تميمة آرامية من سوريا عليها نقش يمثل عقيدة (التضحية بإسحاق )، وفي الاسلام (التضحية باسماعيل)


الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي*

تميمة آرامية من سوريا عليها نقش يمثل عقيدة(التضحية بإسحاق )، وفي الاسلام (التضحية باسماعيل)

حاول الإنسان منذ العصور القديمة حماية نفسه من المحن باستخدام الأشياء التي اعتبرها مقدسة أو تملك طاقة سحرية، وكانت إحدى تلك الطرق هي إبقاء الشيء قريبا من الشخص، مثلا ارتدائه كقطعة من الملابس أو كزخرفة، وكان هناك شعور بأن الأرواح الشريرة قد تسبب سوء الحظ والاذى ولكنها لن تجرؤ على مهاجمة شخص محمي بالتميمة (الحجاب أو الحرز)، وقد قيل أن الرغبة في الحماية كانت مصدر للتزين بالمجوهرات وغيرها من الزخارف التي يرتديها الناس، وخاصة النساء كونهن الاضعف فهن في خطر أكبر ولابد من حماية انفسهن، وتطورت اشكال التمائم بحيث يضع الأشخاص قطع من الورق، أو المخطوطات، أو أقراص معدنية منقوشة بصيغ مختلفة تحمي حاملها من المرض و (العين الشريرة)، وهكذا فان استخدام النقش كوسيلة لدرء الأرواح الشريرة نابع من الإيمان بقداسة وقوة الكلمات في العصور الأولى، وتُعرف هذه القطع الأثرية باسم التمائم أو (الحجاب) أو (الحرز)، ومن غير المعروف ما إذا كانت التمائم قد استخدمت عند اليهود ولكن من المفترض أنهم استخدوا التمائم لكن لا يوجد دليل مباشر يثبت ذلك.
كثيرا ما تذكر التمائم في الأدب التلمودي والمصطلح المستخدم هو(kame'a) أو (kami'a) أو kemi'in) ) وهي كلمة غير معروف أصلها، ومن الممكن أن تكون مشتقة من جذر يعني (الارتباط)، لكنها قد تأتي من جذر عربي يعني (التعليق)، وفي كلتا الحالتين هو شيء مرتبط أو معلق على رقبة الشخص أو على الملابس، أو توضع في الجيب، ولسوء الحظ لا يوجد سجل للنقوش الموجودة في التمائم، انما نُقشت التمائم لاحقا مع اقتباسات ذات صلة لغرض محدد ضد (العين الشريرة)، وكثيرا ما نقشت أحرف أسماء (يهوة) (الله في الاسلام) باشكال مختلفة، كما كانت أسماء الملائكة شائعة جدا، وأبسط تميمة كانت تحتوي على نقش لاسم (يهوه) على قطعة من الرق أو المعدن، وعادة ما تكون مصنوعة من الفضة، ولا تزال تظهر بشكل بارز على المعلقات التي ترتديها النساء اليهوديات اليوم (وحتى النساء المسلمات والنصارى يعلقن على رقابهن قلائد تحمل اسم الله أو الصليب أو الكف واغلبها صنعت من الذهب أو الفضة)، واهمية التميمة لا تعتمد فقط على النقش ولكن أيضا على الشخص الذي كتبها، كلما كان المؤلف أكثر تقوى كانت التميمة أكثر فعالية.

نموذج لتميمة آرامية
عثر على التميمة الآرامية في سوريا، ولم تحدد تاريخ التميمة، انما الاحتمال الكبير انها تعود للقرن الثاني الميلادي أو بواكير العصر البيزنطي، ويظهر في النقش تضحية ابراهيم بابنه اسحاق (في الاسلام التضحية باسماعيل)، وقد نقش الفنان الآرامي شكل ابراهيم ذو شعر مجعد (من الجنس القوقازي) ينظر باتجاه اليمين نحو الخروف، ويرتدي عباءة طويلة تلتف حول جسدة وتصل قريبة من اخمص القدم، ويحمل بيدة سكينة ذات نصل حاد، وبجانبة شكل يوحي بانها ادوات لغرض اتمام التضحية البشرية، وأمامه على جهة اليمين طفل صغير حتما هو (اسحاق) وبدون ملابس للدلاله على انه طفل صغير، وفوق رأس الطفل ومع مستوى سكين ابراهيم مبخرة تستعمل للطقوس الدينية وهي معروفة في معابد بلاد الرافدين، وعلى جهة اليسار نجد خروف ربط من عنقه بحبل مثبت على نخلة ذات سبعة سعفات، والنخلة منحنية للدلاله على طولها وعمرها الطويل أو ربما الانحناء احتراما لإبراهيم ، ولكنها صورت اقل طولا من شكل ابراهيم لآن محور النقش هو شكل ابراهيم والطفل، والأشكال كلها تقف على أرض مستوية.
تظهر يد كبيرة مبسوطة في اعلى النخلة وهي يد الإله (يهوه) (بالاسلام الله) وتشير إلى الخروف لانه منح الاضحية الحيوانية بدلا من اسحاق، ونقشت صورة اليد كبيرة الحجم لان (يهوه كبير) ولا نجد كتابة ارامية للدلالة على صاحب اليد ولكن الشكل واضح جدا، فحتى في الاسلام وردت صفة اليد مضافة إلى (لله) في عشر آيات من القرآن الكريم ومنها: (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) المائدة (64)، وايضا (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح:10)، و (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) (سورة ص (75) ، و (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً) (سورة يس (71)...الخ، وفي اعلى وسط التميمة نجد ثلاث اشكال: الأول من جهة اليمين الشمس (الإله شمش) ذات ثمانية شعائيات، وفي الوسط الهلال (الإله سين)، ويلية نجمة اصغر حجما (الإله عشتار) ذات ثمانية شعائيات، وهذه الرموز الثلاث تمثل (الثالوث المقدس) في حضارة بلاد الرافدين، ولكن التميمة حتما تعطي معنى اخر لهذه الرموز الثلاث، فالاراميين تحولوا الى الدين المسيحي في القرون الأولى بعد الميلاد واطلق عليهم تسمية السريان، وفي هذا الحالة يمكن ان نتصور بان الشمس هي (الاب) والقمر هو (الابن) والنجمة الصغيرة هي (مريم العذراء) لانها اسمها (ماري) أو (لامار) وتعني (البحر) باللغة اللاتينية، وهناك معبد في جنوب ايطاليا قبل دخول المسيحية يقال له (استيلا ماري) بمعنى (نجمة ماري) لان الإلهة عشتار هي كوكب الزهرة وبالتالي فهي النجمة ويطلق عليها نجمة البحر، ومن المثير للاهتمام، أن العديد من النساء في الإنجيل يطلق عليهن ماري، على الأقل هناك خمس، وربما سته يحملن اسم ماري، ولا شك أن ماري كان اسما واسع الانتشار في القرن الأول، ولكن يبدو أن كل تلك الأجزاء المتناثرة من الإلهة العذراء، الزوجة، الأم، الأخت، الحبيبة، تريد العودة تحت اسم ماري، والمعروف ان اسم ماري بالعبرية هو مريم (اسم أخت موسى أيضا)، وهو اسم غني بالمعاني من بينها: المرارة، والتمرد، ومحلول الدموع المالح، والرحم، والبحر.

الرفض الإلهي للاضاحي البشرية
عموما نجد في الوصف اليهودي (لعقيدة التضحية باسحاق) بان الطفل إسحاق كان ملزما ان يكون الذبيحة بامر من ابراهيم وليس من (يهوه)، ولكن لم يتم التضحية به في الواقع، ومن المحتمل جدا بان التضحية بالاطفال مارسها الكنعانيين في فلسطين، ولم يمنع الكنعانيون في فلسطين ابنائهم عن الآلهة، وحتى في قرطاج (في تونس) واصول سكانها فينيقيين (ان سكان سواحل سوريا ولبنان فينيقيين، بينما سكان فلسطين في الداخل كنعانيين فينيقيين) كثيرا ما ضحى سكان قرطاج ابنائهم اللإله ملكارت برميهم إلى النار، واحيانا يشترون ابناء البربر الفقراء ويتم التضحية بهم، فعلى سبيل المثال تم التضحية بـ(300) فتى في نار الإله ملكارت لتخليص مدينة قرطاج من الحصار الروماني (146) ق.م، ولكن حتى عقيدة التضحية بالاطفال قد مارسها شعب إسرائيل، وهي ممارسة انجذب إليها العديد من الإسرائيليين، فعلى سبيل المثال: (سفر 2 أخبار الأيام 28:1-3) (كان آحاز ابن عشرين سنة حين ملك، وملك ست عشرة سنة في أورشليم. على عكس داود أبيه، لم يفعل ما هو صواب في عيني الرب. اتبع طرق ملوك إسرائيل وصنع أيضا أصناما لعبادة البعليم. لقد أحرق القرابين في وادي بن هنوم وضحى بأبنائه في النار، متورطًا في الممارسات البغيضة للأمم التي طردها الرب من قبل الإسرائيليين)، وفي (سفر اللاويين 18.21) (لا تعطِ أيًا من أولادك لتضحي به لمالك، فلا يجب أن تدنِس اسم إلهك. انا الرب.)، وبذلك لم يكن إيمان اليهود يشمل التضحية بالأطفال، انما كان جزءا من الأديان المجاورة بالاخص الكنعانيين، كما ان (يهوه) لا يطلب تقديم تضحيات بالأطفال ليس انعكاسا على محبة الإسرائيليين وإخلاصهم والتزامهم له، انما رغبة إبراهيم بصفته مؤسس الإيمان، ان يمنع تقليد ممارسات جيرانه الكنعانيين منذ بداية دعوته للتوحيد الإلهي.

*تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2023

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2222 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع