراها في يد جيرانها، أو لفرض منطقة نفوذ لها في الدولة المستهدفه، ولأسباب جيوبوليتكية تتعلق بالسكان وبالمعتقدات أو ما يتعلق بالجغرافيا والتاريح وما الى ذلك من أسباب. عندما تتوفر لدى الدول تراها تلجأ الى الزعزعه كأداة دفاع أو هجوم ، فالهدف واحد وهو إضعاف الآخر لتحقيق الغرض من اللجوء الى لعبة الأمم هذه.
الثورة كأهم عناصر الزعزعه:
قد يكون من حظي أن عايشت ثلاث زعزعات في حياتي – وأنا أحترم هذه الثورات وأقدر دوافعها –
أولها : ثورة 23 يوليو 1952 في مصر ، وكنت في عام تخرجي من جامعة فؤاد الأول في القاهرة ، أطاحت هذه الثورة بالنظام الملكي الذي كان مستقرا نوعا ما .... وبما أن النظام الجمهوري أقدم على إصلاحات جذرية تتعلق بالملكية الزراعية وبتأميم قناة السويس فإن ذلك إستدعى زعزعة خارجيه أدت الى وقوع عدوان ثلاثي بريطاني فرنسي إسرائيلي 1956 وهو إن كان قد فشل إلا أنه أحدث زعزعة لكيان الدولة والمجتمع توضحت تردداته في مقاطعة أمريكا لمشروع السد العالي ومنع السلاح وأعمال عدائية ظلت الثورة تعاني منها فكانت زعزعة خارجية تسللت الى نسيج الشعب المصري لتمزقه ، تستعدي عناصره على بعض فلم تنعم مصر بإستقرار حقيقي لأمد طويل.
ثانيها: ثورة 14 تموز 1958 في بلدي العراق ، وكنت وقتها موظفا في وزارة الخارجية، قضت الثورة على النظام الملكي الذي كان هو الآخر مستقرا نسبيا، أعقبه نظام جمهوري متقلب الأوجه، ودخل العراق في دوامة حروب إختلطت معايير النجاح والفشل فيها هنا وهناك. وقد جوبهت الثورة بزعزعة دولية لا ترحم . قبل كل شيء لم يكن الغرب راضيا عن مشاريع تأميم شركات النفط وتعاظم التنافس بين الشرق والغرب على إستمالة النظم الجديدة وشجعت بالمال والسلاح والتآمر على وحدة البلاد فكانت حروب بين الحكومة والشعب الكردي وبدأت حركات ثورية يقودها الغرب بشكل معارضة عراقية في عواصمه يقابل ذلك دخول ايران في المعادلة عندما رعت فئات عراقية بالمال والتدريب والتوجيه ، رافق كل ذلك زعزعة بدأت بقيام الجمهورية الإسلامية في إيران التي بدأت بفلسفة الإمام الخميني القائمة على مبدأ تصدير الثورة الإسلامية الى خارج حدودها بما يعني الدعوة الى إتباع المسلمين لولاية الفقيه ، وهو أمر زعزع وما يزال يزعزع المجتمع العراقي القائم على تنوع ديني ومذهبي وقومي هو مصدرمن مصادر قوته وعملت الزعزعة على إبعاد العراق عن حضنه العربي حتى ثبت ذلك بالدستور، الذي قلت فيه أنه بدا لي كأنه كتب لغيرنا بأيدي غيرنا، على أي حال لا بد من إستقراء الجيوبوليتيك في حالة البلدين الجارين المسلمين ... إيران لها حدود طويلة جدا مع العراق وهو واقع في طريقها الى الغرب أعني الى البحر الأبيض المتوسط ، فكان لزاما ومنطقيا أن ترى زعزعة العراق كي يكون المجال الحيوي لإيران فهو خط دفاع لها من الغرب ، والعلاقات الإقتصادية مهمة جدا لإيران إذ ترى ميزان المدفوعات يميل بشده لصالح الجار الأكبر والأقدر على التصدير ليس بالمواد الغذائية أو الغاز لتشغيل الكهرباء أو مواد صناعية مختلفة كلها زعزعت الصناعة العراقية وأفلست زراع البلاد وأثقلت كاهل الخزينة المستدينة. و لإيران مشاكل و خصومة مع الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق ببرنامجها النووي و الصاروخي و تدخلها الاقليمي ، فكانت شبه حرب بالوكالة تجرى بينهما على ارض العراق غالبا ما يكون احد طرفيها جماعات مسلحة توالي ايران ، و الضحية في هذه التقاطعات هو الشعب العراقي الذي تقع عليه الزعزعة من الجانبين. ومن عناصر الزعزعة من جارتين لنا إيران وتركيا وتظل مأساة مصادر المياه، فأما إيران التي لها أكثر من عشرة روافد تصب في العراق، بدأت تبني السدود في داخل إيران فيتوقف دخولها العراق بما سبب ويسبب أفدح الأضرار على الزراعة والبشر في المناطق الشرقية من العراق، والأمثله لهذا : نهر الكارون الذي كان يغذي شط العرب بالماء العذب فتغير إتجاهه الى الخليج العربي ، ونهر الكرمه ونهر الوند عن خانقين، ونهر سيروان الذي يغذي دربندي خان وأنهار الطيب وعويريج وكنجان جم وكنكير وغيرها، هذا وجه واضح من ممارسة الزعزعة السياسية والإقتصادية.
أما عن الجارة تركيا ، فزعزعتها للعراق تتمثل في أمرين : أولهما تدخلها العسكري الفاضح في شمال العراق بحجة محاربة البي كي كي PKK فهي في الواقع تخرق السيادة العراقية بحسب القانون الدولي وتلحق الضرر بالجزء الشمالي من الوطن ، أعني كردستان. والأمر الثاني : إصرار تركيا على تشغيل سد أليسو الذي بنته عام 2018 على منابع نهر دجله في تركيا وبهذا بدأ ينخفض مستوى نهر دجله بإستمرار وكذا الأمر مع نهر الفرات ، والزعزعه هنا هيدروليكية تلحق الضرر البالغ في الضرع والزرع والبشر في العراق – الملاحظ أن تركيا تصر علنا على أن المياه شأن داخلي من حقها التصرف به بينما تفعل إيران القطع سرا دون إعلان.
وثالثها: ثورة 26 أيلول 1962 في اليمن السعيد، وكنت حينئذ القائم بأعمال المفوضية العراقية في صنعاء ، أطاحت هذه الثورة بالحكم الملكي أو حكم الأئمة وكان آخرهم البدر. هذه الثورة تعرضت لزعزعة شديدة دامت لزمن طويل حتى الآن والعالم يشهد على تمزيق النسيج اليمني نتيجة تدخلات خارجية بدأت أوائل الثورة بمناكفة بريطانيا التي كانت تحتل الجنوب وكذلك المملكة العربية السعودية التي رأت في النظام الملكي على حدودها الجنوبية أضمن لأمنها الوطني. ودخلت البلاد في سلسلة من التقاطعات الدولية كل يزعزعه لمصلحه جغرافية وإقتصادية، فسواحل اليمن الطويله على البحرين الأحمر والعربي ، ومضيق باب المندب ووفرة المعادن والنفط والغاز، كلها خلقت جوا جاذبا للتدخل الأجنبي غربا وشرقا. كل يزعزع على طريقته ، حتى بدأت ثورة الحوثيين فتدخل العنصر الإيراني ليشد من أزر هؤلاء الإنفصاليين بمدهم بالسلاح والمال والتدريب، ويغير من عقيدتهم الزيدية الى ولاية الفقيه التي يجاهرون بها الآن ، وهكذا فعلت الزعزعة في اليمن الذي لم يعد سعيدا كما كنا ندعوه ، وقتال الإخوه مستمر منذ زمن، أفقرت الناس وزادت من نفرتهم من بعضهم وخربت ما كان عامرا وهكذا هي لعبة الأمم وكأني بحرب بالوكالة قائمة بين دول عربية وغير عربية على أرض اليمن الخاسر وشعبه المريض الجائع. فالزعزعه لا تعرف الرحمه.
بقي من عناصر الزعزعه الإرهاب والحرب:
لا أظن أحد يغفل عن دور الإرهاب والإرهابيين في زعزعة الدول والمجتمعات التي تستهدفها بصرف النظر عن أهدافهم المعلنة سواء كان السبب دينيا كما هو جار على الساحة العربية والإسلامية بل الدولية بشكل عام ، والأمثلة عديدة فالدعوة للدولة الإسلامية ظلت تزعزع بشدة المؤسسات والمجتمعات تلك حتى بلغ تأثيرها الولايات المتحدة وبعض دول أوروبية. وإرهاب الدولة ظهر في الآونة الأخيرة على شكل أحزاب تتعسكر وجماعات وعصابات وميليشيات تعمل على زعزعة المجتمعات العربية والإسلامية خاصة وقد بلغ بعضها من القوة والسطوة أن نافست الدولة في أمنها.... وها نحن نرى جماعات عديدة في العراق وعلى إمتداد الوطن العربي تزعزع النظام العام تحت غطاء شعارات معتدله ظاهريا لكنها تبطن تطلعات ترعاها دول هي الأخرى مزعزعة ولا أسمي.
أما عن عنصر الحرب ودوره في الزعزعة فذاك تحصيل حاصل فالحرب إن وقعت في مكان ما فإنما كانت الزعزعة بكل أشكالها أوصل الدول الى التحارب بصرف النظر عن الدوافع ، فالزعزعة عندما تدول فهي إنما تستهدف النظام الدولي أو العالمي الذي هو مجموعة القواعد والمعايير والأعراف في رأيي (عقل جمعي عالمي) يحكم العلاقات بين الجهات الفاعله الأساسية في المحيط الدولي، وهو عادة ما يعمل بنظام توازن القوى بين الدول.
تلك هي الزعزعة بإيجاز ... مرة أخرى أقول أنها من أذرع الجيوبوليتيك ولعبة الأمم.
حمى الله العراق من اصدقاءه وأما أعداءه فإن شبابه وشيبته المخلصين كفيلون يحمايته وإنما أود تذكيرهم بما لا ينسى.
والله من وراء القصد.

*سفير عراقي سابق

  

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

391 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع