ضرغام الدباغ
على حافة النهاية
1
مؤشرات وبداية
في أواسط الشهر التاسع أيلول/ سبتمبر، وأنا عادة أستعد لأشهر الخريف، فالخريف يعني فيما يعنيه، أن الحياة ماضية في التجديد، ومؤشرات الرحيل ظاهرة بدرجات متفاوتة، فالأشجار حتى المعمرة منها، الباسقة والقوية منها، أزف وقت رحيلها، فتنفض أوراقها الصفراء الذابلة، التي حان وقت سقوطها، تتوهج صفراء منذ أسابيع ولكنها لا تتساقط بسهولة، بل وحتى في رحيلها تمنح الحدائق في المدن والغابات منظرا جميلاً، وبالنسبة لي، معظم الاحداث المؤسفة حدثت في الخريف.
وهذه المرة في خريف 2023 كنت في اسطنبول والأمر ابتدأ معي بألم في الجانب الأيسر من الرأس، حسبته في اليوم الأول على أنه مجرد صداع، ولكن في الأيام اللاحقة والصداع يلازمني ولا يزول، ولا يزيد بشدته، فالأمر على الأرجح شيئ آخر .... فما هو الشيئ الآخر ...؟ كان هذا المؤشر الأول وصفارة الإنذار التي لم نتعامل معها بما تستحق من الأهمية، رغم أني كنت قد قرأت منذ وقت بعيد، أن كل ما يصيب الأنسان بعد الأربعين من العمر، عليه أن يأخذه مأخذ الجد والاهتمام ... فأربعون عاما من العمل المتواصل دون لحظة استراحة شيئ يستحق الانتباه، القلب ينبض والدماغ يستقبل ويبعث بمؤشرات، هذا غير أعضاء مهمة تعمل على أفضل ما تكون عليه التكنولوجيا .... الكبد والكلى، والرئة، والمحرك الكبير ... القلب ... أنها تكنولوجيا دقيقة للغاية، ولكن ليس هناك شيئ أبدي
توفي جدي وهو في حوالي المئة من العمر، بسرطان في الدماغ، وتوفي والدي بسرطان الدماغ ايضاً، إذن فليس من المستبعد أن يصيبني نفس الشيئ، وأنا في الثامنة والسبعين من العمر، (فأنا من مواليد 6 / تموز ــ يوليه / 1944) ووالدي أصيب وهو السبعينات من العمر، ولكني اذكر أني حين قرأت مذكرات والدي بعد وفاته (كان يواظب على كتابة يومياته منذ شبابه وحتى وفاته) ، فوجدت أن مستوى خطه يتراجع بشكل ملحوظ، وهو صاحب الخط الجميل الأنيق .. حتى أصبح خطه قبل وفاته مجرد خربشات لا تكاد تفهم، ثم كفت قدرته نهائيا وتوقف قبل وفاته بأشهر عن القدرة على الكتابة. ولكن مستوى خطي انا لم يتأثر باللغتين العربية والألمانية، لذلك استبعدت أن أكون مصابا بالسرطان، ولكن مع ذلك فالأمر يستبعد أن يكون شيئاً بسيطاً وعابراً .
ولكن حدث يوم ( 18/ سبتمبر) أن سقطت على الأرض، واستبعدت زوجتي أن يكون الأمر بسيطاً لذلك قصدنا مستشفى تركي، ولكني بدأت أتحسن في اليوم الثاني والثالث حتى بدون تناول علاج، ولكن لا خلل ملحوظ في حركة الساق واليد،، لذلك صممت على الخروج من المستشفى، وكانت زوجتي مضطرة للذهاب إلى برلين، لذلك سافرت على عجل (7 / نوفمبر) على ان ألتحق بها بعد أيام بحسب توفر بطاقة السفر(تمكنت من الحجز ليوم 16 / نوفمبر). وفي يوم 8 نوفمبر تفاقمت حالتي الصحية بحيث فقدت القدرة على النطق، وتحريك رجلي اليمنى، وذراعي الأيمن بدرجة شبه كلية، وفي 9 / نوفمبر لم أكن أستطيع أن أتكلم مع زوجتي في الهاتف فلم يكن بوسعي تلفظ كلمة واحدة بالعربية أو بالألمانية، أدركت زوجتي في الهاتف من برلين أنني في وضع محرج، فأسرعت بالقدوم بطائرة الفجر من برلين يوم الخميس (10 / نوفمبر) .
توصلنا لأسباب وجيهة إلى ضرورة السفر لبرلين، وتمكنا فعلاً ولو بصعوبة إيجاد مقاعد على طائرة الظهيرة (هناك 5 طائرات يومية من إسطنبول لبرلين يومياً) يوم السبت 13 / نوفمبر. وكانت مجازفة بدرجة معقولة ان نتعرض لجلطة جديدة اٌقسى من الثلاث السابقات، وقد تكون القاضية.
2
في برلين / مستشفى الشارتيه
على كل حال وصلنا برلين بعد ساعتان ونصف من الطيران، وبدا أن المحنة وضعت في طريق الحل، وأخذت من كرسي الدفع من باب الطائرة إلى سيارة تاكسي ومن باب المطار إلى البيت، وفي الطريق سألتني زوجتي، كيف سنصل إلى البيت / الشقة، وفي باب العمارة، أقترح سائق سيارة التاكسي الشاب التركي أن يساعدني بالوصول إلى الشقة ... يا له من اقتراح أخوي جميل، وفي اليوم التالي 14 / نوفمر بدأت الاتصالات عبر الهاتف، طبيبي العائلي أحيط علما وأرسل خطابا بواسطة البريد الالكتروني إلى إدارة مستشفى الشارتية (Charite) التي طلبت منا الحضور الفوري، وخلال دقائق كانت سيارة إسعاف مع طبيب اخصائي وممرض مختص في البيت وعاتبونا على التأخير ....!
فورا إلى الشارتية، وهي عبارة عن قلعة طبية، لها شهرة عالمية بجميع أقسامها، ومباشرة إلى قسم الجملة العصبية (Neurologie Abteilung)وبدون تأخير شخص الإصابة بعد تصوير شعاعي (CT Scan) جلطتان خفيفتان، وثالثة قوية، والأمر بحاجة إلى تدخل فوري وسيتم خلال دقائق.
لم أكن بوارد الرؤية والسماع وتشخيص ما يدور، ولكن شعوراً قويا كان يملأ كياني أنني بين أيدي خبيرة، لاحقا أخبرتني زوجتي، أن كبيرة الأطباء في المستشفى كان تقف فوق رأسي، وتسرع بنفسها لأخذي إلى قسم الاشعة، ثم تأخذ نتائج التحاليل والتهيؤ للعملية بنفسها تدخل وتخرج في غرف القسم، وهي تخفف من وقع الأمر على زوجتي، وقالت لها " أنظري يا سيدة الدباغ .... زوجك بحالة خطرة، فهو مصاب بثلاث جلطات، وجمجمته مليئة بالدم ..والخيارات أمامنا ليست كثيرة، وسنجري له عملية فوراً ستستغرق 6 ساعات، وسأفعل المستحيل لإنقاذه، ولكني أصارحك أن احتمال نجاح العملية هو 75% ، ولكني سأنجح ..... سأنجح... وسأعيده لك حياً ..."
أما أنا فكنت في عوالم أخرى، لا علاقة لها بالجلطات الدماغية، عوالم لا أختارها بنفسي، ولاأختار شخوصها، بل هي تفرض نفسها، صحيح أسمع كلمات، ولكني دماغي عاجز عن ربطها وتجميعها، فأنا لا أفهم ما يدور بدقة حولي، ولا أستطيع التفوه ولو بحرف واحد ....! ولكن دماغي المجروح والمتعب ما زال يطلق إشارات عدم الاستسلام ... يفكر ....! ويعانق من يريد .. البعيد عني 12 ألف كيلومتر. ليس ببعيد كثيراً ... آه منك ... فأنت أينما حللت في دمي ..!
كانت العينان تعملان بدرجة معقولة، ولكن تسجيل الاحداث في الذاكرة يبدو ضعيفاً، كنت أشاهد ما هو يقع تحت ناظري، ولكني لست متأكداً من قدرتي على تخزين المشاهد وربطها ببعضها واستخراج الصورة المنطقية، وكنت أعرف انني في الشارتيه، وأنهم يدخلوني في غرف ومختبرات، ويفحصون كل شيئ، وأسمعهم يحدثون زوجتي ويسألونها كثيراً، ولكن قدرتي على تخزين (save) ما اسمع ضعيفة جداً، أو لنقل معدومة، ولكن زوجتي تحفظ كل شاردة وواردة، وبوسعها استعادة شريط الاحداث صورة وصوت بدقة عجيبة ..
شعرت أنهم يأخذوني على السرير النقال إلى مكان ما، الطبيبة البروفسورة تدفع السرير بنفسها ...! ومعها زوجتي ..، قالت لي فيما بعد " كنت أشعر أنهم يسابقون الزمن .." أدخلوني لمكان ما .. شاهدت رجلاً يجلس على طاولة وكومبيوتر .. حاول أن يمازحني .. ولكني كنت مجرد كومة لحم لا غير .. لم أفهم بدقة مرامه، ربما أراد أن يبعث في هذه الكومة بعض الأمل .. كان يكلمني وهو لا ينتظر مني إجابة، حتى دخولي غرفة العمليات (في تلك اللحظة لم أكن أفرق بين هذه وتلك) كنت أسمع صوت زوجتي تحدث الفريق الطبي، بقيادة البروفسورة الطبيبة التي لعبت دورا كبيرا في إعادتي للحياة ... ثم لم يعد بوسعي سماع أو رؤية شيئ، دون ألم ودون إحساس دقيق مما يجري ...ولكني كنت أعرف من أنا وتذكرت في تلك اللحظات صور أهلي ووطني، ومرت في ذاكرتي المنهكة صور أخرى متلاحقة ... كنت أني على شفا النهاية ولم يكن بوسعي تحريك أي جزء من جسمي ... ربما زرقت بعدة أبر ... لا أدري ... ثم لا شيئ.....
كان معرفة الزمن قد أصبح ضربا من العبث، أو معرفة ما يدور بدقة، ويصح القول تماماً أني كنت لستة ساعات خارج الحياة ... وأنا أسجل الكثير مما دار بناء على ذاكرة زوجتي، والغريب أنها تتذكر كل شيئ بدقة تامة نص الحوارات .. وحتى ملامح وجهي و... تقول أنني كنت أحاول الحديث فلا أقدر .. أريد أن أقول شيئاً ولكني غير قادر على لفظ الكلمات .. وأحاول ذلك مرات ومرات ... تقول " كنت أشعر انك تتعذب، لأنك تريد قول شيئ ما قد يكون مهماً بالنسبة لك، ولا تقدر ..! فينتابك الغضب والعصبية ... وتجهش هي بالبكاء ... كنت أسكت أنا رأفة بها وبنفسي ...فأخاطب نفسي " ضرغام ... كنت عاقلاً وأفهم ما أنت فيه.. ومت بجلال قدرك ". ولكني أريد قول بضعة كلمات هي خلاصة حياتي .. ولكني عاجز عن التلفظ .. هو شعور مؤلم أكثر من الألم نفسه ...كنت أريد القول " بلغوا سلامي .. ومحبتي واحترامي ...أنا لست آسفا على شيئ ... سأقابل أصدقائي ورفاقي .. الذين قضوا في سوح العمل .. اريد أن أعانق (ع) وأقول له ... " لقد بقيت مخلصاً لأخر ثانية من عمري ..! سأموت وأنت وأسمك فمي وقلبي ... ولكن ليس بوسعي ان أنطق حرفا واحداً .... هذا هو الألم وليس شيئاً آخر ...!
في لحظة معينة .. ليس بوسعي ان أسجل ..ظروفها، حاولت أن أقرأ في نفسي شيئ من القرآن .. ولكني كنت اتوه بين الكلمات .. وكان ذلك يؤلمني... أحاول أن أستوعب ما يجري بالنظر إلى الغرفة / الصالة وبوسعي أن أتذكر أني وجدت نفسي في غرفة مليئة بالمعدات الطبية / الالكترونية، التي تقدم قراءات، وإضاءة خافتة من أجهزة كثيرة تحيط بسريري .... وأمامي نافذة أدركت أنها تمكن من يريد رؤيتي من غرفة مجاورة .. أدركت أنها إذن أنها ربما غرفة العناية المكثفة (Intensiv Station) في لقطة لا أتذكر متى وكيف وأين ... اقتربت زوجتي مني وقالت لي " ضرغام، أجروا لك عملية وأنت الآن في العناية المركزة " قالت لي فيما بعد، أنها قالت للمشرفين " دعوني اراه لثوان فقط أنا أعرفه أفضل منكم، سيغضب وينفعل ما لم يدرك ماذا يجري ويدور " فتركوها أن تقف امامي على بعد ثلاثة أو أربعة أمتار، تلفظت بهذه الكلمات فقط وانسحبت ... حتماً كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، نحن الآن في 15 / نوفمبر، حتماً ... برؤية مفككة أرت أن أقول لها مشفقا عليها من التعب، " أذهبي للبيت ...". ولكني كنت عاجزا عن إخراج الكلمات ..
وكنت قد قلت لزوجتي بكلمات متناثرة، حين كان ما يزال بوسعي تلفظ ذلك ولو بتعثر بالنطق " أنظري .. أنا الآن في 78 من العمر ... ثقي لقد شبعت من الحياة، في العمل وفي النضال من أجل ما آمنت، وإن مت فأنا لم اسيئ لبشر في حياتي، وعملت بكل طاقتي لوطني وشعبي، ولكني أريد أن أعيش من أجلك ... أشعر أنك بحاجة لي "
قالت لي زوجتي فيما بعد " كنت أتمنى من الله أن تبقى حياً، ولو في حالة الشلل التام، وعدم القدرة على الحديث، .. أن تبقى على قيد الحياة فقط ... ضرغام لا تمت رجاء ...!".
لم اكن أستوعب بدقة ما تقول، ولكني لاحظت أنبوبا يمتد من رأسي حتى أعلى صدري بلون أحمر أدركت أنه مليئ بالدماء، وبصعوبة تشكلت صورتي على النافذة الزجاجية .. أنا راقد على السرير، ولفافة ليست كبيرة تربط جمجمتي، وخرطوم مطاطي يتدلى من الجانب الأيس، وحين حاولت بيدي اليسرى السليمة أن ألمس رأسي، أدركت أن هناك أنبوبا ثانياً ويتدلى منه كرة زجاجية بحجم رمانة صغيرة، أو حبة ليمون مليئة بسائل أحمر.. لابد أنه دمي .... فيما بعد أخبرتني زوجتى أنها ثلاث كريات بنفس الحجم مليئة تقريباً بالدم ... ثم علمت أنهم حفروا ثلاث حفر في جمجمتي ليسيل منها الدم خارجاً، ولست أدري إن كانوا قد سحبوا كمية أخرى من الدم ... ولكني لاحقا (في الأيام اللاحقة) تعرفت على صحفي ألماني (رئيس تحرير صحيفة محلية) بنفس حالتي تماماً تتدلى من جمجمته ثلاث كريات حمراء.....
إذن فاتنا قطار الموت ..... وتركني على رصيف المحطة بالانتظار .....!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)
الشاريتيه طاقمه الطبي (غير الإداري والهندسي) مؤلف من أكثر من 200 بروفيسور و4000 طبيب متخصص ذو كفاءة عالية يغطون كافة المجالات والتخصصات، 13 بروفسور حصلوا على جائزة نوبل ، ويدرس الطب في مستشفى الشارتيه 7500 طالب وطالبة مسجلون في الشاريتيه اليوم. وتتعامل مع 1،080،000 عيادات خارجية و 128،000 مرضى مقيمين في 3،500 سرير سنويا 14،400 أشخاص يعملون في مواقعها الأربعة في برلين .
المعلومات من الموسوعة الألمانية والأرقام تعود لعام 2021 / 2022
(الصورة : إحدى أقسام مستشفى الشارتيه / برلين )
3
برلين / مستشفى الفيزيوثرابي
عشرة أيام بعد العملية وربما أحد عشر يوماً، 24 ــ 25 / نوفمبر / 2022 رفعت الكرات الزجاجية، وبعد فحوص عديدة، رأى الأطباء أن العلاج الجراحي قد حقق أهدافه، ولكن يجب أن نبقى تحت العلاج الفيزياوي (Physio-therapie) مستشفى خاص لم أكن قد سمعت بمثله من قبل، نقلت بسارة اسعاف متخصصة إلى المستشفى الفيزياوي التابع لمستشفى الشارتية الكبير، ويبعد عنه نحو 3ـ 4 كيلومتر، ويضم أطباء من مختلف التخصصات، يراقبون سير وتطور العلاج، لضمان عدم حدوث انتكاسة، وفي حالة أي تراجع في تواصل الشفاء يعاد فورا للمستشفى الكبير، ولكن هذا الاحتمال ضعيف، فالمرضى الخارجين من عمليات ثقيلة أو معقدة، يودعون على الأرجح للعناية الفائقة في هذا المستشفى.
العناية الفائقة تعني، فحص الدم يوميا ولأكثر من مرة، وقياس الضغط، والسكر، والوزن، وتفحص الأقدام والأيادي، وأي مؤشر ..! وموضع العملية الجراحية، ويراقبون كل شيئ بدقة تامة بما في ذلك الإقبال على الطعام، وتطور القدرة على الحديث والسير بالعكاز الرباعي، فكل جزيئة في الجسد تحت السيطرة، والفحص اليومي ولعدة مرات في النهار والمساء يومياً.
كل هذا يفعله طاقم مؤهل، مدرب، بكل لطف وتهذيب عال، واحترام لوضعك الصحي، وللأزمة التي تمر بها ..وشاهدتهم يفعلون ذلك مع مرضى بحالات صعبة، يحممونهم ويغسلون أطرافهم، بصبر، يعاملون المرضى بمحبة، وغالبا ما يطعمونهم بأيديهم، ويحتملون منهم ما ينجم من أوضاعهم ... كنت أدهش وأنا الذي عشت في ألمانيا سنوات طويلة.... يا لدقة هذا النظام .. ما أروعه، رئيس الأطباء يجلس على الأرض ويضع قدم المريض في حجره ويفحص أصابع قدمية بكل عناية ودقة، بلا استنكاف ولا تقزز، وأنت تكاد تعتقد أن هذا الشخص هو ممرض، أو خادم، فإذا به رئيس قسم أو رئيس الأطباء .. فتأمل ...!
بعد أن يتأكد الأطباء أن كل شيئ على أفضل ما يرام، يحال للعلاج الرياضي، فهناك قسم يعمل فيه مدربون مهمتهم إعادة أعضاء الجسد الخاملة منذ فترة طويلة وإعادتها إلى الحركة وفق منهج مدروس بدقة، وهناك صالات تضم معدات كل فقرة منها تختص بالتعامل مع عضلة معينة، أو جزء من الجسد وتأهيله لإعادته للحياة بطرق علمية، وباستخدام أمثل للوسائط والعدد الرياضية، لإيصال المريض إلى درجة يستطيع المريض الاعتماد على نفسه بأعلى درجة ممكنة.
حين تشاء الظروف ويدخل الإنسان إلى مستشفى يتخصص بالعلاج الفيزيائي/ يكتشف أن القضية العلاجية ليست فقط إجراء عملية، وينتهي كل شيئ ... فأنا حين دخلت مستشفى العلاج الفيزيائي كنت بالكاد أستطيع السير بضعة خطوات معتمداً على مسند معدني ذو أربعة ركائر، وهو يعادل عملياً أربعة عكازات يمكن استخدامه بالسير بخطى بطيئة وبحذر لبضعة أمتار فحسب، ولكني في المستشفى الفيزيائي، أحرزت تقدما سريعاً بحيث صار بوسعي أن استخدام الحمام لوحدي، وأمارس التدريب الرياضي بأشراف المدرب، وبالطبع يدرك المدرب، بسني الثامن والتاسع والسبعون، لا يدور في خلده أو في خلدي أن أساهم بفعالية رياضية متقدمة، فبالنسبة لي السير لبضع مئات من الأمتار، ولو بعكازة، ولكن بدون ألام ، أو تشنج، او القدرة على ممارسة أنشطة عادية هو كاف،
كان أطباء القسم قد خططوا لإقامة طويلة في المستشفى تقارب الشهر أو أكثر، ولكنهم عندما وجدوا استجابة مني طيبة، ففي اليوم العاشر خرجت أنا ومدرب الرياضة ومشينا حول الغابة التي تحيط بالمستشفى، وأقسام أحرى داخل محيطه، وهو يسألني بين الحين والآخر إن كنت قد تعبت .. ولما كان كل شيئ على ما يرام، احالوني لمستشفى آخر أقل كثافة في المراقبة الصحية والغذائية، ومستوى الاستيعاب العقلي، وبدأوا معي من الصفر تقريباً، في القراءة والكتابة، وفهم واستيعاب ما أسمع. فعلوا ذلك بصبر، وباحتراف مهني عال للغاية، في وكانت كافة المؤشرات وخاصة السكر والضغط، ومؤشرات المستوى الفيزيائي جيدة جداً تقرر احالتي بعد 10 ــ 12 يوماً لمستشفى (العيادة اليومية) للعلاج الطبيعي،
4
برلين / مستشفى تاغس كلينيك
8 / ديسمبر ــ كانون الأول ... في مستشفى / العيادة اليومية (Tagsklinik) : ويقع هذا المستشفى ضمن نطاق المجمع الطبي التابع للشارتية أو بإشرافه، ولا يبعد سوى نحو 200 متر عن المستشفى الفيزيائي، والذي يضم عدد من الأطباء، المختصين بالصحة العامة، والتغذية وخبراء تأهيل بدني، يحال إليه المرضى الذين مروا بمرحلة صعبة (عمليات دقيقة) وهم بحاجة لإشراف دقيق في تناول العلاج، أو في نوعية الغذاء، لذا يقدم المستشفى وجبة الفطور، ثم وجبة الغداء، وهي وجبات مشبعة، والقهوة والشاي والفواكه في أوقات متفرقة، ونسبة السعرات الحرارية (kalori)مدروسة بحسب حاجة كل مريض بلا زيادة ولا نقصان، فالغذاء الذي يقدم في الوجبات يختلف في قوامه من مريض لأخر بحسب وضعه الصحي،.
حالما يلتحق المريض بالمستشفى، ينسب بالالتحاق بمجموعة تتألف عادة من 6 ـ 7 أفراد يجلسون في غرفة ولكل طاولته ومعدات شرب الشاي والقهوة، والمياه المعدنية متوفرة دائماً. رجال ونساء محالين من مستشفيات(غالبا ممن تجاوزا الخمسين من العمر)، بعد تلقيهم العلاج والرقود في المستشفى، وفي الانتقال إلى هذا المستشفى الذي يتميز أساساً أن المرضى لا يرقدون فيه، بل يداومون من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الساعة 16,00 (الرابعة عصراً) وتنقلهم سيارات (باصات 6 ــ 8 راكب)، من بيوتهم للمستشفى، وبالعكس. فالمرضى لا يرقدون في المستشفى إلا نادراً، ولا أعلم ما هي تلك الحالات التي توجب الإقامة في المستشفى، ربما أن المريض قد يعاني من مشكلات معينة في السكن، أو لا يتوفر شخصاً يساعده في البيت.
وبتقديري أن هناك إلى جانب التأهيل العلمي المتقدم والممتاز، للأطباء ومساعدين الأطباء، وجهودهم الكبيرة في إطار التأهيل البدني والعقلي، لست على اطلاع تام كيف وما هو المستوى الذي تلقاه العاملون، ولا شك أنه مستوى متقدم، فكافة تصرفاتهم تنم عن خبرة عميقة وتجارب كبيرة تمكنوا من وضعها في إطار علمي، واستفادوا منها، وها هم يقدمون الخدمات الممتازة للناس.
المجموعة (Grupp) التي يلتحق إليها المريض لديهم برامج علاج مختلفة، فالعلاج الذي تبدأ الساعة الأولى 9 صباحاً، وحتى الساعة الرابعة عصراً، تشتمل على استعادة اللياقة البدنية والقدرة على المسير بمساعدة آلية (عكازة ــ عجلة دفع ذات إطارات، يمكن استخدامها للجلوس أيضاً) والفكرة الأساسية للعلاج هي إيصال المريض لمستوى يستطيع الاعتماد على نفسه سواء كان يعيش بمفرده، أو مع شخص آخر في السكن. ولكن بصفة عامة يعاني أفراد المرضى من صعوبات في الحركة. بسبب إصابات لحقت بهم من خلال حوادث، أو الوضع الصحي للمريض بسبب التقدم في السن. ومن المهم أن نذكر، لا يعتبر المرء طاعناً في السن في ألمانيا، فالإنسان في سن السبعين في السن، أو في الثمانين، ولا يعتبر شيئاً استثنائيا إلا إذا تجاوز المائة عام في عمره.
يبدأ برنامج المريض (كل حسب وضعه الصحي) فهناك أنواع من التدريبات، البدنية وتسمى فيزيوثرابي، تهدف لاستعادة أجزاء الجسد لقدراته الحركية، وهناك العديد من الوسائل المنتقاة بعناية ودراسة دقيقة لحالة المريض، ومن التمارين ما تتم من حالة الجلوس أو الرقود، أو باستخدام معدات وتقنيات رياضية، أو تمارين من الحركة، تبدأ بصعود وهبوط السلالم، أو المسير، أو السباحة، والشباب أو الشابات اللاتي يقمن بدور المدرب، كلهم من خريجي معاهد درسوا لا يقل عن ثلاث سنوات، في تخصص الفيزيوثرابي.
وهناك من التدريبات ما تعيد إلى الذهن قدارته، وهذه مثيرة فعلاً للاهتمام، إذ يحاول المدرب أن يعيد للمريض قدرته على التذكر من خلال تمارين منتقاة بعناية فائقة وبأسلوب علمي، كيف ..؟
ابتداء يتعرف العاملون على القدرة الذهنية الحالية للمريض، وإذا كانت قد تراجعت (وهي سبب وجود المريض في هذا المكان) ، فإلى أي مستوى ..؟ ومن أين نبدأ ..؟
يتحاور الخبير، أو الخبيرة حول موضوعات مختلفة، ثقافية واجتماعية وفنية(بحسب مستوى المريض الثقافي والدراسي)، ومنها يتعرف كم فقد المريض من قدرات، ثم طريقة لفظ الكلمات، وهل يستطيع أن يدير حواراً طويلاً، وهل صوته وحديثه مفهوم ...! وبعدها سيحاولون أن يتعرفوا على خط المريض ... وهل تراجع، هل يتقدم وبأي مستوى ...؟
فيما يحاول الخبير / المدرب البدني أن يتعرف على نقاط الضعف في الجسد، وفي الحركة، فمثلاً أنا أعاني منذ سنوات كثيرة (منذ 2005) من ضعف في السمع (الأذن اليمنى) وهم حاولوا أن يعرفوا هل تراجعت القدرة السمعية، وما هي درجة تأثيرها على التوازن والسير. ركزوا كثيرا على طريقة صعود السلالم ... وضرورة أن أمسك بيدي حاجز السلم، ولا أنسى مطلقا مدربة في العشرينات، تتوسلتني بعين دامعة " رجاء .. رجاء سيد دباغ .. رجاء أنتبه حين تصعد السلالم، لا تستعجل رجاء، وأمسك الحاجز .." كانت البنت تعاملني وكأنني والدها .. بمحبة واحترام ولطف بالغ ...! وحقا أنا أتذكرها الآن فعلاً كلما هممت بصعود الدرج ...!
المريض يشعر تماماً أن الأطباء والممرضين يفعلون كل شيئ أو لتحسين وضعه الصحي، مع الممنونية (With pleasure ) بل شاهدت بنات صغيرات (مدربات) يدللن مرضى ومريضات مسنات بطريقة عاطفية، ويجلبن الابتسامة لوجوههن المتعبة، هذا عمل يفوق ما يطلبه الواجب مقابل الراتب .... هو عمل إنساني رفيع مبهر ... كنتا أقف معقود اللسان عاجز عن التعبير حيال ما يبذله حفنة من الشباب والشابات يديرون مؤسسة كبيرة في حجمها وانتاجها .. .لا أثر ولو لمليمتر واحد للرأي الشخصي، أو السياسي، أو الثقافي،.... ما هذا..؟ أهو النظام أم التقاليد، أم هو نتاج تدريب رائع لهذا الكادر الذي يقوم بواجبه بأروع ما يمكن .... كل شيئ يدور حسب المنهج ولا خروج عليه قدر أنملة، هذه المؤسسة تدور كساعة رولكس بالغة الدقة.
كافة الفرق، والمدربين كانوا يعملون وفق خطة موحدة يكمل جهد بعضهم، البعض الآخر .. حتما الجهد التنسيقي بين أعمالهم موجود يتمثل بالمديرة ونائبتها، ورئيسة الممرضات(معظم الكادر العلاجي من النساء)، ينسقون فيما بينهم، ويضعون لكل مريض برنامج يراجعونه بين فترة وأخرى ليقفوا على التطور ومدي استجابة المريض ... وهذا لا يدور في نطاق هذا المستشفى (تاغس كلينيك) فقط، بل بين المؤسسات الثلاث الذي تعاملت معها، وفي النهاية يكونون صورة قد لا أعرفها عن نفسي، ولكن مجموعة الأطباء والخبراء والمدربين في المستشفيات الثلاث وكأنهم فرقة موسيقية يعزفون سمفونية رائعة .... وخلال أيام العلاج يكونون فكرة دقيقة جدأً عن المريض، صحته، قابلياته، ثقافته، معنوياته، أبعاد شخصيته، وقدرته على تحدي المرض ..قوة إلإرادة عنده على الحياة،
جماعة مطبخ المستشفى صاروا يعرفوني، وصاروا يعدون لي طعاماً خال من لحم الخنزير، والألمان يعلمون ذلك ويسمونه (Halal) "حلال" ويقدمونه بود لي، لفم لأقل لهم شيئاً، فهم عرفوا كل شيئ خلال الدقائق الأولى لحلولي في المستشفى ,,, لا أستطيع بكلمات صغيرة، سواء في العاملين في " تاغس كلينيك " أو في الشارتية عموماً.
نعم كنت مشتاق للحياة العادية، أن أتمكن من الذهاب للمطاعم، أن أجلس في مكتب، أن أحاول أستعادة قدراتي الكتابية، أن أشتفل بالكومبيوتر ..ولكني حين غادرت مستشفى تاغس كلينيك .. عز على فراق هذه الملائكة ..!
بعد خروجي يوم 7 / كانون الثاني ــ يناير / 2023 بأسبوع ذهبت لمستشفى تاغس كلينيك، مع زوجتي، وشعرت نفسياً أنني مدين لهذه المؤسسة، لأني خرجت أسير على قدمي ..! أخذت معي باقة زهور كبيرة، استقبلتني المدير في صالة المستشفى عندما علمت بأني قد حضرت لتحية العاملين، خرجت من غرفتها بسرعة وعبرت عن شكرها لزيارتي وقدمت لها شكري العميق وللعاملين من أطباء ومساعدين، وعاملين، ووضعوا باقة الزهور على طاولة واضحة في صالة الاستقبال مع بطاقة تشير إلى هذه الزهور هي هدية من الدباغ وزوجته للعاملين والمرضى في المستشفى.
نحن نتعرف على الناس، يتفاعلون معنا، يشعرون بآلامنا، يحاولون جهدهم إخراجنا من الأزمة الصحية التي نشعر بها... حريصون على صحتنا، يهمهم رأينا بخدماتهم، ويودون بلطف أن يسمعوه .. أنا سأقوله بوضوح وأخشى أن لا تكفي الكلمات للتعبير .. لذلك سأختصرها. بكلمة واحدة ....
" شكراً شارتية ... شكراً مستشفى فيزيوثرابي، شكراً تاغس كلينيك ... شكراً جزيلاً ".
Danke Charite, Danke Physiotherapie, danke Tags Klinik... vielen Dank ."
Thank you Charite, Thanks physiotherapy, thanks Tags Clinic... Thank you very much ."
1728 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع