بقلم طارق احمد السلطاني
حلم جائع
توقف صابر واتكأ على جذع شجرة الصفصاف المعمرة . ظل ينظر إلى نهر دجلة الخالد وهي تجري ببطء . كانت نظراته مفعمة باليأس والأسى وقد علا وجهه الشحوب والحزن والمرض ، وانعكس عليه شعاع الشمس الباهت ، الشمس الآيلة نحو الغروب .
أنه لم يذق طوال النهار طعاما ، ومن الجائز أن تكون الحمى قد أصابته . ملأت نيران الغضب قلبه ، وأظلمت الدنيا في وجهه , وخيل إليه أن الحياة كلها لا تساوي قلامة ظفر ! فقد ولدته أمه وهو يتيم الأب ! حرم من رعاية وحنان الأم عند بلوغه عامه الثاني من العمر !
فقد تزوجت أمه ورحلت برفقة زوجها إلى محافظة كركوك بعد أن أودعته في دار الأيتام ببغداد .
تألم وحزن كثيرا حين عرف هذه الحقيقة المرة ! غاص في بحر الأفكار ، أربع عشرة سنة مضت ووالدته لم تزوره في دار الأيتام يوما واحدا !
عرف أنها لا تريده ولا ترغب في رؤيته لهذا الدليل الدافع ولا جدوى من البحث عنها ! !
صمم على الهرب من الدار مع مجموعة من زملائه الأيتام الآخرين .
في ليلة حالكة السواد تمت عملية الهروب ، وانطلق الأيتام إلى الشوارع الخالية من الناس. مضت سنة وصابر يتنقّل في العمل من عامل مقهى إلى منظف في مطعم وحمال وصباغ للأحذية ... وعند حلول الليل يأوي إلى غرفة في بيت قديم ومهجور بمحلة الميدان . الحظ السيئ لازم صابر على الدوام . خاصة في مجال العمل . مضى عليه شهران وهو عاطل عن العمل .
رغم تجواله وبحثه الدقيق في أنحاء المدينة لم يعثر على أيّ عمل بسيط وشريف يدر عليه موردا ماليا يقيه شر الجوع والجنوح .
ومنذ يومين نفذت كل مدخراته من النقود . نعب بوم فوق شجرة الصفصاف العالية ، عوت الكلاب وازداد نباحها وهي تطارده ، أخذ يتحدث إلى نفسه بهمس قائلا :
- أن هذه الكلاب جائعة مثلي ! أن الحيوان يصاب بالجنون عندما يجوع ! خاصة الذئاب تصاب بالجنون حينما تجوع فكيف يكون حال الإنسان الشديد الجوع ؟ !
واصل سيره فوق أرصفة شارعي أبي نواس والرشيد نحو البيت القديم المهجور في الميدان . جيوبه خالية من النقود وعقارب الجوع تنهش معدته الخاوية من الطعام .
افترش أرضية الغرفة مستسلما لسلطان النوم العميق من شدة التعب والجوع !
* * *
أوقد النار تحت قدر الطبخ المصنوع من الفافون . سكب الماء فوق البصل المقلي بالدهن النباتي . خلط مع هذا المرق ( الصوب ) قطعا صغيرة من الخبز اليابس القديم . حين استوت أكلة الثريد أو المثرودة ، أخذ صابر يأكل بنهم طعاما حارا لذيذا طازجا .
* * *
استيقظ من النوم وهو يشعر بفزع وعطش شديدين ! صرخ قائلا :
- يا الهي ! ماذا عملت بدنياي حتى أحرم يومان كاملان من الطعام ؟ !
المطاعم تنتشر في شوارع المدينة ، ورائحة الشواء تزكم الأنوف .
شي لحوم الأسماك والدجاج والكباب تسكر أمثالي من الجياع . حرمت من الأكلات الشهية حتى في الأحلام ! فرؤيا ( أحلام ) الجياع خبزا يابسا مقليا بالدهن والبصل والماء .
1233 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع