د.ضرغام الدباغ
المراسلات:
Dr. Dergham Aldabak
E: Mail : عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
دراسات ـ إعلام ـ معلومات
العدد : 406
التاريخ :نيسان / 2023
هل حلت نهاية الغرب ....!
قبل نحو قرن من الآن (بين عامي 1918 / 1922)،في نهاية العشرينات ، كتب المفكر الألماني أوزفالد شبنغلر (Oswald Spengler) كتابه (Untergang des Abendlandes) " أفول الغرب " بجزأيه الذي يعتبر أحد أهم المراجع المهمة في نشوء الحضارات وسقوطها، وتنبأ في كتابه هذا سقوط الحضارة الغربية.
شبنغلر الذي عاش مرحلة بزوغ الفاشية في إيطاليا، والنازية في بلاده، ألمانيا (ولد شبنغلر في عام 1888، وتوفي عام 1936)، فهو قد عاصر أهم الاحداث العالمية الحروب الاستعمارية، والفاشية والشيوعية، وأخيرا النازية، التي أعتبرها وبالاً على ألمانيا وتنبأ مبكراً بسقوطها، وأنها مؤشرات سلبية تنبأ بنهايات سيئة. لكن شبنغلر كانت لدية اعمق رؤية على التصريح بأن الغرب أنتهى منذ زمن، وليس لديه ما يقدمه، فالأنظمة الرأسمالية والفاشية والنازية والاستعمار والإمبريالية هي كلها منتجات غربية، ألحقت الضرر الكبير بمسيرة الحضارة الإنسانية.
ولكن شبنغلر لم يعش ليشاهد العولمة (Globalization) الذي لا يعني سوى إعلان لاستسلام العالم لجشع الرأسمالية الاحتكارية، ولكن هناك نداءات من مفكرين وعلماء وقادة، تنبأؤا مبكراً بنفوق هذا الغول الهمجي الذي لا يليق بالمستوى الذي بلغته الإنسانية كالرئيس الألماني هورست كوهلر (2008) الذي عبر عن ذلك بصراحة تامة .
وشبنغلر وغيره من أساتذة التاريخ العالمي، مثل العالم البريطاني (Paul Kennedy) بأول كيندي (يعيش في الولايات المتحدة)، قد تنبؤا بذات النهاية، على أساس أن القوى العظمى لن تبقى عظمى لأكثر من قرن أو نحو ذلك، وإن التبديل والتغيير هي سمة التاريخ منذ الأزل، ولن تشذ عنه القوى العظمى الحالية، ومهما كانت الأسباب والمؤديات، فإن النتيجة هي واحدة، التاريخ لا يعرف التوقف والقوى العظمى هي في تغير متواصل، والأسباب كثيرة المشجعة لهذا التغيير.
وفي الواقع فإن التغير والتبديل، ونهاية قوى عظمى، وأفولها، وبزوغ شمس قوى جديدة هو ديدن التاريخ منذ ألاف السنين ليومنا المعاصر. وعن هذا كتب بأسهاب علمي دقيق قبل أكثر من ألف عام المفكر العربي أبن خلدون، عن تدهور القوى العظمى، والتبدل المتواصل في درجات الدول، وهو من أول المؤرخين والعلماء في التاريخ، ممن ربطوا تدهور مكانة الدولة بالتطورات الاجتماعية الداخلية، إضافة إلى الخارجية المتمثلة ببزوغ قوى عالمية جديدة.
في عصرنا الراهن، يبدو صعود الصين وروسيا، لبعض المراقبين حدثاً جديداً ومفاجئاً، رغم أن المؤشرات المادية الموضوعية متوفرة منذ قبل أواسط القرن المنصرم، (بعد الحرب العالمية الثانية) وزوال الاحتلال الياباني، وضعت الأسس الحقيقية لنهضة البلاد، والتراكم (السريع نسبياً) في الثروة القومية، ينبأ أن البلاد ستبلغ درجة من التقدم، تضعها في مسار جديد، في طريقها لاحتلال مكانة تستحقها بفضل قدراتها (مساحة، عدد سكان، تعبئة ممتازة للقوى البشرية) أن تكون دولة عظمى. وبقيادة تمكنت أن تضع البلاد على طريق التقدم السريع، بلغت الصين مكانة مهمة في مجالات التقدم التقني، وبالتالي في الإنتاج الصناعي، وقفزة اقتصادية كبيرة، يرافق ذلك تطور في علوم الالكترونيات، الفضاء، والصناعات العسكرية، وفرت المعطيات الضرورية الحاسمة لأن تتربع على مكانة رفيعة تستطيع أن تنافس الدول المتقدمة صناعياً.
إذن لم تتمكن الولايات المتحدة من الحفاظ على موقع الصدارة القيادية العالمية، فبعد أن حققت الصدارة بلا منازع بعد الحرب العالمية الثانية اقتصادياً، كونها البلد الوحيد الذي لم تشهد أراضية المعارك الضارية المدمرة، ووفر لها نظام بروتون وودز باعتماد الدولار كعملة عالمية، التفوق المالي، وأنتقل جيشها من المرتبة السادسة عشر، إلى المرتبة الأولى واحتكارها صناعة السلاح النووي فرض هيمنتها على العالم.
ولكن نظام بروتون وودز يقترب من نهايته المحتمة، بعد أن صعدت قوى عالمية أخرى وبلغت اقتصاداتها مرتبة متقدمة بعملاتها القوية: كالين الياباني، واليورو الأوربي واليوان الصيني والروبل الروسي. وحتى النمور الأسيوية والهند والبرازيل، وانتشار الأسلحة النووية، والصناعات العسكرية في مراكز عديدة، قاد إلى نتيجة أن فقدت قوة الردع الاستراتيجية للغرب مصداقيتها، عزز ذلك فشل الغرب الذريع في العراق وأفغانستان، وتواصل "قضية الشرق الأوسط" كبؤرة سريعة الاشتعال وفشل المشروع الإسرائيلي. وخسر الغرب إلى جانب قوة الردع، القوة الأخلاقية من خلال حروب ظالمة كثيرة شنها في أرجاء عديدة من العالم. وبلغ تجاهل الولايات المتحدة ليس لأصوات حلفاؤه (فرنسا /شيراك و ألمانيا / شرويدر)، بل العديد من أصدقاؤه في العالم عبر إطلاق شعار مبالغ في قسوته في تجاهل أي رأي آخر " من ليس معنا فهو ضدنا ". مع تجاهل حقوق ومصالح شعوب ودول كثيرة.
وحتى من خلال الأزمة الأوكرانية، استغلتها الشركات الغربية (وبخاصة الأمريكية)سواء تلك العاملة في مجال الطاقة (الأحفورية خاصة / Fossile energy) أو في صادرات السلاح. في جني الأرباح الطائلة، فالشركات تعرض وتبيع ولا يهمها ظروف استخدام الطاقة أو السلاح.
وفي مراجعة لكافة السيناريوهات المحتملة، فروسيا اليوم تقاتل الغرب (الناتو) بأسره في أوكرانيا ولكن بالوكالة (Proxy War)، فهي تقدم السلاح، والمال، والخبرة، وتقنيات الاستخبارات وحتى الرجال بعنوان خبراء ومستشارين ومتطوعين، كما قدمت الدول الغربية (المعلن) ما يقرب من قيمة 35 مليار دولار دعم بالسلاح لأوكرانيا، ولكن خسارة روسيا الحرب ليس من بين الاحتمالات المطروحة، فمن المحتمل أن لا تكسب الحرب كما تريد، ولكن الغرب بالمقابل سوف لن يربحها.
وهناك مؤشرات مهمة، عن مواقف سياسية لدول، فإن كانت لا توالي الروس علناً، إلا أنها لا تلبي الطلبات الأمريكية السياسية والاقتصادية، بما في ذلك حلفاء مقربين من الولايات المتحدة، وابرز مؤشر على ذلك هو إخفاق العقوبات الأمريكية لأغراضها، التي أضافت إلى نتائج سريان وباء كورونا العديد من المصاعب، فهناك دول كثيرة عبرت بصراحة عن عدم التزامها بالعقوبات، فالولايات المتحدة تطالب جميع دول العالم بالامتثال لإشاراتها ورغباتها، ومنها دول لها اقتصادات كبيرة كالصين والهند والبرازيل، وموقف متميز ومؤثر للمملكة العربية السعودية في سوق النفط العالمية. ومؤشرات عديدة لخروج البلدان النامية من الهيمنة الأمريكية.
وتعبر دول عديدة عن رغبتها القوية بتعديل النظام العالمي الناتج عن الحرب العالمية الثانية، والذي بات مهترئاً ولا يفي بالحاجة، والدعوة لإصلاحه أو حتى إلغاؤه باتت دعوة عريضة وواسعة. العالم يريد نظام دولي جديد يضمن تبادلات سياسية واقتصادية وثقافية أكثر عدالة والعالم الثالث على مدرج الاقلاع السياسي والاقتصادي والثقافي. وقد يكون تجمع بريكس (BRICS) المدخل الاقتصادي لتحالف سياسي / اقتصادي / عسكري، ويضم حالياً الصين، روسيا، الصين، روسيا، الهند، جنوب افريقيا، البرازيل. وقد تنظم له مجموعة دول أخرى، بعد أن وصل مساهمة "بريكس" إلى 31.5 % في الاقتصاد العالمي، مقابل 30.7 % للقوى السبع الصناعية. إذ تقدمت بطلبات الانضمام إلى المجموعة منها ، السعودية، الأرجنتين والمكسيك ومصر والجزائر ودول أخرى مثل تونس التي أعلنت أخيرا نيتها الانضمام للمجموعة وبلدانا أخرى. (*)
فالعقوبات وتوابعها، ولواحق الحرب الأوكرانية قادت إلى ارتفاع معدلات التضخم، وتفاقم حالة الديون في البلدان النامية، ورفع مصرف النقد الدولي (IMF) لشروط الإقراض، كما حدث مع سريلانكا وبنغلادش وباكستان، بل وحتى التردد والرفض في منح القروض، كما في حالات تونس ولبنان، ولكنه لم يضع ذات الشروط أما مطالب أوكرانيا بمنحها قروض. هو وضع سيسهل المزيد من اقتحام الصين وروسيا لميادين عمل واستثمار كانت تقليدية للغرب، بل في مناطق تحسب تحت الهيمنة الغربية المباشرة (فرنسا) في الساحل الأفريقي الغربي . والتقدم بشروط ميسورة للقروض، ومشاريع تنموية مهمة، سيجعل منها شريك تنمية مفضل.
الولايات المتحدة وأوربا ليسوا على أتفاق تام، فالأوربيون يدركون مخاطر العمل تحت المظلة الأمريكية، وقد برز هذا الخلاف في موضوعات خلافية عديدة، وأن خيار الحرب يقع في مقدمة الخيارات الأمريكية، أبرزها الحرب على العراق، ومغامرة أفغانستان، وربما في أرجاء أخرى من العالم، فطرفي التحالف الغربي (الولايات المتحدة، وأوربا) متفقان الإبقاء على قوة التحالف والتفوق الاقتصادي، والسياسي والعسكري، ولكن هناك تململ من القيادة والهيمنة الأمريكية على التحالف، وقراراته الاستراتيجية.
أميركا تستعد لكافة الاحتمالات، وهي تقيم حلفاً سياسيا / عسكريا، مع بريطانيا وأستراليا (تحالف معاهدة اوكوس / AUUKUS)، قد تنظم إليه كندا ونيوزيلندة، وبعقلية سياسية الاعتراف بالواقع تكوين خطوط دفاع جديدة ورغم أنها تمارس سياسة "القيادة من الخلف" ( (driving from behind منذ عهد الرئيس أوباما، وهي تطالب الأوربيين بالعمل الوثيق وحماية أوربا بأنفسهم، وتريد الابقاء على حالة الاستعداد ولكن الأوربيين يعتقدون أن الأمريكان يبالغون بطلباتهم، ويهدفون إبقاء الجميع بحالة توتر وعدم الاسترخاء تحت قيادتهم. لذلك لم يعد دقيقا اعتبار الغرب كتلة واحدة موحدة، فالغرب اليوم غربان أو ثلاثة. (**)
الغرب يتمترس وراء شعارات الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان، والليبرالية السياسية / الاقتصادية، ولكن ليس نادرا ما أسيئ استخدام هذه الشعارات، فالغرب يريد حماية رأسمالية الدولة الاحتكارية بشعارات، تنازل عنها في حالات كثيرة، وتفتقر للمصداقية حيثما حل ووضع يده وبسط سيطرته، وتحوم الشكوك حول القيم الغربية بقوة. فالولايات المتحدة التي نهضت لتكون قلعة للحريات الليبرالية، ولكنها جنحت إلى نظام الرأسمالي الاحتكاري، وطورت النظام الاستعماري، إلى إمبريالية بشعة لا تذر ولا تبقي، ووجد هذا نفسه في نظام إمبريالي، أشد وطأة من النظام الاستعماري.
أوربا الغربية أنتجت النظم الاشتراكية ... والنظم الفاشية والنازية والديكتاتورية (أسبانيا والبرتغال)... وتصارعت فيما بينها، وبعد الحرب العالمية الثانية سلمت قيادتها للنظام الامريكي وارتضت أوربا الغربية، لنفسها أن تكون أداة طيعة بيد الولايات المتحدة ونظامها السياسي والرئيس ماكرون على تخبطه السياسي، يريد انقاذ البورجوازية الأوربية، بمناداته الانفصال عن الولايات المتحدة وتكوين قطب سياسي أوربي، فرنسا وألمانيا مرشحة لقيادته.
أسباب التراجع الأمريكي كثيرة، وسوف نحصص لها تقريراً خاصاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*)
تشير الاحصائيات الحديثة إلى تفوق مجموعة "بريكس / BRICS " لأول مرة على دول مجموعة السبع الأكثر تقدما في العالم، وذلك إذ بلغت مساهمة "بريكس" إلى 31.5 % في الاقتصاد العالمي، مقابل 30.7 ب% للقوى السبع الصناعية.
(**)
تحالف معاهدة (اوكوس / AUUKUS) الحروف تشير إلى أسماء الدول الثلاث المؤسسة للتحالف : أستراليا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة الامريكية.
2317 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع