عوني القلمجي
صمود الناصرية اكثر من اسطوري
هذه ليست المرة الاولى التي تتعرض فيها محافظة الناصرية الى مجزرة وحشية ومتواصلة على مدى عدة ايام، ثم يصمد ثوارها بصدورهم العارية امام الرصاص الحي والقنابل الحارقة. فقد سبق لها وان تعرضت لمثل هذه المجازر. مرة على يد ما يسمى بالطرف الثالث، والمقصود المليشيات الولائية لايران، ومرة على يد عصابات مقتدى الصدر المتعددة الاسماء، واخرى على يد الحكومة ذاتها. ومثال على ذلك اقتحام المدينة من قبل الفريق الركن جميل الشمري بالدبابات والمدفعية، والتي راح ضحيتها عشرات الشهداء ومئات الجرحى في يوم واحد. الامر الذي ولد ضجة كبيرة واستياء شعبي عام، اجبر رئيس الحكومة حينها عادل عبد المهدي على اقالة جميل الشمري من منصبه وتقديمه الى لجنة تحقيقية لذر الرماد في العيون.
ويبدو ان هؤلاء الاشرار قد ادركوا تماما، بان هذه المدينة اصبحت في العقل الجمعي العراقي عاصمة الثورة العراقية، وان بقائها في يد الثوار يمثل تهديدا لوجودهم في السلطة. اما المحتل الامريكي ووصيفه الفارسي، فهما اكثر علما من غيرهما، بان استمرار ثورة شعبية من هذا الوزن الثقيل، يعد بمثابة سلاح الدمار الشامل الذي لا تقوى على مواجهته اكبر قوة احتلال في العالم. وهذا ما يفسر حرص المحتل وعملائه على قمع الانتفاضات العراقية وهي في مهدها، رغم سلميتها وتواضع مطالبها. وقد نجد نموذجا له، في حكومة نوري المالكي وخليفته حيدر العبادي. حيث واجه الاول الانتفاضات الشعبية التي قامت في عهده بالحديد والنار، الى جانب استخدام احقر الاساليب والوسائل لتشويه سمعة الثوار والصاق التهم الباطلة بحقهم. وتعامل الثاني مع انتفاضة البصرة العملاقة عام 2018، بان سمح للحرس الثوري الايراني والمليشيات المسلحة، وفي المقدمة منها مليشيات قيس الخزعلي، باستباحة المدينة وقتل ابنائها دون رحمة.
ومما يشجع هؤلاء الاشرار على المضي في خططهم الغادرة ضد ثوار تشرين، هو قناعتهم بان هذه الثورة لا تختلف عن سابقاتها، وبالتالي يمكن القضاء عليها، اما بالقوة العسكرية، او بالتحايل عليها بوعود وردية وبعض الاصلاحات الشكلية. بمعنى اخر فان هؤلاء الاشرار، لم يستعبوا بعد طبيعة ثورة تشرين ولا شمولية اهدافها السياسية، ولا شعارتها المطالبة باسقاط العملية السيايسة برمتها. بالمقابل لم يدركوا ايضا بان هذه الثورة هي ذات طابع شعبي عام، اي لم تقتصر على فئة معينة وليست محدودة ضمن نطاق مدينة او محافظة واحدة، فهي شملت معظم المدن العراقية، وشارك فيها عموم الشعب العراقي، اضافة الى كافة النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الفلاحية وطلاب المدارس والجامعات والوف النساء.
لا ننكر العقبات الكبيرة التي تعترض ثورة تشرين، والتي مازالت تعيق تحقيق مطالبها لحد الان. فمن جهة يصر هؤلاء على التمسك بالسلطة، واستعدادهم لقتل عشرات الالوف من الثوار بدم بارد. ومن جهة ثانية، لازالوا يحظون بدعم واسناد المرجعيات الدينة ذات التاثير الواسع، وعلى راسها المرجعية العليا ورئيسها علي السيستاني. الى جانب ذلك توفرهم على جيش من المرتزقة، من سياسيين ومثقفين واقلام ماجورة، مهمتهم اشاعة روح الياس في صفوف العراقيين، على امل تخليهم عن الثورة. حيث يروجون الى مقولات وانتقادات عمومية، تدغدغ عواطف الناس وتلهب حماسهم وتطلعهم للانتصار باسرع وقت. وكان من بين هذه المقولات، توصيف ما يحدث بانه مجرد تظاهرات عفوية لم ترتق بعد الى مصاف الثورة. وان شعاراتها عمومية ومطالبها مرتبكة، وانها لا تتوفر على قيادات وطنية بارزة، او رموز سياسية قادرة على استقطاب اوسع للجماهير، كما لم تحظ الثورة بدعم،عربي او اقليمي او دولي، سواء كان دعما ماديا او لوجستيا او اعلاميا. او لم تحظ حتى بحماية دولية ضد بطش السلطة، على الرغم من استشهاد المئات وجرح عشرات الالوف.
لكن ذلك كله، ورغم اهميته وخطورته على الثورة، لا يمثل حالة استثنائية تواجة ثوار تشرين لوحدهم. فقد واجهت الانتفاضات الشعبية التي قامت في العديدة من بلدان العالم المختلفة مثل هذه العقبات، وتمكنت من خلال مسيرتها النضالية من التغلب عليها، وانتهت الى تحقيق مطالبها كاملة غير منقوصة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، فان الثورة الفرنسية، التي تعتبر اعظم ثورة في التاريخ، كانت بدايتها عفوية، حيث اندلعت في العاصمة باريس جراء الاستياء العام الذي تولد عند اهالي العاصمة، بسبب تردي الاوضاع المعاشية، الى درجة اصبح فيها الحصول على رغيف الخبز غاية لا تدرك. ومع ذلك تطورت وانتظمت والتحق بها قادة ومفكرون. واليوم نرى الثورة العراقية قد تطورت هي الاخرى، وانتظمت والتحق بها قادة ومفكرون، تحت مظلة النقابات، مثل نقابة المحامين والاطباء والمهندسين. واذا كان ظرف الثورة العراقية لا يسمح بالاعلان عن هذه القيادات لاسباب امنية لا تخفى على احد، فهذا لا يعني عدم وجودها. والا كيف نفسر تنظيم نشاطات الثورة وتصعيدها في الوقت المناسب، او تامين متطلبات الثوار من دواء وغذاء، واسعافات اولية، او ضبط امن الثورة وحمايتها من اعدائها، وتوحيد الخطاب السياسي والاعلامي الخ؟
لا ننكر ولا نجادل بان انتصار الثورة ليس سهلا. لكن وقائع الثورة اكدت، بان الدماء كلما سالت اكثر اتسعت قاعدة الثورة جغرافيا وبشريا، وبالتالي فان الثوار لن يتوقفوا عند حدود التظاهر في ساحات التحرير، او ساحة الحبوبي في الناصرية وتلقي الضربات الموجعة، وانما سياتي اليوم الذي ينتقل فيه الثوار الى تصعيد نشاطاتهم باساليب جديدة قد تفاجئ الجميع. خاصة ونحن نتحدث عن ثورة لا تزال نيرانها مشتعلة وطاقاتها الثورية والابداعية متفجرة، اضافة الى ان افكارها قد تجذرت في اعماق المجتمع العراقي، حيث دخلت في كل بيت ومدرسة وجامعة ومعمل ومصنع ومسجد وحسينية وكنيسة. وما نشاهده اليوم من صمود في مدينة الناصرية خير دليل على ذلك. حيث يتمسك الثوار ببقاء هذه المدينة ثائرة لادراكهم بان سقوطها بيد الاشرار يعني بداية حقيقية لسقوط ثورة تشرين العظيمة.
على هذا الاساس لا اجازف اذا قلت، بان الموجة الثالثة من الثورة اتية لا ريب فيها، وبقوة اشد وزخم اكبر ومشاركة اوسع قد تتعدى الملايين. وما يجري في مدينة الناصرية من صمود اسطوري يشكل دلالة واضحة على قدوم اليوم الموعود. يوم الخلاص الوطني من هذه الطغمة الفاسدة. خاصة وان اطراف عملية الاحتلال السياسية توفر، مع مرور الايام، المبررات الكافية جدا لانتشار الافكار الثورية، بسبب سقوطها السياسي والاخلاقي المدوي، واصرارها على مواصلة العبث بشؤون البلاد والعباد، وعدم الكف عن ارتكاب الجرائم والسرقات. بعبارة اخرى اكثر وضوحا، ان يوم الزحف الكبير على المنطقة الخضراء قادم، وسيكون يوم المعركة الوطنية الكبرى، يوما ليس كبقية ايام الثورة. يوم تتبخر فيه قوة هؤلاء الاشرار، وتباع اسلحتهم بالشوارع والاسواق العامة، تمهيدا لهروبهم الى طهران على وجه التحديد. اما مصطفى الكاظمي وحكومته، التي تقف متفرجة على جرائم هؤلاء الاشرار، فانهم سيقعون حتما في قبضة الثوار وسيحاكمون امام العدالة وينال كل منهم الجزاء العادل، وستلاحقهم لعنة التاريخ وعار الخيانة الوطنية الى يوم الدين.
عوني القلمجي
1/3/2021
3591 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع