الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
شارع المتنبي في بغداد صراع بين الثقافة وعربات الأكل الجاهز
إن مبنى القشلة هو مقر المدرسة الموفقية سابقا وبدأ بصيانة المبنى وترميمه وبناء البرج والي بغداد نامق باشا الكبير سنة (1861) م، لتكون هذه البناية مقرا للولاية ودوائرها الرسمية، وثكنة عسكرية للجيش العثماني المسؤول عن حماية وتوفير أمن بغداد، وأختير مكانها الحالي المجاور لضفاف نهر دجلة من جانب الرصافة من بغداد، ويعتقد ان اصل تسمية القشلة جاء من الكلمة الانجليزية كاسل (Castle)، وبالاسبانية كاستليو(Castleo) وتم قلب حرف (ك) إلى (ق)، وايضا حرف (س) إلى (ش) فاصبح قشلة.
ولد الآدب والشعر في العراق منذ أقدم العصور، فقد عثر من خلال التنقيبات الاثرية على رقم طينية تضم نصوص مسمارية باللغة السومرية والأكدية تحتوي على انواع مختلفة من أدب بلاد الرافدين العريق مثل الأشعار، والحكم، والأمثال، والترانيم، والتعاويذ، والأساطير، والملاحم، والحوليات الملكية، والقواميس اللغوية، والعلوم بشتى انواعها، ولا تختلف الحالة في العصر الاسلامي العربي فاغلب الشعراء من العصرين الاموي والعباسي وحتى العصر الحديث كانوا عراقيين في اصولهم، ولهذا نجد في المناهج التعليمية في مدارس الوطن العربي ذكر لحياة الشعراء واشعارهم مثل ابو تمام، وابن العتاهية ومن بين الكثير من الشعراء نجد الشاعر ابو الطيب المتنبي الذي يمثل العزة والكرامة والاصالة التي سطرها في لغة بسيطة وصور رائعة يفهمها القارىء بسهولة، وظل شعره إلى اليوم مصدر إلهام ووحي للشعراء والأدباء، وهو شاعر حكيم، وأحد مفاخرالأدب العربي، فقد خلد اشخاص بمدحهم مثل سيف الدولة الحمداني حاكم الدولة الحمدانية في حلب، وايضا خلد من هجاهم بشعره مثل كافور الاخشيدي حاكم مصر، وإذا كان لدينا ملحمة كلكامش بطل مدينة اوروك والتي نفتخر بها في العراق، فلدينا ملحمة اخرى سطرها ابو الطيب المتنبي الشاعر الكوفي، فكلاهما سافر عبر البلدان هذا يقاتل وينتصر والاخر يلقي شعره بفخر واعتزاز، وإذا كان انكيدو رفيق كلكامش في اسفاره فان رفيق المتنبي كان خادمه بدر في اسفاره ايضا، ولذا بقي البطل كلكامش خالدا في ادبنا العريق وفي عقولنا رغم فشله في الحصول على الخلود، كذلك فان الشاعر المتنبي بقي خالدا في عقولنا بشعره الكبير ولكن عندما زار بلاد فارس، ومر بأرجان، ومدح فيها ابن العميد عاد خائبا وهو يردد (ولكن الفتى العربي فيه ... غريب الوجه واليد واللسان)، وإذا خلت شوارع العراق كلها من اسم كلكامش، فقد حظي المتنبي بشارع يحمل اسمه ويربط شارع الرشيد بشارع القشلة وسوق السراي، وخصص الشارع لبيع الكتب وملتقى الادباء والمثقفين واحاديثهم في شتى المجالات الأدبية، والسياسية، والفنية ترافقهم اقداح الشاي والضحكات وعبارات الترحيب والضيافة، واغلب تلك اللقاءات تكون يوم الجمعة في مقهى الشابندر، ومقهى اخر في فناء العمارة المطلة على الشارع.
خصص الشارع لبائعي الكتب الذين افترشوا الأرض بشتى انواع الكتب أو على مسطبات بسيطة سهلة الحمل، والبعض من الباعة كان يهتف بصوت عالي جميل يردد الشارع صداه (خير جليس في الزمان كتاب)، والحق يقال ان هؤلاء الباعة كانوا مثقفين فقسما منهم من ذوي الشهادات العليا، والقسم الاخر يمتلك ثقافة كونها بنفسه، ولديهم معرفة باسماء الكتب والمؤلفين وسنة الطبع بل ويعطون رأيهم في الكتاب وما طرحه المؤلف من افكار، ولا يمكن ان نغفل الاهتمام البالغ الذي اولته محافظة بغداد في الاعتناء بالشارع وترميمه واخرجه بافضل صورة، ولكن ومنذ ان ازداد عدد الزوار شارع المتنبي بدأ زحف اصحاب الاكلات السريعة مثل (الكص)، والمشروبات والمرطبات والمياه، والمعجنات، وباعة المكسرات، والفواكة المجففة، وعازف الناي، وباعة السبح والمداليات، إضافة لعدد من المتسولين ودعائهم بطول العمر لمن يدفع صدقة والعكس في جهنم لمن لا يعطي المال، كما وجد بعض فاقدي الضمير من السراق اصحاب الأيدي الطويلة التي تدخل في جيوب الاخرين، كل هذا جعل البعض من بائعي الكتب ينسحب وهم مرغمين من الشارع تاركين المجال لاصحاب الوجبات السريعة الذين يحملون مبدأ (طعام في المعدة خير من ثقافة في العقل).
كما يلاحظ الزائر في الآونه الاخيرة بان الشارع المتنبي اغلق من جهتين شارع الرشيد، ومن جهة شارع القشلة بالعربات التي تحمل قدور فيها الدولمة، والمعكرونة، واللبلبي (الحمص المسلوق)، والتمن وانواع من المرق بدون لحم طبعا، وايضا ولأول مرة بيع المحار مع الليمون، والكل يصرخ ويعلن عن بضاعته تاركين مجال صغير لسير زوار الشارع وهم متجهين نحو باب الدخول لبناية القشلة، هنا يبرز سؤال هل اصحاب المطاعم المتنقلة يخضعون للرقابة الصحية؟ انا متاكد لا وجود للرقابة الصحية، ايضا زحفهم الذي يزداد باستمرار وسيطرتهم على الشارع هل جاء من باب ادفع المقسوم وادخل؟ أو من باب فرض الوجود بالقوة! كما ان شارع المتنبي يحتاج للرقابة الصحية حول نظافة المقاهي وإزالة الاوساخ التي يرميها الجميع على الأرض ومن المفروض هم من الطبقة المثقفة، على اية حال الهموم كثيرة والإهمال لا حدود له، وإذا كان الشاعر الكبير ابو الطيب المتنبي قد قتل في بلدة وبايدي ابناء قومه، فان الشارع الذي يحمل اسمه سوف يقتل هو الاخر بسبب الفوضى وعدم احترام خصوصية الشارع عندها علينا ان نغير اسم شارع المتنبي ليكون (مطاعم شارع المتنبي للوجبات السريعة)، مع تحياتي للجميع...
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2023
4229 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع