د. فاضل البدراني
يكلمني بعد ٣٠ عاما من نبأ وفاته
التقينا في قاعة الادريسي لإكمال إجراءات التسجيل في قسم الإعلام بكلية الآداب في جامعة بغداد مقبولين في مرحلة البكالوريوس في العام الدراسي 1985، وبدأنا مشوار اللقاءات في قاعات المحاضرات في بداية مشوارنا طلابا بعقلية شباب على الفطرة كما يقال (خام) ينتابنا الخجل عندما نتكلم مع أحد من الزملاء، نفتقر لأدوات الحوار بصياغة مدخل نقاش طبيعي وبناء علاقات زمالة يسودها الاندماج، المهم كنا خليط من محافظات العراق من أقصى جنوب العراق، من البصرة الفيحاء الى أقصى شمال العراق دهوك، ومن الأنبار غربا الى واسط شرقا، دفعة من طلبة جامعيين إنصهرت فيها ثقافة شباب العراق ليرسموا خارطة وطنهم الجميلة بألوان طبيعتها الخلابة، واجهنا انماط حياة وتقاليد وثقافات محلية يعكسها أبناء المحافظات من الجبل للسهل للهور للبستان للصحراء، وكان من بين دفعتنا، شاب طويل القامة، خلوق والهدوء مرسوم على وجهه الأسمر، ولمجرد ان تتحدث اليه، تكتشف الحياء الذي يتحلى به، كلامه موزون وهدوءه دافيء، كما نطلق عليه بالعراقي (كلش خوش ولد مؤدب جدا) هذا الشاب يحب أن يسلم على جميع الزملاء من أبناء دفعته، حيث كنا وقتها أربع شعب وكل شعبة فيها حوالي 40 طالب تقريبا، ولكن دوما ما تجده أسير للخجل الذي فرضته تأثيرات البيئة في ريف الدجيل شمال العاصمة بغداد.
المهم سارت بنا الأيام والأسابيع والفصول الدراسية، وفي كل يوم نمضي باتجاه تقدم يجعلنا نتعرف على مجاميع بعضنا بمحافظاتنا ال (18) لتتشكل بيننا علاقات زمالة وصداقات جميلة، وربما كان للزي الموحد الذي كنا نفتخر بارتدائه كونه يمثل هوية أكاديمية مميزة سحر في تطويعنا بعلاقات مشبعة بالإنسانية. ومن الأمور التي جعلت قسم الإعلام في كلية الآداب يتميز عن غيره من الأقسام العلمية الأخرى، كونه القسم العلمي الوحيد بالعراق من حصة جامعة بغداد في تخصص الإعلام والصحافة، فالبقية يقولون لنا أنتم الصفوة الجميلة التي تجمع كل العراق وأيقونة الآداب، مع أن قاعات قسم الإعلام كانت في بناية منعزلة خارج بناية الكلية، وهذا ما وفر علينا فرصة أن نتعارف مع طلبة المراحل الدراسية الأخرى.
وبالعودة للزميل الشاب الوسيم الخلوق المؤدب المتسامح الخجول الودود، وحقيقة لا أعتقد أحد من زملاء دفعتنا يختلف معي في نعته بهذه الأوصاف، إن لم يكن يزيد عليها لأكثر منها وصفا يستحقه، توطدت العلاقة معه، وصار ربما نقطة ارتكاز للبقية، إذ كان يقف في واحدة من أركان بناية قسم الإعلام، وفي فصل الشتاء إذا أختفى فأنظر لهذا المكان ستجده مع مجموعة من الزملاء، هذا المكان بالتحديد بالواجهة الشرقية لبناية قسم الإعلام المجاورة لبناية الآداب في الباب المعظم، وأقرب ما تكون الى الدرج، وتطل على هذا المكان أشعة شمس منعشة تكسبنا الطاقة والدفء، وتوفر لنا فرصة اللقاء، نتحادث ببعض سوالفنا الشبابية عن المحاضرات والأساتذة، وكان رحمه الله أستاذنا يونس الشكرجي غالبا ما ينال حصة الأسد من سوالفنا ونقاشاتنا عنه بل هو ذاته يأتينا يمشي متبخترا (يتمندل) أمامنا، بقفشاته وبكلامه الحاد الممزوج بالمزاح والاعتداد بالرأي وبتخصص تدريسه في التحرير الصحفي، يبتسم لهذه الطالبة وذاك الطالب. ومن نقاشاتنا عندما كانت بعض الزميلات الجميلات تمر من أمامنا، ومن مراحل أخرى فعيون بعضنا، تبدأ تتحدث وترتجف وابتسامات بعضنا تشرق على الوجه، وبعضها أخف منها، ترسم على الوجه دائرة من الآراء اللالفظية، أو الكلام المكبوت بداخلنا.
بعضنا كان يمازح وبعض آخر يكبت الخجل ما يجول بخاطره، حتى الابتسامة فأنها تصدر بحياء طافح، وكان زميلنا الخلوق الهاديء من ضمن الصنف الثاني. دارت بنا الأيام، وتبدلت أرقام السنوات وطوت ذكرياتها سفرها، وتدرجنا في المراحل الدراسية، حتى وصلنا الى المرحلة الأخيرة ( الرابعة) وقد انتقل قسم الإعلام الى داخل بناية كلية الآداب في 1989، وكانت في نظر الجميع لوحة (قسم الاعلام) العلامة اللافتة للنظر، إذ أحتلت مكانا مميزا مقابل أقسام (علم النفس والتاريخ واللغتين العربية والإنكليزية والفلسفة) والمعروف عن طلبة الإعلام مشاكسين الى الحد الذي تكثر الشكاوى لدى عميد الكلية، العالم الراحل الدكتور نوري حمودي القيسي رحمه الله وأحسن مأواه، وأبتلى بنا رئيس قسم الإعلام الأستاذ الدكتور الراحل خالد حبيب الراوي رحمه الله الذي أستلم رئاسة القسم من المخضرم الراحل الأستاذ الدكتور سنان سعيد، رحمه الله رمز قسم الإعلام وباني مجده لسنوات طوال.
وبالعودة لزميلنا الشاب الهاديء الطباع الكيس الشخصية، فعندما حصلت الإنتقالة بالقسم، لحظتها أختار أيضا مكانا مميزا في جانب من جدار قسم اللغة العربية حيث تشرق شمس العراق الشتائية ساطعة، فتبخر كل ما يتركه برد الشتاء، وكنا نسمي هذا المكان ( الكوزه) فبعض المرات تحجزه بعض البنات من أقسام أخرى طمعا بأشعة الشمس المشرقة العذبة، وفي كل مرة لمجرد نخرج من المحاضرة نعاني وطأة البرد نخاطب بعضنا لنذهب الى الكوزه، ولاحظت أكثر من كان يتعجل الخطى هو زميلنا الخلوق، وفي المكان دوما يتجدد اللقاء بيننا، وغالبا ما يأخذنا الضحك كثيرا لأن الطالبات يأتين للمكان الذي نسابقهن عليه وحجزه، فدائما ما تكون لغة العتب والكلام الأخرس منهن علينا بينما نحن مثل الشامتين بهن، نضحك ونمزمز بإيماءات الوجه مع بعضنا ونحتفل بالانتصار، وفي ذات مرة أنسحب هذا الزميل الخلوق، وأبلغنا انه يخجل من حجز المكان، كم كنت احترمه واعتز به واعجب بدماثة اخلاقه، ونتحادث كثيرا في تفاصيل حياتنا وأحب أسمع منه ما هي طموحاته ونظرته للمستقبل الذي سيخوضه بعد التخرج والانتهاء من الخدمة العسكرية التي كانت قانون مفروض علينا لسنتين، وكنت أقول له سوف أسافر خارج العراق والاشتغال بالصحافة بجريدة القبس الكويتية من خلال تنسيق مع زميل الدراسة معنا أنور سليمان، الذي انقطعت أخباره عنا من يوم التخرج في 1989.
انتهت مسيرة الدراسة الجامعية، ذهبنا الى الخدمة العسكرية لنقضي سنتين وافترقنا، وفي منتصف عام 1990، وبينما كنت مسافرا في منشأة نقل الركاب مرتديا بدلتي العسكرية ( الدرع ) للذهاب الى مدرسة قتال قيادة قوات النعمان/ الفرقة 12 في عين زاله بصفة معلم دروع لصنف سياقة الدبابة تي 52- السوفيتية و تي- 72، وفي الطريق في مطعم الأمل قرب مدينة بلد نزلنا والتقيت هذا الزميل الصديق الخلوق، ايضا جنديا مثل حالي ذاهبا الى معسكر الغزلاني، وتجاذبنا حديثا طويلا عن معاناتنا مع العريف والنائب الضابط، والضابط ومزاجياتهم المتعبة لنا، وعلى طول مسافة الطريق التي تبعد 490 كلم من بغداد للموصل، أسترجعنا جانب من شريط ذكرياتنا الجامعية التي ودعناها قبل أشهر، وعند الوصول لوحدته العسكرية في معسكر الغزلاني بداية الموصل حصل الوداع، ولم نعلم انه سيطول، بينما وصلت مركبتنا الى كراج الشمال وسط الموصل على ما أذكر، نزلت ثم ركبت سيارة أخرى قاصدا الوحدة العسكرية في منطقة عين زاله 70 كلم شمال الموصل.
دارت بنا الأيام وحصلت معركة الخليج الثانية واحداث الكويت في 2 آب 1990، وانقعت الاتصالات بعموم العراق، لكن كلما نلتقي زميل نسأله عن البقية سيما عندما يكون من نفس المحافظة، أو المنطقة، وفي عام 1991 سمعت عن زميلي الرائع الخلوق انه مفقود ( مجهول المصير) جراء عملية عسكرية حصلت في شمال العراق، وطوت السنوات دورتها لتقفز بنا الى عقود من الزمن، وفي كل سؤال عنه يأتيني جواب انه مفقود، لكن لاحقا وصلنا خبر أنه مقتول، أصابني الحزن عليه، وكلما اتذكره مع الزملاء نترحم على روحه الطيبة، ونستذكر شخصيته بألم وحسرة على شباب يموتون بلا ذنب لهم. كانت تجمعنا صور عدة هي ذكرياتنا الجامعية، وواحدة من الصور كانت لقطة جميلة جدا تجمعني به، لكن حتى هذه الذكرى، واثناء عمليات التفتيش التي تقوم بها قوات الاحتلال الأميركي بعد 2003 مزقوا البومات الصور كلها لأخسر كل ذكريات حياتين بقي زميلي ذكرى مؤلمة عندما يعود بنا شريط الجامعة والزملاء.
قبل أسابيع من هذا العام 2021 كنت أتحدث مع أحد الزملاء، وترحمت على روح زميلنا الخلوق الطيب، فأجابني مبتسما يا أخي هذا الزميل حي يرزق، وكنت أتحدث اليه قبل يومين، لحظتها تسمرت، وفقدت شيئا من توازني، ثم تسلحت بالفضول، وكررت أسمه كاملا فقال موجود، بادرته على الفور أعطني رقم هاتفه، وباللحظة اتصلت عليه (الووووو) فأجابني رجل مثخن الصوت أهلا وسهلا بك منو .. قلت زميل قديم آخر مرة أفترقنا فيه بسفرة ليلية عندما نزلت عند معسكر الغزلان بالموصل عام 1990... ضحك الرجل، وقال متنهدا بالفرح (حياك الله فاضل مووووو) قلت نعم فاضل، وانهالت مشاعر فياضة تتدفق في لحظات السلام، وفضول من الكلام دار بيننا وقتا طويلا، ثم انتقلنا الى تطبيق الواتساب لإكمال قصة طويلة إمتد غيابها من عام 1990 وحتى 2021 أنها قصتي مع زميل دراستي وصديقي سعد حاتم الذي وقع في الأسر بشمال العراق، وتم بيعه لدولة خارجية ومكث 12 سنة بصفة مفقود حتى عادت له الحياة ثانية.
851 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع