محمد حسين الداغستاني
قراءة للمجموعة الشعرية (أسافر بمقعدين) للشاعرة آيدان النقيب مقعد شاغر لغائب لن يعود !
ارى من الضروري الإشارة الى أن تغييرا نوعيا قد طرأ علي اللغة والصورة والبنية الشعرية لنصوص الشاعرة الرائدة آيدان النقيب ،. لقد أفلحت فعلا في الارتقاء بأداء مفردتها وتخليصها من التقريرية والمباشرة ، ومنحتها الكثير من الحيوية والطراوة في اخر إنتاجها الشعري الذي حمل إسم (أسافر بمقعدين)
من منشورات الزمن ٢٠٢٣، بعد ان قطعت مسافة طويلة في إثراء المشهد الشعري النسوي في كركوك منذ اول مجموعة شعرية لها (اعتصرُ الحجر) المطبوع في العام ١٩٦٩.. هذه المسافة الزمنية البينية هيأت لها فسحة واسعة ، لإكتساب المزيد من الرصيد البنوي الشعري ولطرح نصوص غنية بالرموز والَمدلولات والإيحاءات الباذخة ، كما وغادرت جملها سمة التمدد على مساحات الَمعاني التقليدية التي اتسمت بها لفترة غير قصيرة وشرعت الآن بطرح افكار خلاقة بلغة موحية وبتكثيف مقنن :
نشرتَ خبرا علي ريشة تلوح بالوداع
قضمتُ شفتي،
انت لست ضيفا لترحل !
عُش عصافيرك في كفي،
أكان قلبك حجرا…
فلما لم ترمني؟
ابتداء فإنه بإمكان القول بأن البؤرة التي تتمحورحولها المجموعة بمجملها تتمثل بالهجر والصد المقصود من حبيب عنيد، وبالتالي فإن التجاهل العمد هو الذي افرز كتل المعاناة وإجترار الاحزان ، فضلا عما نتج عنه َمن المصدات والسبل المقطوعة والأبواب الموصدة التي حالت دون التواصل به ، نتيجة اصراره على تجاهل نداءات القلب المكلوم والحب الضائع رغم المحاولات اليائسة لثنيه عن هذا الخيار الموجع :
في قريتنا.. عند منخفض ٍ
أجلسنى تحت شجرة
قال لي انتظريني
صدقت كذبته بغباء !
حاولت أن أقنع نفسي ..
أنني في حلم.
أتأتى أم أقتفي آثار قدميك ؟
وفي هذا المنحى لنتأمل أغلب عناوين نصوص المجموعة (دربك طويل - ألنا موعد آخر - كروي الطريق - زرتك ولم القك - تبيع المناديل وتنساني - انتظرك على اليابسة - ما جئتني - موجة صمتك ...)، نجد أن هاجس الإرتحال دون عودة، والفقد وتداعياته المنهكة للروح وما يتولد عنها من مشاعر الأسى والوجل كان لها حضور واضح في الاسفارعن رؤى الشاعرة وتجربتها التي القت ظلالاً قوية على شعرها، وتمكنت أن تعمق همومها النفسية.
ولكي يصل هذا السيل من العواطف والمشاعر الى المتلقي اتكأتَْ آيدان على لغة شعرية نضرة ، كان من مقوماتها إسرافها في استخدام ضمير المتكلم ولعلها في اختيار هذا الضمير إنما أرادت اختصار المسافة المعنوية التي يمكن أن تشد إنتباه المتلقي ، وتضعه في سعير تجربة البعد:
ألم تسمع صفيري
بعد أن اجتزتٌ نصف الطريق؟
وأنا أركض تارةََ وأهرول أخرى
لا منك قطار عاطل، ولا صندوق أسود
ولم تتركْ لي اثر قدم
فأي طريق أسلكه، وفي جعبتي
تذكرة عودة فات اوانها.!
وتحفل نصوص المجموعة بصور شعرية آخاذة ، ويؤدّي الخيال الإبتكاري دورًا مهمًّا في تشكيل هذه الصور للتعبير عن معنى جديد ، وتوظيف مفردات اللغة أيضًا في تشكيلها عبر استخدام المجازات والصور الاستعارية في صياغاتها للوصول بالمقصد الى وضوح الرؤية واكتمال بنية التجربة :
أجمل ما في الأمر
إني ما زلت انتظرك
ريحاََ… إعصاراََ،
اتعبني طريقك بمتاهاته الملتوية..
وانا.. أوجعته بخطواتي !
ومضت ايدان في تجربتها الشعرية راسمة بالحروف صورا في منتهى التأثير، بل وإستثمرت وقع الحدث بوصفه مادة ً تصويرية موظفا ما فيه من طاقات اللون والحركة، وما يسمح به كل نمط على حدة من إمكانات فنية تعبيرية تعكس قدرتها على بنائها الشعري ذي السياقات المتعددة التي منحت النصوص دلالات ذات ابعاد رمزية :
من خلف حجر المرمر
بجرأة طفل ، حفرت ثقبا
ناديتك.
الذي سمعني
قال : أصابها الزهايمر !!
أعرتك أذني
طفح فراتان من عيني
لا جذر ولا ساق
فلم طغتٌ الخضرة عليك؟
الومضة الشعرية
وبين فترة واخرى تستوقفني احيانا نصوص شعرية مميزة تؤسس لخصوصية لحظةٍ أو مشهدٍ أو موقف أو إحساس شعريّ خاطف يمّر في المخيلة أو الذّهن، يصاغ بألفاظٍ قليلةٍ لكنها معبرة وذات تأثير مباشر وهي وسيلة من وسائل التجديد الشعري، وفي معرض الاشارة قال ادونيس “هكذا يبدو الشعراء فيما وراء الأزمنة والأمكنة شهبا تأتلف وتختلف فيما يشقون معا طريق الإنسان نحو المجهول. ويبدو الشعر كمثل انفجار ضوئي يتواصل في فضاء المعنى”. في هذا المعترك الصعب ولجت ايدان النقيب فضاء الومضة الشعرية الفسيح، ضربات قصيرة مركّزة وغنية بالإيماء والرمز والإنسياب . بل هي دفقة شعورية سريعة تتناسب مع تسارع الأشياء المذهل، إنّها إشبه ببرقية شعرية تتميز بالكثافة والتركيز اطلت من خلالها على ميدان واسع يعج بالعواطف والمشاعر الحسية المبهرة والايماء والرمز :
وانا امحو غيابك
تآكلت الممحاة !
**
حين وصلت
هممت بطرق الباب
فقرأت : (الدارللبيع)
**
تحجرت طرقاتك
من خطواتي !!
**
أكانت جواهري
عندك أحجارا ؟
**
حفرتُ شقا في حائطكَ٠
لأسمعك
فلم هربت منه ؟
**
زرعت لبلابا لاقطع طريقك
فإلتف بقدمي !!
**
اخبرتني
البطاقة الذكية
إن رصيدي عندك صفر !!
في اتون هذا الفيض القائظ أفلحت ايدان النقيب ولا ريب في توسيع مدلول الصورة التقليدية وتحويله الى صور رمزية وحسية وتشكيلية ومتنامية ومتعددة ومترابطة فيما بين النصوص وكان المجموعة كلها ليست سوى قصيدة واحدة تطفو على بحر مائج ترتد امواجها عن الشاطئ البعيد فيما تقف هي على اليابسة بإنتظار الذي لا يأتي ابدا :
غرزت قدمي بأرضك الموحلة
صنعتُ من قصائدي كرة،
قذفتها لساحلك
ونسيتُ أن أخبرك
أنا طير بحرٌ
انتظرك في اليابس.!!
ومثلما يبدو فإن ايدان لا تزال تستقل قطار العمر العتيد، تقبض بيديها بقوة على بطاقتي سفر لرحلة لا عودة بعدها، لكن المقعد المجاور لها بقي شاغرا رغم امنياتها ان يحل فيه ذلك الغائب الحبيب في وقت تئن هي تحت سطوة الانتظار!
4372 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع