بقلم/الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2022
أول حكومة مركزية وامبراطورية كانت في بلاد الرافدين
خريطة بلاد الرافدين يظهر فيها الحملات العسكرية لتاسيس اول الامبراطوريات في العالم القديم، وهم لوكال زاكيزي السومري، وحملات سرجون الأكدي وحفيدة نرام-سين ملوك الدولة الأكدية
الإمبراطورية السومرية
بعد أن عاش البشر الأوائل وزرعوا منطقة بلاد الرافدين لمئات السنين، بدأت المدن في الظهور، هذا النمو الأصلي للحضارة أصبح بداية الإمبراطورية السومرية، لقد حقق السومريون العديد من الإنجازات، مثل خلق عمالة منظمة، وتطوير أنظمة الري، وبفضل إتقانهم للزراعة تمكنوا من تخزين فائض من الطعام وهو المكون الذي يحتاجه المجتمع لتنمو المدن، كما أدت هذه الفوائض الزراعية إلى وظائف أخرى كانت مطلوبة للحفاظ عليها مثل الكهنة وهم اشخاص غير منتجين لكنهم يديرون اقتصاد المعابد، وهكذا أنشأ السومريون نظاما إداريا للمجتمع سمته الاساسية التنظيم مما أدى إلى ظهور أول حكومة في العالم، ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ هنا أن فرض الضرائب وجدت بالفعل قبل قيام الحكومة المركزية السومرية وهي سابقة في تاريخ البشرية، ومع ذلك، فإن ابتكار السومريين لم يتوقف عند هذا الحد، فقد تعلموا الاستفادة من البيئة من حولهم، على سبيل المثال، لم تكن السهول الجنوبية في العراق القديم غنية بالموارد الطبيعية بما في ذلك مواد البناء الأساسية مثل الحجر والخشب، انما المتوفر في مناطقهم الكثير من القصب والطين والتي استخدمها السومريون في البناء، فكانت العديد من آثارهم ومعابدهم الدينية عبارة عن هياكل طينية.
ربما كان الإنجاز السومري الأكثر تميزا هو إنشاء أول نظام للكتابة المعروفة حاليا باسم (الكتابة المسمارية)،
فقد أدركوا أن الكتابة تحتاج إلى مادة لغرض التدوين عليها، فرأى السومريون فرصة أخرى لاستخدام الطين، لقد صنعوا ألواحا طينية مسطحة سمحت لهم بحفر لغتهم المسمارية، لقد كان اكتشاف الكتابة لحظة عميقة في التاريخ بمعنى أن بامكان البشر التواصل مباشرة مع الأجيال القادمة.
قاد السومريون الفتوحات الخارجية بعيدا إلى خارج حدود البلاد الرافدين من الخليج العربي وعلى طول نهري دجلة والفرات وحتى البحر المتوسط،، ولا يعرف بالضبط إلى أي مدى كانت هذه الادعاءات صحيحة والأرجح انها صورة مثالية وليس من الضروري انها تطابق الحقائق السياسية، ومع ذلك يمكن القول بان السومريين اقاموا ما يصح ان نسميه (الامبراطورية) .
ان اكثرالملوك السومريين شهرة وله الفضل في تأسيس أول امبراطورية عرفها الانسان هو لوكال زاكيزي (Lugal-zage-si)، كان كاهن مدينة اوما (Umma) وأتبع سياسة توسعية عندما استلم السلطة، وقد حكم (29) عاما بين (2400-2371) ق.م ، وتمكن من هزيمة اوركاجينا آخر حكام سلالة لـﮔش الأولى، واعقبها تدمير مدينة جرسو عاصمة لـﮔش، كما استولى على دويلات-المدن السومرية مثل كيش، وأور، واوروك، ونيبور، ولارسا، وأصبحت مدينة اوروك عاصمته الجديدة، وزعم في نقوشه بان الإله انليل أعطاه (كل البلدان من البحر العلوي (kiEN-GI) (البحر المتوسط)، إلى البحر السفلي (A. AB. BA. Šaplīti) (الخليج العربي)، وبلاد عيلام) بمعنى (من البحر المتوسط وإلى الخليج العربي)، وهكذا فرض سلطته على كامل بلاد سومر، فحمل لقب (ملك سومر) (بالأكدية (مات-شومريم) بلاد السومريين) دلالة على أنجازه الوحدة السياسية للبلاد، وأعلن نفسه (ملك أوروك وبلاد سومر)، كما أتخذ لقبا جديدا استحدثه وهو (ملك الأقاليم) (Lugal Kalamma) وكلمة (كلاما) (kalam) تعني الإقليم أي ملك البلاد، وهذا اللقب على ما يبدو اتخذه عندما كان لوكال زاكيزي يخوض معارك مع لـﮔش، ولكن بغض النظر عن تسلسل الأحداث، ليس هناك شك في أن توسعه العسكري أثبت مدى القوة الشخصية التي يتمتع بها الملك السومري، ومهما عرف عنه من قوة وحزم وقيادة على الصعيدين السياسي والعسكري، إلا انه واجة شخصية أشد عزيمة واصلب عودا منه، ذلك هو (سرجون الأكدي).
الامبراطورية الأكدية
تم تأسيس إمبراطورية اخرى في العالم القديم المعروف آنذاك من قبل سرجون الاكدي (Sharrum-Kin) (Sargon) (2371-2316) ق.م، اسمه باللغة الأكدية (شرو- كينو) وتعني (الملك المكين) أو (الرئيس القوي)، حكم (55) عاما، أسس سلالة حاكمة عرفت بالسلالة الأكدية، وأقام عاصمة له دعيت (أكد) أو (أكادة) ، وأصبح أول ملك إله في الشرق الأدنى القديم، وكان الأكديون والسومريون متحدين وكان الكثير من الناس يتحدثون اللغتين الأكدية والسومرية.
ذكرت النصوص سرجون بان حملاته العسكرية وصلت إلى بلاد الاناضول، وجزيرة قبرص، وعيلام، وشمال العراق، وبلاد الشام، وهناك بحوث تجعلة قد فرض سيطرته على مناطق بعيدة في الهند، ومصر، وجزيرة كريت، واعتقد انها مبالغات اضيفت له ولا يمكن التحقق مدى صحتها، وحمل لقب (ملك سومر وأكد وملك الجهات الاربعة)، (ملك الجهات الاربع شرم شار كبرات اربيتِم šarrum šar kibrāt4-tim)، فقد وصلت امبراطوريته الى ما هو ابعد من امبراطورية لوكال زاكيزي السومري، ويعتقد بأنه الملك الذي قال: (والان، على كل ملك يبتغي تسمية نفسه ندا لي أن يذهب حيثما ذهبت)، وبذلك اصبح سرجون مثلا يحتذى به سواء من حفيده نرام-سين (Naram-Sin) ملك اكد (2291-2254) ق.م أو من جاء من بعده ملوك بابل، واشور في سعيهم لإنشاء امبراطوريات عظيمة.
يعتبر الأكديين من الاقوام التي نزحت من الجزيرة العربية، واستوطنوا المنطقة المعروفة باسم (اكد)، وقد كشفت الأدلة الاثارية من خلال عصر (جمدة نصر) ان هؤلاء الاقوام قد سيطروا على هذه الاراضي، وبعد ذلك سيطروا على المدن السومرية، عموما يمكن القول بانه في القرن الثامن والعشرين ق.م، استقر الأكديين حول مدينة (كيش) (تل الأحيمر) ونجحوا في توسيع سلطانهم في وسط العراق، ويرى بعض الباحثين ان الأكديين كانوا في العراق منذ أقدم العصور جنبا إلى جنب مع السومريين ودليلهم على ذلك اسماء ملوك (كيش) كان البعض منها سامي، على اية حال كان الساميون (الجزريون) يشكلون الغالبية العظمى من سكان وسط وشمال العراق، وعرفت دولتهم باسم الدولة الأكدية، واطلق السومريين مصطلح (كي- اوري KIURI) وتعني بلاد الأكديين، بينما اطلق الأكديون على انفسهم (مات اكديين Mat Akkadian) ، اما اهم مدنهم فهي العاصمة اكد (اكاده)، وكوثه، وسـﭘار، وبابل، وكيش، وبورسبا، ودلبات، .... الخ، وهكذا نشأت الإمبراطورية الأكدية عندما اتحدت هذه المناطق تحت حكم واحد، وبذلك وسع هذا العهد مفهوم الملك كشخصية شبيهة بالإله، في حين أن الجميع سيكونون عبيدا له ولآلاف السنين بعد ذلك، وسيظل هذا الهيكل السياسي والحكومي الوحيد لهذه المنطقة، حدث هذا على الرغم من أن إمبراطورية سرجون الأكدية استمرت لبضعة أجيال فقط، فقد حذت الإمبراطوريات التي جاءت بعد الأكديين حذوها ويلاحظ النمط المتكرر للحكم المطلق، والعمران، والتوسع العسكري، والاستيطان، كما قدمت كل الامبراطوريات المتعاقبة مساهمات فريدة في التراث الثقافي لبلاد الرافدين القديم إلى الدول المجاورة.
بينما كانت سهول بلاد الرافدين خصبة بما يكفي للنشاط الزراعي، لكن بيئتها تعاني من بعض الظروف القاسية مثل الفيضانات والحرارة المفرطة، وندرة التساقطات المطرية...الخ ، وجعلت هذه الظروف وغيرها ان يكون الناس صامدين في حياتهم وفي صراع مستمر مع الطبيعة، وتميل الحياة في بلاد الرافدين إلى أن تكون مؤقتة وتعسفية وتتأثر بشكل كبير بقوى لا يمكن تفسيرها، لقد اعتقدوا أن الآلهة تتحكم في كل شيء، ويتعذر على الناس الوصول إلى الآلهة لانهم مخيفين ولهم القدرة على البطش والتعذيب، ونتج عن هذه النظرة نبرة تشاؤمية وقدرية سائدة في جميع أنحاء ثقافة بلاد الرافدين.
3682 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع