بقلم الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2022
وجهة نظر في اسطورة الطوفان السومرية
خريطة توضح طغيان مياه الخليج على القسم الجنوبي من العراق (5000) ق.م
يبلغ طول السهل الفيضي في العراق (650) كلم وعرضه (250) كلم ويشكل (20%) من المساحة الكلية للعراق، ويشكل انحدار السهل مشكلة للرافدين دجلة والفرات حيث يبلغ انحدار الارض من مدينة بغداد (34) مترا وحتى ساحل الخليج العربي، وهذا الانحدار الشبه منبسط جعل كلا النهرين يغيران مجريهما عبر العصور القديمة من جهة، وظهور الأهوار والمستنقعات من جهة أخرى، وتشير الدلائل الاثرية والتاريخية إلى أن الاستيطان القديم كان قد تمركز على حوض الفرات اكثر منه في وادي دجلة ولاسيما في الالفين الخامس والثالث ق.م، والسبب لان الفرات أقل عنفا وتقلبا من دجلة كما أن مياه دجلة اكثر تدميرا وسرعة في الجريان، لذا حظي الفرات بالاحترام والتقديس اكثر من دجلة فقد أنشات على ضفافه مدن ومستوطنات قديمة لا زالت اثارها شاخصة ومنها مدينة اور القديمة (موقع المقير في محافظة ذي قار)، وقد اثبتت الدراسات الجيولوجية التي اجراها الباحثان (Lees) و (Falcon) عام (1950) ان السهل الرسوبي لم يكن مغمورا بمياه الخليج العربي في فترة العصر الجليدي الرابع، وان الخليج لا يزال على حاله منذ اكثر من (5000) سنة، اما البعثة الالمانية فتتلخص بنظرية الباحث (Nutzil) عام (1975) التي ترى ان الخليج العربي كان منخفضا جافا، وبفعل العصر الدفيء أدى إلى ذوبان الثلوج وبدأت مستويات البحار بالارتفاع منذ (18000) سنة ق.م، وأخذ منخفض الخليج العربي يمتلىء بالمياة من المحيط الهندي إلى ان وصل لمستواه الحالي في حدود (5000) سنة ق.م.
إذا كان مستوى ارتفاع مياه الخليج قد استقر في حدود الالف الخامس ق.م فكيف حدث الطوفان كما ورد في (اسطورة الطوفان) في الكتابة الأدبية لبلاد الرافدين وخاصة السومرية، وشكلَ الطوفان جزء من ملحمة گلگامش، ثم ذكرت هذه الحادثة في التوراة، والقران، ولأجل التوضيح اكثر نعود إلى معاول المنقبين فقد جرت عمليات التنقيب على يد الآثاري (Woolley) (عشرة مواسم بدأت من 1922- وانتهت 1934) في مدينة أور الاثرية (ذكرت مدينة اور باللغة الأكدية بصيغة اوريم urim) واكتشف بعد إزالة الطبقات السكنية الأولى وجود طبقة من الطين الغريني السميك بعمق ثمانية اقدام تليها طبقة سكنية شيدت بيوتها من القصب وهي خالية من الأواني الفخارية وصرح بان الطين الغريني تراكم بفعل طوفان كبير، وقد قدر تاريخ تلك الطبقة الطينية إلى الالفية الرابعة ق.م، كما اكتشفت طبقات أخرى من الطمى في العديد من المواقع، ولكن لكل منهم تاريخ ينحصر بين فترات زمنية مختلفة تتراوح (4000-2500) ق.م، وهكذا نتوصل ليس هناك طوفان عالمي واحد، انما عدة طوفانات تعرضت لها منطقة وسط وجنوب العراق القديم، وسادت الفكرة في وقتها بان سبب الطوفان قلة انحدار الأرض وغزارة الامطار وهذا خلق بطىء في جريان المياه وتكون المستنقعات والاهوار.
لكن الدراسة الحديثة التي شملت الخليج العربي اعيدت صياغة دافع الطوفان، ففي الفترة (5000) ق.م طغت المياه الخليج العربي على القسم الجنوبي من العراق بما فيها مدينة أور القديمة، وتم تحديد ساحل الخليج حوالي (200) كم في الداخل حبث بلغ مستوى سطح البحر ذروته وهو مستوى يمثل أيضا مستوى البحر في عصر الهولوسين (Holocene) وهو العصر الجيولوجي الحالي بدأ حوالي (11.650) ق.م من تاريخ الأرض أي منذ انتهاء العصر الجليدي الرابع عندما حدثت تغيرات مناخية بعد حوالي (18000) ق.م، على العموم فترة الهولوسين فترة دافئة نسبيا جاءت بعد العصر الجليدي الأخير، حيث ادى ارتفاع درجات الحرارة إلى ذوبان الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي فارتفع مستوى مياه البحار، وبلغ ارتفاع مستوى سطح البحر إلى ذروته وطبعا ادى إلى تأثيرات واسعة أيضا في أعلى نظام مجاري المياه دجلة والفرات في الدلتا العراق فادى إلى إعادة تنظيم مجرى النهرين، والتعرية، وإعادة الترسيب، والفيضانات المحلية، وارتفاع المياه الجوفية .
ان الدراسات التي اجراها الباحثان (Lees) و (Falcon) لم تقدم أي تفسير لأصل الطوفان الذي غمر مدينة أور، فعندما ارتفع مستوى سطح البحر في منطقة دلتا دجلة والفرات، فإن هذا الارتفاع كان له آثار جذرية مباشرة وغير مباشرة على نظام جريان النهرين، وعلى الرغم من أن الاثاري (Woolley) في السنوات (1929 ، 1954) كان محقا تماما في تفسيره أن هذا الفيضان كان ناتجا عن إعادة تغير مجرى النهرين في جنوب العراق ، لكنه لم يذكر الدافع الاساسي لعملية تغير مجاري النهرين، ولم يذكر ارتفاع مستوى سطح البحر.
عموما أدى ارتفاع مستوى سطح البحر إلى التاثير على ساحل الدلتا الذي يقع على بعد حوالي (200) كلم داخل الأراضي في الجنوب ومن ضمنها مدينة أور القديمة، التي كانت في ذلك الوقت تقع في موقع ساحلي، وقد عثر على الكثير من الأصداف الشبيهة بالنوع (Turitella) والشعاب المرجانية بالقرب من اور، فقد غُمرت الأرض بالمياه مع طبقة من الطين بارتفاع (73,) متر، هذا الارتفاع في مستوى سطح الخليج العربي هو الذي سبب في الطوفان الذي ورد في نصوص أور، فارتفع منسوب مياه النهرين والروافد والقنوات المائية في المناطق الجنوبية من العراق وكان كبيرا وتقدر مساحة الأرض المغمورة بالمياه (400) كلم2 وهي بالنسبة لسكان القرى قبل الطوفان هي عالمهم الكبير فهو طوفان عالمي آنذاك، ان تاريخ هذا الحدث حوالي (5000) ق.م، وهو يتوافق تقريبا مع التاريخ الذي حدد لطوفان مدينة أور الذي قدمه (Woolley) حوالي (4000) ق.م، وان تأريخ المقابر الملكية في اور قد شيدت فوق رواسب طوفان البطل السومري زيوسودرا أو (بالبابلي اوتو-نبشه) أو (نوح بالتوراة والقرآن) فقد وصف في النصوص القديمة (كان طوفان مدمر) .
991 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع