محي الدين محمد يونس
مفارقات من الحياة ــ٣ ــ صدام عز وهيبة
بعد تحسن العلاقات بين إيران والعراق على أثر توقيع اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975 من قبل شاه إيران (محمد رضا بهلوي) ومن الجانب العراقي (صدام حسين) نائب رئيس الجمهورية وبوساطة الرئيس الجزائري (هواري بو مدين) وبموجب هذه الاتفاقية والبروتوكولات الملحقة بها تحقق لشاه إيران ما كان يحلم به في الغاء معاهدة ترسيم الحدود الموقعة من قبل والده بين البلدين في قصر سعد آباد بالعاصمة الإيرانية طهران في 7 تموز من عام 1937 وبموجبها تنازلت أيران واعترفت في هذه المعاهدة بعراقية شط العرب بكامله بالاستناد إلى معاهدات قديمة مبرمة بين الدولتين العثمانية والفارسية، لقد استمرت المشاكل بين الدولتين في مد وجزر منذ توقيع هذه المعاهدة والمطالبات المتكررة من الجانب الإيراني في إعادة النظر فيها. ومن ذلك اعلان إيران في 19 نيسان 1969 رفضها لهذا الترسيم الحدودي الذي أقر بموجب هذه المعاهدة وطالبت بأن يكون خط الثالوك (خط القعر) في شط العرب بمنزلة حدودها الرسمية مع العراق وجوبه هذا الطرح الإيراني بالرفض القاطع من الجانب العراقي ولم تكتف إيران في إعلانها الغاء هذه المعاهدة بل ترجمت نواياها على ضوئه عندما أدخلت إحدى سفنها الى المياه العراقية من دون ان تدفع الرسوم المقررة عليها وقد أدى ذلك الى تأجيج التصعيد العسكري والمناوشات والمشاكل بين البلدين.
الرئيس الجزائري هواري بو مدين يتوسط صدام حسين وشاه إيران
رئيس وزراء إيران امير عباس هويدا يستقبل صدام حسين
صدام حسين مع امير عباس هويدا
نعود للحديث عن اتفاقية الجزائر في عام 1975 وبموجبه تم إعادة ترسيم الحدود بين الطرفين ومنح إيران نصف شط العرب في خط الثالوك (خط القعر) وهي أعمق نقطة على امتداده وبذلك تكون إيران قد حصلت على مكسب في غاية الأهمية من
الشاه يستقبل صدام حسين في قصر نيافاران
الناحية الاستراتيجية في المجال السياسي، أما الجانب العراقي ممثلاً بنائب الرئيس (صدام حسين) فكان همه وغايته من هذه الاتفاقية هو وقف الدعم الإيراني للحركة الكردية بقيادة (مصطفى البارزاني) وأنهاء وجودها السياسي والعسكري في المناطق الكردية في خطوة اتسمت بقصر النظر والإخفاق السياسي عندما تنازل لإيران عن نصف شط العرب في مقابل أمور سياسية وأمنية متغيرة ليس لها قيمة كبيرة من الناحية الاستراتيجية وبدلاً من أن يخضع لابتزاز عدوه كان الأولى به أن ينتهج سبيل التفاهم والحوار مع الحركة الكردية التي كانت تمثل الشعب الكردي في العراق ويجنب نفسه والشعب العراقي ويلات الحروب والمآسي ابتداءً من قيامه بإلغاء هذه المعاهدة في عام 1980 بعد زوال نظام الشاه ومجيء نظام الخميني والدخول في حرب طاحنة لمدة ثمانية سنوات وتداعياتها البشرية والمادية الهائلة على الشعبين.
نعود لأصل حكايتنا فبعد توقيع اتفاقية الجزائر في عام 1975 وبعد أسابيع قليلة من عقدها اتجه نائب الرئيس العراقي (صدام حسين) في زيارة رسمية إلى طهران واستقبل في مطارها من قبل رئيس الوزراء الإيراني (أمير عباس هويدا) استقبالاً رسمياً حافلاً وحاراً وملفتاً للنظر وكانت فرصه ثمينة لصدام حسين لكي يظهر كعادته في قمة الشياكة والأناقة في مظهره وملابسه بالإضافة إلى طريقة نزوله من سلم الطائرة ومسيره في أرض المطار حيث بدا عليه الكبرياء والغرور والأعجاب بالنفس من خلال حركات يديه ورجليه وتقاسيم وجهه عند استقباله من قبل المستقبلين العراقيين والإيرانيين وحين جلوسه في قاعة الاستقبال حيث تعمد الجلوس في مقعد مرتفع ليبدوا في مستوى اعلى من مستوى رئيس الوزراء الإيراني امير عباس هويدا، على كل حال المعروف عن هذا الرجل خصلتان متأصلتان فيه اولهما نرجسيته والكاريزما العالية والهيبة التي لا يتنازل عنها حتى في المواقف التي يكون فيها خاسراً في التعامل السياسي مع خصومه وهو اساساً لا يعترف بالخسارة أصلاً ويعتبر نفسه منتصراً كما حصل معه من تداعيات حرب تحرير الكويت في عام 1991 حيث استقطعت من الأراضي العراقية الحدودية مساحات واسعة ومهمة وضمت للأراضي الكويتية كما قامت قوات التحالف بإجباره على سحب اداراته وجيشه من المحافظات الثلاثة (أربيل ، السليمانية ، دهوك) ومع هذا كان يعتبر نفسه منتصراً المهم بقاءه على رأس السلطة كيفما تكون وحياً. الخصلة الثانية لم يكن يؤنبه ضميره او يحرك شعرة من شاربه لكل مل سببه للعراق وللعراقيين من مآسي.
زيارته إلى إيران استمرت لثلاثة أيام قام خلالها وعلى ضوء برنامج أعدته الحكومة الإيرانية في لقاءات وزيارات لاماكن عدة كان في مقدمتها زيارته لقصر (نيافران) واستقباله من قبل شاه إيران محمد رضا بهلوي
الأختان هايده ومهستي
والذي رحب به بالعبارات التالية :(كيف حالك يا صديقي) قبل ان يأخذه بالأعناق ويقبله كما نظمت له زيارة إلى مدينة مشهد في خراسان حيث مرقد الأمام الرضا (1). وفي أمسية أخرى دعي فيها إلى قصر الشاه خلال اقامته غنت الأختان (هايده ومهستي)(2، 3) امام صدام حسين وأعجب بأدائهن وعشق صوت هايده وعند عودته للعراق دعا الأختين لزيارة بغداد وفي عام 1977 وعلى وقع تحسن العلاقات بين البلدين في زمن الشاه محمد رضا بهلوي ارسلت طهران الى بغداد تعبيراً عن رغبتها في الانفتاح والتقارب المطربة الإيرانية الشهيرة (كَوكَش)(4) والتي لقيت ترحيباً وقدمت في التلفزيون العراقي مجموعة من اغانيها واغنية عربية (بنت الشلبية) لسيد درويش اما الحدث الآخر والذي له صلة بظاهر تطور العلاقات بين البلدين عندما قامت زوجة الشاه محمد رضا بهلوي بزيارة العراق ومنها الى العتبات المقدسة في مدينتي النجف وكربلاء في شهر كانون الثاني من عام 1978 وقام بزيارتها نائب الرئيس العراقي صدام حسين في مقر اقامتها في دار الضيافة لوحده دون ان يستصحب معه عقيلته
المطربة الإيرانية كوكوش
صدام حسين يزور الشاهبانو فرح ديبا
(أم عدي) وحسب البروتوكول المعمول به في مثل هذه الحالات وقامت وسائل الأعلام العراقية بنشر تفاصيل هذه الزيارة. وما دمنا نتحدث عن كبرياء هذا الرجل والذي طمر هيبته في الحفرة التي وجد فيها وكان مسدسه يحثه للاستجابة للموقف الذي هو فيه وهو يلتمس منه العذر والتريث ويؤمله استعماله عند الشدة والوقت الحرج والذي لم يأت اوانهما بعد والاكتفاء بإخراج رأسه من فتحة الحفرة وهو يردد لآسريه "انا صدام حسين رئيس جمهورية العراق" وهو يتوقع منهم أن يرحبوا به "هلا بيك هلا وبجيتك هلا". وهذي حال الدنيا يوم لك ويوم عليك حيث لم يجد مكاناً يلجأ اليه في ارض الله الواسعة سوى هذه الحفرة وحيداً وأيقن حينها بأن الأهزوجة التي كانت تردد من قبل المنافقين "بوش.. بوش اسمع زين كلنا نحب صدام حسين" ما هي إلا محظ هراء والآية القرآنية الكريمة في سورة التوبة "ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم" اصدق وصف في حال هذا الرجل الذي جاءت نهايته على يد قوات الاحتلال الأمريكي تنفيذاً لإرادة الله جلت قدرته في سورة الأنفال " وما رميت ولكن الله رمى" ونعود لحكاية المسدس الذي عثر عليه عند أسر صدام حسين وأحتفظ به جورج دبليو بوش في مكتبه الخاص ويعرضه ذليلاً وهو يفخر مزهواً على زواره ويصف لهم مزاياه ونوعيته الغريبة والمتميزة. وأخيراً لابد ان نشير الى اللقاءات التي اجراها المحامي سليمان الجبوري في برنامجه الحقائق بالوثائق مؤخراً مع قيس النامق وسلوان المسلط وجماعتهما حيث كان الرئيس العراقي في رعايتهما وحمايتهما طيلة فترة وجوده في المزرعة ولحين القاء القبض عليه وهم من اقرب المقربين له ومحل ثقته المطلقة وتأكيدهما على وجود صدام حسين في تلك الحفرة عند القبض عليه من قبل القوات الأمريكية وعدم صحة ما اشيع من القبض عليه في مكان آخر ونقله للحفرة المذكورة من قبلهم تشفياً ومن اجل الحط من هيبته وقيمته الاعتبارية لدى شعبه والعالم.
صدام حسين كان مدركاً لنهايته غير الطبيعية ولكنه لم يكن قد احتاط وفكر في كيفية مواجهة ما ينتظره من موقف صعب تفوق امكانياته المادية والمعنوية، كان على قناعة تامة بأن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسقطه لاعتبارات خمنها في ذهنه والشعب العراقي لن يستطيع اسقاطه لذلك كانت تصرفاته ومنذ لحظات تركه العاصمة بغداد بعد احتلالها من قبل القوات الأمريكية تتسم بالعشوائية والتخبط ولا تليق به كسياسي ونائب رئيس دولة ورئيس دولة لمدة تربو على الأربعون عاماً وما يؤكد هذه القناعة لدى هذا الرجل مخاطبته لرئيس المحكمة القاضي معروف بالعبارة الشهيرة والتي رددها بحماس وتأكيد حين قال له "والله لوما الأمريكان لا انت ولا ابوك يكَدر يجيبني لهذا المكان" لقد كان الأجدر به أن يقاتل الى آخر قطرة من دمه او ان يسلم نفسه لقوات الاحتلال الأمريكي بدلاً من تسليم مصيره وقدره لمجموعة من الأشخاص لم يكونوا على قدر المهمة المكلفين بها من قبله وعاد ليتصرف كما تصرف عندما اشترك في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم في عام 1959 في شارع الرشيد في العاصمة بغداد وهروبه الى سوريا متخفياً ومتخطياً المزارع والانهار والقفار.
صدام حسين يزور ضريح الأمام الرضا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ الرضا هو علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب المولود في المدينة المنورة وقتل من قبل الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد بالسم.
2 ــ هايدة 1942 طهران ــ 1990 سان فرانسسكو، ممثلة ومغنية إيرانية.
3 ــ مهستي 1946 طهران ــ2007 كاليفورنيا، مغنية إيرانية.
4 ــ كوكوش 1950 طهران ــ ممثلة ومغنية إيرانية غادرت إيران في عام 2000 تعيش في كالفورنيا ومستمرة بعطائها الفني.
4028 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع