بقلم طارق احمد السلطاني
خطة ماكرة
أشرقت الشمس زاهية وضاءة ، وانجلى الصبح مؤذنا بحلول يوم شديد الحرارة . كانت أضواء ذهبية تتكسر فوق المزروعات الصيفية الخضراء الممتدة على جانبي السواقي الصغيرة التي شقت بطريقة هندسية منتظمة لزراعة الخضراوات . أخذ الحاج محمود يسير وسط مزرعته الشاسعة الأطراف مراقبا عمليتي السقي وتوزيع الماء ما بين ساقية وأخرى .
ألتمعت المياه حين كانت الشمس تسطع حادة وأشعتها الدافئة غمرت بخيوطها جسم الحاج محمود لتلفه بالدفء والفرح !
همس إلى نفسه قائلا :
- الشمس والتربة والماء خير غذاء لنمو مزارع الخضراوات الصيفية . وفرة وغزارة الإنتاج رحمة وخيرا للفقراء ومحدودي الدخل من الناس . الحقيقة .. يعتبر الصيف خير صديقا وفيا للناس الفقراء .
* * *
عند انتصاف النهار شعر الحاج محمود بالتعب .. ازدادت معاناته من هذا الظهر القائظ والجو الخانق ! لا يدري إلى أين يهرب من هذا القيظ ؟ استبد به الظمأ .. جلس قرب الساقية الرئيسية .. بسط كفيه ليغرف جرعة من الماء .
فجأة ! سمع صوتا ينادي عليه من بعيد .. وحين استدار ناحية الصوت رأى ابن أخيه سمير متوجها نحوه وهو يحمل معه الطعام والماء البارد الصافي .
- كيف حالك يا عمي ؟
- بخير والحمد لله .. كيف حال والدك ؟
- والدي بخير ويرسل إليك تحياته الحارة .
- ماذا زرع في الموسم الصيفي هذا ؟
- أقتصر على زراعة البرسيم والبقول .. وهذا ما دفع الباعة إلى استئجار كافة الألواح المزروعة على الأرض مسبقا .
- لماذا لم تجلب ابنتي فوزية الطعام بنفسها ؟
- عندما عرفت عن الزيارة التي اعتزم القيام بها إلى المزرعة .. طلبت مني توصيل الطعام والماء إليك .
- شكرا لأخلاقك الطيبة يا سمير .. أرجو حضورك إلى بيتنا عصر يوم الجمعة القادمة .. لنصطحبك معنا إلى شركة الصيرفة لتحويل مبلغ كبير من الدنانير العراقية إلى دولارات .. لأنني أروم شراء سيارة صالون حديثة .
- حاضر يا عمي . سوف أحضر في الموعد المحدد .. مع السلامة .
- مع السلامة . أرجو أبلاغ أخي خالص تحياتي وأن يعتني بصحته جيدا .
* * *
عند حلول يوم الجمعة .. تم تهيئة شاحنة الحمل الصغيرة التي يستعملها الحاج محمود في نقل الإنتاج الزراعي إلى سوق البيع بالجملة للفواكه والخضراوات .
تم أخفاء الكيس المعبأة بداخله الدنانير تحت عدد من أكياس الجوت المعبأة بالطحين والتمور المجففة لتمويه اللصوص والعصابات المنتشرة في بعض أحياء بغداد في الوقت الحاضر !
تلك العصابات المجرمة التي تقوم بأعمال الخطف والقتل والسرقة والتسليب بقوة السلاح دون تمييز .. دون رحمة أو وازع من ضمير .
مسلحون مجرمون قساة القلوب لا يملكون أي روح دينية أو أخلاقية أو
وطنية .
في مقر شركة الصيرفة تم تحويل الدنانير العراقية إلى دولارات أمريكية بطريقة فنية سريعة وبكل شفافية .
أثناء طريق العودة إلى البيت لم يتعرضوا لأية حادثة غير سارة . طلب الحاج محمود من سمير البقاء لتناول طعام العشاء .. لكن سمير اعتذر وغادر المنزل بسرعة .
* * *
عند حلول الليل يخلد الحاج محمود إلى النوم مبكرا .. في الطابق الأرضي وقد أختار له في الغرفة الأخيرة منذ وفاة زوجته قبل سنتين . أما غرف الطابق العلوي فتشغلها ابنته فوزية وهي فتاة غير متزوجة .. أما ولده شاكر فهو متزوج ولديه طفلان .
عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل استيقظ الحاج محمود وهو يشعر بخوف وفزع شديدين !
فقد رأى أشباح ثلاثة وسط الظلام الدامس الذي يكتنف الغرفة !
* * *
تفشي آفة الجوع في بعض الأحياء السكنية حول القطط الأليفة إلى قطط متوحشة ، متمردة ، وهذا الجوع دفعها إلى الهجرة نحو أماكن أخرى بحثا عن الطعام .
دروس الجوع القاسية دربت وعلمت القطط اقتحام المنازل الآمنة وتحطيم زجاج نوافذها، ورفع أغطية قدور الطبخ وفتح أبواب الثلاجات الكهربائية والغوص في حاويات القمامة .. و .. و .. من أجل أن تشبع وتقتل عقارب الجوع التي تمزق أحشاءها.
استيقظت فوزية مذعورة فور سماعها أصوات أواني زجاجية تتكسر في
الطابق الأرضي . أخذت تحدث نفسها قائلة :
- أتكون قطة جائعة قد داهمت المطبخ ؟
* * *
أن كسر الأواني الزجاجية الذي سمعت أصواته فوزية لم يكن في المطبخ . بل كان بسبب ارتطام قدم الحاج محمود بالطاولة الخشبية الصغيرة وسقوط دورق الماء الزجاجي وتهشمه فوق بلاط أرضية الغرفة المظلمة .. بعد أن هدده اللصوص بقوة السلاح طالبين منه تسليمهم الأموال التي كان يحتفظ بها داخل دولاب الملابس .
* * *
نزلت فوزية السلم وهي حافية القدمين . حال دخولها المطبخ فوجئت بوجود رجل ملثم يقف عند باب غرفة نوم والدها .
لم يرتجف جسدها .. ولم تشعر بالخوف أو الفزع من هذا الخوف أو الفزع من هذا الموقف ! بل عادت إلى الطابق العلوي بكل هدوء .. وبصوت خافت أيقظت أخيها شاكر من النوم وقالت له :
- يوجد لصوص في غرفة والدي !
على الفور . حمل شاكر بندقيته الرشاشة .. تهيأ لإطلاق الرصاص من فتحة شباك صغيرة تُطل على الممر المؤدي إلى الباب الخارجي .
عند خروج اللصوص من غرفة والده أخذ يطلق الرصاص نحوهم .. لكن اثنان من اللصوص تمكنا من الفرار واجتازا الباب الخارجي التي تركت مفتوحة عند دخولهم إلى المنزل .
أما اللص الثالث فقد انتابته نوبة خوف شديد ! مما دفعه للاحتماء داخل
أحدى الغرف المجاورة لغرفة الحاج محمود من خطر الاطلاقات النارية التي تمطر فوق رأسه من الطابق العلوي . بسرعة البرق .. هبط شاكر السلم لأقفال باب الغرفة التي اختبأ بداخلها اللص الثالث ! طلب من والده وأخته فوزية حراسة الغرفة لئلا يهرب منها هذا اللص .
ثم واصل الركض مسرعا وراء اللصان الهاربان الآخران .. وهو يطلق اطلاقات نارية تحذيرية ويصيح بأعلى صوته قائلا :
- لصوص ! حرامية ! لصوص !
استيقظ العديد من الجيران . رجالا ونساءً ركضوا وراء اللصين الهاربين بين أزقة وشوارع المدينة . بعد مطاردة عنيفة استسلم اللصان وأعادا مبلغ المال المسروق !
* * *
من الغرابة والطرافة أن هذان اللصان لم تظهر عليهما أية علامة من علامات الخوف أو الندم عن فعلتهما المخالفة لكل الشرائع والقوانين الأخلاقية والوضعية ! بل كانا يضحكان ويطلقان كلمات المزاح فيما بينهما بكل نشوة وانشراح ! تحدث أحدهما إلى الناس المتجمهرين حولهما قائلا : - نحن لسنا من اللصوص كما تتصورون .. أننا رجلان شريفان . لكن الشخص الثالث الذي بقى مختفيا داخل البيت هو الذي جاء إلينا وطلب منا مساعدته في استرجاع مبلغ من المال تعود ملكيته إليه .. وقد كان هذا المبلغ قد أودعه لدى أحد أقربائه الذي أنكر أيداع المبلغ لديه فيما بعد .
وكلما يذهب إلى قريبه هذا .. يصر على إنكاره ويهدده ويطرده !
لذلك لبينا نداءه .. وقدمنا إليه المساعدة لاسترجاع أمواله ليس إلا !
ثم تحدث زميله الثاني قائلا :
- حتى أنه قد طلب منا عدم أطلاق النار إلا في حالة الدفاع عن النفس خاصة الأشخاص الذين يسكنون البيت . كما أخبرنا أن الرجل الذي أودع الأموال لديه .. يدير أعماله التجارية بالنجاح المعهود دوما .
* * *
بحضور أهالي المنطقة جميعا فتحت باب الغرفة التي كان اللص الثالث يختبأ في داخلها.. فوجئ الجميع عند رفع اللثام عن وجه الشخص الثالث !! فقد اكتشفوا أن اللص الثالث هو سمير ابن أخ الحاج محمود صاحب البيت الذي تعرض للسرقة !
صاح الحاج محمود في وجهه قائلا :
- كيف قمت بفتح باب الدار الرئيسي ؟ كيف سمح لك ضميرك جلب الغرباء وتهديد عمك بقوة السلاح وسرقة أمواله ؟
رد عليه سمير قائلا :
- عندما أخبرتني أنك تروم تحويل مبلغ كبير من الدنانير العراقية إلى دولارات عدت ثانية إلى بيتك بعد أن اشتريت قطعة صابون طرية من أحد المحال التجارية .
اغتنمت فرصة انشغال فوزية في المطبخ .. فقمت بطبع نسخة فوق قطعة الصابون والذي سهل علي صنع مفتاح جديد يشبه المفتاح الأصلي للباب الخارجي تماما !
أن الدولارات ... هذا الحشيش الأخضر المخدر سبب الدوار والصداع في رأسي ... أخذت الأرض تميد تحت قدماي !
فقدت بصري وبصيرتي وأنا أشم رائحتها عن بعد .. انحسر بقوة وأنا أنظر إليها تتداول بين أيادي الناس ! لهذا قررت خطف الدولارات من يديك
يا عمي .
- رأيت بعض النازحين إلى بغداد وكنت اعرف أنهم من أسوء أصناف البشر ! بل لعلهم حثالة البشر ، وقد بلغ هؤلاء حدا من السوء جعل الشرفاء من الناس يأنفون من الانضمام إليهم وأنت تشبه هؤلاء تماما .
- لعنة الله عليك يا أحمق ! على تخطيطك ونيَّتك سرقة أموالي ! فخطتك الماكرة باءت بالفشل الذريع .
لكنك قلعت شجرة العائلة المفضلة من جذورها .. وقطعتها .. وحرقتها..أمام الناس أجمعين .. حتى تحولت سمعتنا إلى فحم خشب أسود .
1456 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع