الأستاذ الدكتور صلاح رشيد الصالحي
من الصفات الجمالية في العراق القديم العيون الزرقاء الواسعة
شكل 1: عيون من حجر الازورد الازرق
ان التراث الشعبي العراقي له جذور في التاريخ القديم، فقد توارثه الأبناء عن الأباء والأجداد، وبقى راسخا في العقول كقيم مسلم بها، واكثر الأفكار رسوخا هي العلاقات الاجتماعية بين الناس سواء كانت في القرى أو المدن، واخص بالذكر تحديدا الزواج، والولادة، والوفاة، وكل جانب من هذه الجوانب الثلاث لها افكارها وقيمها وتعابيرها، وايضا ما يرتبط بها من تقاليد وعادات ملائمة لكل مناسبة، واستمر هذا الارث الثقافي عبر الأجيال وسار على منهجه الرجال والنساء، وتجد لها قبولا مجتمعيا واستحسانا واسعا من الناس لانها الموروث القديم والمحفوظ في ذاكرة العراقيين منذ القدم، وبما ان التراث الشعبي واسع الاطراف فسوف اتناول من هذا الموروث الشعبي(مراسيم الزواج) المتعارف عليه والذي لازالت تقاليده راسخة لم تتغير عند غالبية المجتمع العراقي.
تبدأ مراسيم الزواج بأول خطوة مهمة للغاية وهي (اختيار العروس)، وتتولى الأم أو الأخت الكبيرة أو إحدى نساء البيت إذا كانت اكثرهن حنكة ولباقة والمشهورة بحسن الاختيار وتحمل مسؤولية هذه المهمة الصعبة (يقال لها الخطابة ولها علاقات مع نساء الحي وفي جعبتها الكثير من الكلام)، فسابقا الشاب لا يرى الفتاة قبل الزواج، ولهذا كثيرا ما يفتخر الآباء بان سكان الحي لا يعرفون بان لديه بنات للدلالة على حسن السمعة، ومن اهم الشروط ان تكون الفتاة المرشحة للزواج عذراء لم يسبق لها الزواج وهو أمر مفضل كما اشارت اليه النصوص القديمة اعتقادا منهم ان العذراء اكثر حظا في الانجاب من المطلقة والارملة فمن وجهة نظرهم ان غزارة الدم عند العذراء وقت الطمث دليل على خصوبة الفتاة، واعتقدوا بان الطفل يتكون في رحم الأم من (دم الانثى)، و(ماء الرجل)، و(الروح من الآلهة)، ولذلك ركزوا على الاخلاق فيجب ان تكون العروس ذات حسب ونسب ونقية السمعة، ويفتخر اهلها بان كثيرا من العرسان طلبوها للزواج لكنها رفضتهم، وبعد ان تحدد الفتاة المؤهلة للزواج يتم زيارتها من قبل أهل الشاب، وأول ما يقع نظر الزائرات على وجه الفتاة لأنه يضم ثلاث عناصر مهمه وبارزة تجلب النظر:
الأول: العين، يجب ان تكون واسعة فالمثل العراقي واضح (الطول نصه رﮔبة والوجه نصه عيون) و(رﮔبة) بقلب حرف (ك) إلى (ق) تصبح (رقبة) أي (الطول نصفه رقبة، والوجه نصفه عيون) بمعنى رقبتها طويلة وعيونها واسعة، ويكون الحاجب سميك ويلتقي الحاجبين في وسط الوجه ويقال لها (يا عاقد الحاجبين) وهي من سمات الجمال في جنوب العراق، ثم الوان العين وهي زرقاء، وخضراء، وصفراء، ورمادية، والعيون السوداء شائعة في مجتمعنا، والمفضل العيون الزرقاء لان اللون الأزرق حسب النصوص القديمة تمثل الحياة، والخصوبة، والرغبة والجنس، والجمال والكمال، وإذا كان هناك (حول) بسيط في العين عندها يطلق على الفتاة (حوراء) وهي من سمات الجمال المرغوب به ايضا.
الثاني: الأنف، باشكاله المختلفة الصغير، أو المتوسط، أو المفلطح (العريض) وهو (طراز انوف الزنوج الافارقة)، والمفضل الأنف الصغير لان الأنف الكبير سيكون نقطة ضعف للفتاة ويكون ضمن عبارات السب والشتائم في المستقبل.
الثالث: الفم، الذي يضم الشفايف الرقيقة، والمتوسطة، و(المقلوبة شائعة عند الزنوج الافارقة)، والمفضل الفم الصغير وتكون الشفايف رقيقة حمراء بدون صبغة حمراء فيقال (من غير حمرة محمرة) أي الشفايف حمراء ربانية، وطبعا الأسنان تكون بيضاء كاملة يقال لها (اسنانها مثل ليلو) (بمعنى لؤلؤ المستخرج من البحر).
بعدها ياتي الشعر طويل والمستقيم يقال لها (شعرها كلبدون) بمعنى الذهبي وغير مجعد، أو صوفي (كما هو عند الزنوج الافارقة)، اما بشرتها فمن الأفضل ان تكون بيضاء، وتشعر العروس بفخر إذا كانت بشرتها بيضاء، اما الفتاة السمراء (فهي شائعة في مجتمعنا) ويقال لها (دمها ينحب) أي مرغوب بها، وبالنسبة للطول يجب ان لا تكون اطول من العريس وإلا يقال لها (طنطل) (أي الطويلة) ولا قصيرة فيقال لها (قطامة) (أي القصيرة)، وليست غليظة انما (شطبة) بمعنى جسمها رشيق، وكل هذه الاوصاف تنقل للعريس وعلى ضوئها تتم موافقته ومن ثم تتم مراسيم الزواج.
قد تحدث مشكلة بعد دخول العريس على عروسه وفي مخيلته المواصفات التي سمعها! ولكنه يجد شكل اخر! فتنزل الطامة على أم العريس التي تسعى جاهدة للتبرير وتقبل صراخ وعصبية ولدها بعدم تطابق الوصف مع الحقيقة، وعندها يقول العريس (اردت قمحا، فاعطوني شعيرا) (لان الشعير ارخص من القمح) ، ويعتبر الشعير القيمة النقدية لأجر العامل الزراعي في الارياف، بينما في المدن القيمة النقدية معدن الفضة، عموما يسكت العريس، والأيام تمضي وتنجب زوجته باسرع وقت عدة من الابناء والبنات حتى يبتعد عنها شبح الطلاق.
هذه التعابير والاوصاف موجودة في تراثنا الثقافي وقديمة جدا ولا يعني ما ذكرته من عبارات وصفيه وردت في نصوص بابلية أو آشورية انما معروفه وشائعة في التراث الشعبي العراقي ومتداولة حتى اليوم، ودراستها تتطلب جهود واسعة، ولهذا نجد من بين تلك المواصفات اعلاه شكل (العين) من خلال بعض اللقى الاثرية القديمة، لأن العين تجلب النظر من أول وهلة، كما استخدمت العين لطرد الشر والحسد ويقال (عين الحسود فيها عود)، واحيانا يعلق الناس على جدران منازلهم فخارية فيها شكل العين في وسط الكف غرضها ابعاد عيون الناظرين من الحساد وخاصة سكان الحي لانهم وحسب المفهوم الاجتماعي القديم السنتهم لا تتوقف! لذا العين خير سلاح لوقف الحاسدين .
اشكال العيون في التنقيبات الاثرية
خلال التنقيبات الاثرية عثر على عين من حجر اللازورد الأزرق يعتقد انها من ضمن تمثال سومري يؤرخ إلى أوائل فجر السلالات الثالث (2600-2500) ق.م (شكل 1 اليمين)، عثر عليها خلال تنقيبات البعثة المشتركة إلى مدينة نيبور من قبل (المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو) اعوام (1960-1961) ميلادي، حجم العين (0.9 × 1.6 × 0.7 سم) محفوظة في متحف متروبوليتان للفنون، كما عثر على شكل عين مرصعة بالحجر الأسود (حجر جيرستون) والأجفان من حجر اللازورد الأزرق (شكل 1 اليسار)، عثر عليها في سوريا وتؤرخ (2550-2250) ق.م، جعلت الجفون من حجر اللازورد السميك المنحوت بشكل طبيعي ، مستدق عند الحافتين الداخلية و الخارجية، مشطوفا من الداخل ليتوافق مع الحجرة البيضاء لاجل وضع الحجر الأسود حتى تمثل حدقة العين، الحجم (¾2) بوصة (7) سم، ويشير حجم العين الكبير إلى أنها تنتمي إلى شخصية كبيرة مركبة قد تكون إنسان أو الحيوان، أو وجه بشري صغير من الحجر الجيري الأبيض، ومما يثير الاهتمام عمليات التنقيب التي اجرت في موقع تل البراك (Tell Bark) (في سوريا) حيث عثر على ما يعرف بمقبرة العيون حيث تم اكتشاف اكثر من (300) تمثال بعيون واسعة كلها وجدت في معبد يعرف الان بمعبد العين ربما ارتبطت بالقوة السحرية وابعاد الحسد أو تحمي من الشر، ويلاحظ ان تماثيل الآلهة عيونها أوسع من عيون البشر، وغالبا تكون مطعمة بحجر اللازورد الأزرق.
شكل 2: عيون حمراء وزرقاء
احيانا تكون العين حمراء دليل الشر وحتى ترمز إلى القوة والعصبية كما نقول اليوم (انطي العين الحمرة) كما في التميمة من حجر العقيق على شكل العين (شكل 2 اليمين)، قطرها (3.84) سم، وتشير النقوش النذرية إلى وضع هذه العين على مذبح الإله، أو في المعبد كهدية للإله، وعثر على (تميمة العين) في موقع بابل الاثري، من المحتمل كانت هدية إلى الإله مردوخ حامي المدينة، وسابقا يُعتقد أن الأحجار تتمتع ببعض القوة الكامنة التي من شأنها أن تساعد في حماية حياة الشخص المذكور في النقش، ربما كانت هذه التميمة تزين تمثال الإله مردوخ، ومن المرجح أنها كانت تعلق على تمثال الاله مع مرفقات اخرى من الذهب الثمين، وتحمل حجر العين هذه كتابة مسمارية أكدية هي إهداء للملك نبوخذ نصر الثاني (605-562) ق.م ملك بابل (معنى اسمه الإله نابو يحمي التاج)، فقد كان جنرالا عظيما ورجل دولة ولدية طموح عسكري واداري وعمراني، وآثاره الباقية لا مثيل لها في بلاد الرافدين، فقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوتس عند زيارته بابل وجود معلم عماري اطلق عليه (الجنائن المعلقة)، وهي إلى حد كبير من عمل المهندسين المعماريين البابليين، أما النقش على التميمة فنقرأ: (إلى مردوخ، سيد، نبوخذ نصر ملك بابل، ابن نبوبولاصر، وهبت لحياته)، وكثيرا ما كان سكان بابل يقدمون الهدايا للإله مردوخ في معبده ايساكيلا (Esagila) الذي يعتبر من اغنى معابد الشرق الأدنى القديم، ولدينا ايضا تماثيل للآلهة الأنوناكي (Anunnaki)، وتعني (نسل الإله آنو) إله السماء، وهذه الآلهة كرمها السومريين منذ وقت مبكر، ورد اسمهم في النصوص السومرية، فقد كانوا أعلى الآلهة مرتبة في بلاد الرافدين، وتم تصويرهم بشكل بشرة بيضاء وعيون زرقاء (شكل 2 اليسار) ، وكما نلاحظ العيون كبيرة وهي من حجر الازورد الأزرق مع التقاء الحاجبين، والفم صغير والشفة رقيقة، والأنف متوسط، وهي من الصفات الجمالية التي اشرت لها سابقا، وانعكست العين الزرقاء على العديد من التماثيل القديمة التي تصور عدد من الرجال بعيون زرقاء كبيرة، وتم وضعهم في المعبد أو على قمة (الزقورة) تقديرا لمكانة هؤلاء في الحضارة السومرية القديمة، وأصل العيون الزرقاء: من (الآلهة) القديمة، ولذلك تم استخدام اللازورد الأزرق من قبل النخبة الحاكمة للزينة الشخصية، وكان اللون الأزرق يرمز إلى الألوهية وقوة الآلهة، ويمثل الحياة، والخصوبة، والرغبة والجنس، والجمال والكمال، ويطلق على حجر اللازورد بالأكدية اوقنو (Uqnû) ويستورد من مقاطعة بدخشان (Badakhshan) في أفغانستان.
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص تاريخ قديم
بغداد 2022
2389 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع