احمد الحاج
الـ "قطة" التي لخصت إرثا رحمانيا عظيما !!
(( فَإِنْ كَذَّبُوك فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَة وَلَا يُرَدُّ بأْسُهُ عَنْ الْقَوْم الْمُجْرِمِينَ ))[الأنعام:147]
معظمنا تابع الضجة التي أحدثها مقطع القطة والشيخ ، ولاسيما من خلال وكالة رويترز ، وسي ان ان ، وبي بي سي ، وصحيفة الاندبندنت البريطانية ، وغيرها العشرات من المحطات والصحف والوكالات والفضائيات وكيف أنها لم تدخر وسعا لتنشر وبإحتفاء بالغ مقاطع الشيخ الجزائري وموقفه العفوي الانساني والرحماني الرائع مع القطة التي باغتته أثناء الصلاة ، حتى وصل عدد مشاهدات المقطع الذي لم يتجاوز الدقيقة الواحدة أكثر من مليار مشاهدة خلال 48 ساعة فقط ،وما يزال المقطع يتفاعل وبشدة في كل أنحاء العالم وبسرعة عجيبة حتى كتابة السطور .
مقطع قرأني ورحماني عفوي قصير واحد حيث لامونتاج ولا اخراج ولا سيناريو ولا حوار ولا كرافيك ولا موسيقى ولا مؤثرات صوتية ، ولا برومو ، ولا تتر ، ولا مكساج ، ولا لوكيشن ، ولا بلاتوه ، ولا اكشن ، ولا نجوم سينما أو إذاعة أو تلفزيون ،وانما قرآن بصوت عذب شجي رخيم يتلى آناء الليل وأطراف النهار قد أخذ بمجامع العقول والقلوب على سواء ، لتأتي آلاف التعليقات على صفحات غير المسلمين الأجانب وكلها تثني على الاسلام خيرا ، وتتفق على أن معظمهم قد شعروا بالراحة ، والطمأنينة ، وبقوة هذه الصلاة ، وروعة تلكم التلاوة ، وإن كانوا لايفهمون منها شيئا قط، اضافة الى اعجابهم الشديد بظاهرة الرحمة الاسلامية بالمخلوقات وقد لخصها الشيخ أمام أنظارهم بالصوت والصورة .
إنه الإسلام العظيم ياقوم ...إنها روعة القرآن الكريم ...إنه سحر صلاة قيام الليل ...إنها بركة صلاة الجماعة ...إنه ألق المسجد الجامع ...إنها كرامات رمضان ، شهر الصيام ، والقيام يا قوم ... إنها بركة رعاية الحيوانات ، والرفق بها " وفي كل كبد رطبة أجر " كما أوصانا بذلك النبي الاكرم ﷺ،...ياقوم ،إنها تأثير الرحمة والرأفة واللين بكل المخلوقات التي أوصى بها الشارع الحكيم ..ياقوم .
لقد سحب المقطع الرحماني القصير الرائع وبدقيقة واحدة فقط لاغير، البساط من تحت أقدام كل المسلسلات الدرامية والبرامج الهزلية والاغانى والكاميرات الخفية التي يتعمد المنتجون عرضها في رمضان والتي لم تحقق - مجتمعة - وبرغم المليارات التي أنفقت عليها عشر معشار معشار ما حققه المقطع العفوي المجاني بكاميرا هاتف محمول ثابتة موضوعة أمام الشيخ الجزائري وليد المهساس ، والأجمل هو أن الآيات الكريمة التي كان يقرأها الشيخ هي من (سورة الأنعام ) وقد سميت بهذا الاسم لحديثها عن الأنعام،وقد تكرر هذا اللفظ في سياقها ست مرات ،والانعام هي الإبل والبقر والضّأن والمعز.
كما أن الآية الكريمة التي قرأها الشيخ الفاضل واستفتح بها جاءت متوافقة مع واقع الحال " وخلاصتها أنهم وإن كانوا يريدون ان يكذبوا رسول الله ﷺ الا أن الرحمة الواسعة بالتائبين والعائدين والنادمين منهم ، والرحمة الواسعة بالخلق من حولهم ، أكبر فاضح وداحض لأباطيلهم وأكاذيبهم " أنها توافق مذهل مع الحدث ، والنتيجة الحتمية هي هذا التأثير الهائل الذي أحدثه المقطع في أرجاء المعمورة ،حتى أن بعض تعليقات الاجانب كانت تطلب تعريفهم بالاسلام ، وبعضها كانت تعرب عن حب أصحابها للاسلام وإن كانوا على دين آخر,,فهل كان الشيخ وموقفه النبيل من القطة فلتة من الفلتات ، وبدعة لم يسبقه إليها أحد من المسلمين من قبل ولا من بعد ؟!
دعونا نمر وبعجالة على الارث الاسلامي الخالد في رعاية الحيوانات والدعوة للرفق بها و من غير اطالة مملة ، ولا اختزال مخل .
لم يذهب حاج ولا معتمر الى الديار المقدسة الا وشاهد بأم عينيه "حمامات الحرم" وكيف أنها تُسقى وتُطعم بكل مودة وحنان ورحمة من قبل الاف الحجاج والمعتمرين على مدار العام ومنذ قرون طويلة ،كذلك الحال مع حمام المدينة المنورة ، حمام الحرم هذا يطلق عليه ايضا (حمام الحمى) لأنه محمي حيث لا يجوز قتله ولا ذبحه ولا اخافته ولا تنفيره بل ولا كسر بيضه ، امتثالا لقول النبي الاكرم ﷺعن حرمة البيت الحرام " فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللَّهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، ولَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " ومن فعل ذلك فعليه الفدية وكان هناك وقف عبارة عن مزرعة مخصصة لإطعام حمام الحرم ، ومن عجائب هذا الحمام أنه لا يتخذ من الحرم المكي مكانا للتعشيش ، ولا يحلق فوق الكعبة ، ولا يترك فضلاته هناك !
ولقد أبدع الشاعر (بيرم التونسي ) الوصف في قصيدته الشهيرة " القلب يعشق كل جميل " حين تغنى بحمام الحرم المكي قائلا :
فوقنا حمام الحما ..عدد نجوم السما...طاير علينا يطوف...ألوف تتابع الوف..طاير يهني الضيوف بالعفو والمرحمة.
ولاشك أن قصة القط التركي الشهير (تومبيلي) الذي فارق الحياة منتصف العقد الماضي فيما تابع وضعية استرخائه الرائعة أكثر من 32 مليون شخص حول العالم.، وخلدت ذكراه بتمثالٍ من البرونز وضع بمنطقة (كاديكوي ) ليفتتح في "اليوم العالميّ للحيوان "عامّ 2016 ، كذلك القطة الشهيرة "جلي "والتي يتابعها عشرات الالوف على "إنستغرام"، والتي سمح لها بالعيش في جامع "آيا صوفيا" بأمر رئاسي إنما يلخصان حب المسلمين للقطط ، ورعايتها والاعتناء بها بشكل خاص ، وبما تعود جذوره الى الايام الخالية ولاسيما في تركيا التي خصصت لها وقفا اسمه "وقف القطط "كان يتولى ايواء القطط المشردة ،واطعامها ،وسقيها ،وعلاجها،ورعايتها ولاسيما بولاية جناق قلعة،وأنطاكية، ومرسين ،وكانت الأوقاف تدفعُ راتبا لمن يتولى خدمتها لأنهم كانوا يعشقون القطط ، ويتفاءلون بوجودها، وبتبركون برعايتها ،امتثالا للحديث النبوي الشريف " إنَّها ليست بنجَسٍ ، هي من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافاتِ".
كما بنى العثمانيون طيلة قرون و امتثالا للحديث النبوي الشريف (في كل كبد رطبة أجر )، ومنه استلهموا عبارتهم الشهيرة "نحن نحب المخلوق بسبب الخالق"،ومنذ القرن السادس عشر بتصاميم رائعة ،ما يعرف بـ(قصور الطيور) لتزيين جدران المباني بدلا من "التماثيل العارية" في المعمار الاوربي ، وقد أنشئت أول مرة عام 1504 م على جدران مسجد "يالي باشا"، ومن ثم تطورت لتُلحَقَ بمعظم الأبنية ،مراعين ببنائها اتجاه أشعة الشمس، والبعد عن الريح الباردة ، وعن مخالب الطيور الجارحة ، وأنياب الحيوانات المفترسة ، لتسكنها الطيور وتنعم داخلها بالأمان،ولتشكل بصمة معمارية متفردة زينت القصور ومنها قصر "توبكابي"،كذلك المساجد ،ولاسيما مسجد "السليمانية"، اضافة الى المدارس وأشهرها "سيد حسن باشا" كما ورد في الأرشيف التركي وبما لايزال مشاهدا الى يومنا هذا .
ليس هذا فحسب ، بل وانشأوا الـ (غرباخاني لقلقان) ايضا، وقد تبدو العبارة ثقيلة على لسانك، وغريبة على سمعك ، الا أنها تؤشر الى أول مستوصف خيري مخصص للحيوانات في العالم أقيم بمدينة بورصة على طريق الهجرات السنوية لأسراب الطيور المهاجرة ، وخصص لعلاج الـ(طيور المريضة)،وفي مقدمتها اللقلق ،ليشكل مستوصف الطيور المهاجرة جزءا من منظومة ووقفيات (رعاية الطيور) العثمانية ومنها وقف رعاية الحيوانات المريضة والعاجزة .
لقد نظم الاسلام الحنيف العلاقة بين البشر والحيوانات عبر منظومة أخلاقية وإنسانية سامية قبل 1444 عاما حارت فيها العقول لتسبق منظمات – حقوق الحيوان – وبقرون طويلة ، علاقة منفعة متبادلة ، ﻻ علاقة عبادة وتقديس ، وﻻ علاقة إهانة وتدنيس ، وقد ساق القرآن الكريم لنا أمثالا كلها تدور حول الحيوانات التي سميت سور كاملة بأسمائها ” الفيل ، البقرة ، العنكبوت ، النحل ، النمل ”.
فهذه المخلوقات التي خصص لها المسلمون ولاسيما للطيور منها أوقافا لإطعامها وقت تساقط الثلوج بنثر الذرة فوقها ، كذلك وضع الحبوب في صحون خاصة مثبتة أعلى المآذن لإطعامها أيام المجاعة والجفاف والقحط ،إنما هي أمم امثالنا ليست موضع التبجيل والتقديس والعبادة من جهة كما يفعل الهندوس مع البقرة والقردة والفئران ، بزعم الحلول والتناسخ ، ولا كما فعل الفراعنة من قبلهم حين قدسوا بعض الحيوانات وعبادتها بزعم أنها تخص آلهتهم وأصنامهم ، اضافة الى ما تفعله بعض الأمم الوثنية والطوطمية الغابرة ، كما أنها أمم أمثالنا لاتستحق الإهانة والتدنيس ، وإنما التربية والرعاية والعناية والسقي والاطعام من جهة أخرى” ليتم مسك العصا من الوسط في العلاقة بين الطرفين من غير إفراط ولا تفريط وهذا ما جسده النبي اﻷكرم ﷺ في وصايا عديدة منها قوله ﷺ: “بينما رجل يمشى فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من شدة العطش قال: لقد بلغ هذا الكلب مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى القلب! فشكر الله له، فغفر له ” قالوا يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر”.
وقوله ﷺ” دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض”.
وهو القائل ﷺ ﻷصحابه بعد أن أخذوا فرخين لطائر يشبه العصفور من عشه ” مَن فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها”، وهو القائل ﷺ لرجل كان يجيع بعيره ” أفلا تتقى الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟ فإنه شكا إلى أنك تجيعه وتدئبه” ومعنى تدئبه أي تتعبه في العمل من دون طعام وشراب كاف ، وهو القائل ﷺ حين رآى قوما أحرقوا بيتا للنمل “مَن أحرق هذه؟”إنه لا ينبغي أن يُعذِّب بالنار إلاَّ ربُّ النار” .
وهو القائل : «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا» ، وهو صلى الله عليه وسلم الذي ” نهى أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ ” بمعنى ان تحبس لغرض القتل بالرمي ونحوه ، وقد نهى رسول ﷺ” عن التحريش بين البهائم ” بمعنى تحريض بعضها ضد بعض بغرض التسلية أو المقامرة .
وهو الذي نهي عن اتخاذ المخلوقات غرضا ترمى بالسهام او الحجارة أو أي شيء آخر قائلا : ( لا تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا )، وهو القائل (ما من إنسان قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عز وجل عنها) . قيل: يا رسول الله، وما حقها؟ قال:( يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها يرمي بها) وهو الذي أمر بالاحسان في ذبح البهائم “وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته”. وغيرها الكثير .
ولله در احمد شوقي القائل في بردة المديح :
يـا أَحـمدَ الخـيْرِ، لـي جـاهٌ بتسْمِيَتي ..وكـيف لا يتسامى بالرسـولِ سمِي؟
المادحون وأَربــابُ الهـوى تَبَـعٌ …لصـاحبِ الـبُرْدةِ الفيحـاءِ ذي القَـدَمِ
4751 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع