صفوة فاهم كامل
عن دار الأكاديميون للنشر والتوزيع في عمّان، صدر كتاب جديد بعنوان (دور العراق في حرب عام 1967 ... تاريخ وذكريات) لمؤلفه اللواء الركن علاء الدين حسين مكّي خمّاس، الأديب والباحث والكاتب والمثقّف.
هو الابن المتجذّر في المؤسسة العسكرية العراقية والمُنحدر من عائلة عسكرية عريقة فوالده أمير اللواء حسين مكّي خمّاس، الضابط المعروف في العهد الملكي، الذي تدرّجَ في مناصب مهمّة وعديدة حتى وصل إلى منصب وزير الدفاع في حكومة الرئيس محمد فاضل الجمالي الأولى سنة 1953.
وهكذا حال الشبل من ذلك الأسد...! فصِنوه علاء الدين، ولِدَ في بغداد عام ١٩٣٧، وتخرّجَ في عرين الكلية العسكرية الملكية بدورتها الثالثة والثلاثين، ثمَّ في كلية ساند هيرست البريطانية العريقة عام 1957، ثمَّ الأول على دفعته في كلية الأركان العراقية عام 1966. بدأ حياته العسكرية كأمر فصيل في الكلية العسكرية نفسها، بعدها ارتقى في الكثير من المواقع الميدانية والمناصب القيادية وشارك في عديد من حروب الجيش العراقي، حتى ختم حياته في أرفع مؤسسة عسكرية علمية وأحّد مؤسسيها، عندما نسنّم بجدارة واستحقاق منصب رئيس جامعة البكر للدراسات العسكرية العليا عام 198٨، لكنه أُحيل على التقاعد عام 1989، من حيث لا يَعلم ولم يُعلم بذلك وهو في قمّة عطاءه العلمي والعملي، وفي أوج نشاطه الفكري والثقافي، وبذلك خسرت تلك المؤسسة الكبيرة مأسوفاً عليها وقبل أوانه، واحداً من خيرة أبناءها الأخيار ورجالاتها الأقدار.
بعد عام 2003، غادر إلى الأردن وظلَّ متنقّلاً بينها وبين دولة الإمارات، متفرّغاً كليّاً للكتابة والبحث والتأليف، تُحيط به عائلته وأولاده وأحفاده، ويلاقي زملاءه المحاربين القدامى وأصدقاءه المقرّبين.
المغفور له الملك فيصل الثاني يستقبل في لندن الطلبة العسكريين العراقيين في كلية ساند هيرست ومنهم التلميذ علاء الدين حسين مكي خمّاس
لطالما سمعنا بالمقولة الشائعة والمتداولة: (الكتاب يُقرأ من عنوانه...!) وهذا ما ينطبق حرفياً على هذا الكتاب، فهو من القَطع الكبير وبطبعة أنيقة ضمّت بين دفّتيه 435 صفحة، توزّعت على سبعة عشر فصلاً تفصيليّاً عن حرب حزيران عام 67، وما اُستحضرَ لها قبل هذا التاريخ وما جرى بعدها من أحداث متلاحقة. وأيضاً احتوت على صفحات مقتبسة من مذكّرات عدد من الضباط الذين نالوا شرف المساهمة على أرض الواقع، مختتماً بحثه بخاتمة قصيرة عبّرت عن رؤيته المهنية كمراقب وباحث لتلك الحرب بجوانبها العسكرية والسياسية.
إنَّ من يتصفّح الكتاب سريعاً يَشعر بلا ريب بجهود المؤلف الجليّة في نيل المصادر والوثائق المهمة والمعلومات التاريخية واللقاءات والصور والخرائط الطبوغرافية ذات العلاقة ببحثه، بعضها كانت تُعتبر في حينها (سّرية للغاية) ...!
ابتدأ اللواء علاء الدين حسين، كتابه بمقدّمة مقتضبة أوضح فيه أسباب انكبابه وسعيه لإنجاز هذا المشروع والهدف منها، ثمَّ بيّن أن العراق وجيشه قد دخل في معارك متعاقبة: فنية وقتالية وصامتة منذ شهر أيار عام 1967، وحتى انسحابه من الأردن عام 1971.
في متن الكتاب استهلَّ الباحث وبشكل مُسهب التطورات المتسارعة بين العرب وإسرائيل من عام 1956، أي بعد انتهاء العدوان الثلاثي على مصر ولغاية عام 1966، وبروز الرئيس جمال عبد الناصر كزعيم عربي وبطلاً قومياً للوحدة العربية المتنامية بين شعوبها. حيث جرت خلال هذه السنوات العشر تطورات عديدة على الساحة العربية شكّلت منعطفاً في تزايد عداء الشعوب العربية ضد إسرائيل وخاصة بالنسبة للعراق، إذا أن الشباب في العراق ومنذ مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي كان المساهم الأول كمتطوعين وضباط في الثورات ضد الاستعمار الإنكليزي في فلسطين والحرب على الكيان الصهيوني عام 1948، إثرَ قرار بلفور المشؤوم، ثمَّ حرب حزيران 1967، فحرب تشرين 1973. والعراق ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم يَعتبر أن القضية الفلسطينية هي قضيته المركزية الأولى على الرغم من تغيّر الأنظمة والحكّام والحكومات فيه، واختلاف الإيدلوجيات الفكرية لها، وظلَّ على الدوام يستعدّ عسكرياً وسياسياً ومعنوياً للقاء هذا الكيان المغتصب ومنازلته مهما طال الزمن.
في فصل لاحق يستعرض الكاتب القدرات القتالية للجيش الإسرائيلي والجيش المصري على حدٍّ سواء كإنموذج لبقية القوات واستعداداتهما في إعداد وتجهيز قواتَهُما قبل 5 حزيران من حيث العدد والعدّة، ومن أسلحة وتشكيلات وأفراد وبشكل مفصّل. بعدها ينتقل إلى العراق ليوضّح موقفه العسكري والسياسي وقتئذ والتأثيرات والمشاكل الداخلية العديدة التي واجهها الرئيس عبد الرحمن عارف، خلال فترة حكمه القصيرة وكيف عالجها لينتقل بجيشه للمشاركة الفاعلة في مهمّة وطنية هي الأجدر والأشرف.
أما الفصل السادس والسابع من الكتاب فقد أفرده المؤلف للأردن، الجبهة الشرقية لساحة المواجهة بحدودها الطويلة مع إسرائيل، وحجم وخطط الجيش الأردني التي وضعها وهيّئها للحرب وهيكلية القيادة. فعلى الرغم من الإمكانيات المتواضعة للجيش الأردني آنذاك من حيث العدّة والعدّد لكنه كان الأفضل تدريباً وانضباطاً بين جيوش الدول العربية، وتوقيع الملك حسين بن طلال، لاتفاقية دفاع مشترك مع القاهرة يوم 30 مايس من عام 1967، وقتما كان العد التنازلي للحرب قد بدأ وطبولها تُسمع حتى صباح يوم 5 حزيران، عندما بدأت دمدمة الحرب ...! وقامت إسرائيل بضربة مباغتة على طائرات القوة الجوية المصرية وهي جاثمة في مطاراتها ... فكانت تلك أول نكسة في الحرب.
تفاصيل سير المعارك ليوم 5 و6 و7 حزيران وعلى جميع الجبهات والخطط الموضوعة والتشكيلات المشتركة، تطرّق إليها اللواء علاء الدين، في الفصلين الثامن والتاسع بشيء من التفصيل والتبسيط مع الإيضاحات اللازمة مستعيناً بالخرائط والجداول وصور الأسلحة المستخدمة.
بعد كل هذه المُقدمات وهذه المحطّات جاءت المحطّة الأبرز والأهم بالكتاب في الفصول 10 و11 و12، ومنها استمدّ الكاتب عنوان كتابه إلا وهي فعاليات الجيش العراقي ودوره في الحرب، بدءاً من تحشّد القطعات وتهيئتها وتنقّلها وتوديعها وانتقالها من العراق إلى أرض المعركة وانفتاحها في جبهة الأردن مع تصاعد وتيرة الأحداث والقرارات السياسية والاستراتيجية. وحرَصَ الكاتب على تدوين أسماء القطعات العراقية المشتركة وكُنَاها وأرقامها وعلى رأسها اللواء المشاة الآلي الثامن واللواء المدرّع السادس والقطعات المتجحفله معهما وأيضاً ذكرَ أسماء الأبطال القادة والأمَرين وجداول التوقيتات مروراً بكل الأوامر الصادرة بالحركة والتنقّل والوصف العام للمنطقة وللأرض، والطرق التي تنقّلت بها القَطَعات ومنها بدأت المعركة...!
الدور المؤثّر والبارز للقوة الجوية العراقية جمعه اللواء علاء، في الفصل الثالث عشر مستعيناً بمذكرات عدد من الطيارين الذين اشتركوا في هذه المعركة وأبلوا بلاءً حسنّاً في سماء المعركة، حيث اشتركت مقاتلاتنا في اشتباك مباشر مع الطائرات الإسرائيلية وتدمير وإسقاط عدد منها، مبيّناً بالتفصيل الدقيق نظام المعركة الذي طُبّق وعدد وأنواع الطائرات المشتركة وأسماء طيّاريها والمشاكل والمعوقات التي واجهتها القوة الجوية العراقية.
لقد باتَ جليّاً أمام الأعداء قبل الأصدقاء أنَّ القوة الجوية العراقية كان لها دور مشرّف وفاعل لا يمكن تجاهله في هذه الحرب، بشهادة عدد من الطيارين الإسرائيليين الذين واجهوا نسورنا في سماءهم الملتهبة.
في فصل آخر من الكتاب انتقل الكاتب إلى الجبهة الغربية وتحديداً مصر، مرتكزاً على شهادة ضابطين اشتركا وتواجدا في الفوج الأول من لواء المشاة الأول. وهذا هو الفوج العراقي الوحيد الذي تواجد في مصر، حيث نُقل إليها جواً بالتتابع. ونظراً للنتائج الكارثية التي أصيب بها الجيش المصري ودمار تجهيزاته العسكرية في أول يوم من المعركة وانسحابه إلى غرب قناة السويس، فأن الفوج العراقي لم يشترك بالمعركة بشكل مباشر، إنما اتخذ على عجل مواضعه الدفاعية لحماية مدينتي القاهرة والإسماعيلية وبعدها تحرّك إلى مناطق لنفس السباب.
حال القوات العراقية في الأردن بعد وقف إطلاق النار واستقرار الأوضاع على الجبهة، كرّسه المؤلف في الفصل الخامس عشر. وأضاف إليه مُلحق فيه نبذة موجزة عن معركة الكرامة التي اندلعت بين الأردن وإسرائيل في 21 آذار 1968، وتفاصيلها السَّوقية وخسائر الطرفين بالأرقام ونتائجها المعنوية والروح القتالية التي ظهر بها الجيش الأردني واعتبار هذه المعركة أول نصر عسكري على إسرائيل بعد هزيمة 5 حزيران.
أما الفصل السادس عشر ففيه وصف لمرحلة ما بعد 17 تموز 1968، واستلام حزب البعث السلطة في العراق وتغيير القيادات العسكرية للجيش العراقي المرابط في الأردن ومحاولة توسيعها وتشكيل فرقة مدرّعة أخرى وزيادة التعاون مع الفدائيين الفلسطينيين وما جرى بعدها من أحداث مؤسفة بين الأردن والفلسطينيين، سُميت بأحداث أيلول الأسود، ومناوشات أخرى لحين انسحاب أخر جندي عراقي من الأردن يوم 21 شباط 1971، تاركين وراءهم ثلاثة أعوام وثمانية أشهر من الذكريات المتباينة بمرّها وحلوّها.
في الختام فمن الطبيعي لكل باحث قدير ومحترف وله باع طويل في الدراسة والتأليف، حرصه على إنهاء بحثه بـ (دروس وعِبرّ) وفِق خبرته وتجاربه ومنظوره الخاص، وهذا ما رسّخه المؤلف، في الفصل السابع عشر والأخير من الكتاب عندما وصف تلك الحرب بـ (الهزيمة المدوّية للعرب...!) لا كما أسماها البعض بالنكسة أو نكسة حزيران، وفيه وصف لما أفرزته هذه الحرب من دروس بالغة الأهمية على الصعيد السياسي والعسكري والجيوبوليتيكية وأسبابها بالنسبة لإسرائيل والعرب، والعراق بشكل خاص.
اللواء الركن علاء حسين مكّي خمّاس، وقبل أن يأخذ كتابه الجديد مكانه الطبيعي على رفوف المكتبات العربية، قدّم لي مشكوراً نسخة منه مع عبارات الإهداء الرقيقة مذيّله بتوقيعه الكريم، وهذه عادة متأصّلة في النفوس والقلوب لدى الكتّاب والمثقفين في مبادلة نتاجاتهم الأدبية والعلمية، من باب الاعتزاز وتلقّي الرأي والتقييم والتحليل في مضامين الكتاب، وها أنا أُقدمهُ هذا الكتاب من خلال هذه السطور.
فرصة ثمينة وميسّرة للقارئ العراقي والعربي بشكل عام والعسكري على وجه الخصوص وعُشّاق التاريخ العسكري ككُل، لقراءة هذا الكتاب والتمعّن بصفحاته والاستزادة الفكرية والعلمية والاستمتاع به والتعرّف أكثر على محتوياته. فالكتاب سيكون بحد ذاته إضافة جديدة للمكتبة العسكرية ووثيقة تاريخية مهمّة لا لبس فيها عن دور العراق الوطني المشرق ودور الجيش العراقي الباسل في حرب حزيران عام 1967، على الرغم من نتائجها السلبية، كجزء من تاريخ طويل وحافل له على مدى قرن كامل من الزمن.
(دور العراق في حرب عام 1967 ... تاريخ وذكريات) هو المؤلّف العشرين للواء علاء، بعد صدور الأول عام 1970. وما بين ذلك الزمن واليوم، فقد حرَّرَ المئات من المقالات والدراسات والبحوث والتراجم باللغتين الإنكليزية والفرنسية، وشارك في العديد من المؤتمرات والندوات والدورات المحلية والعربية والدولية، أغلبها ذات طابع عسكري، إضافةً إلى اهتماماته الإدارية ونشاطاته الرياضية وأواصره الاجتماعية الأخرى.
فنبارك للسيد علاء الدين حسين مكّي خمّاس، هذا الإنجاز الناجع والمُميّز، وإنجازاته السابقة داعين الله عزَّ وجلّ أن يُمدَّ في عمره ويمتّعه بالصحة والعافية ونجاحات أخرى.
كاتب هذه السطور مع مؤلف الكتاب وكتابه
1200 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع