محمد حسين الداغستاني
قراءة في اللوحات المائية للفنانة التشكيلية سميرة الخياط
سايكولوجية الألوان ورمزية وظيفتها الابداعية
يجتمع في شخصية الفنانة التشكيلية سميرة الخياط فيض من السمات التي خلقت منها انسانة ذات حضور مؤثر في محيطها الإجتماعي والفني سواءً في العراق أو في بلدان عديدة كفرنسا والاردن ولبنان وتونس ومصر وليبيا واليمن ودول الخليج وغيرها عبر مشاركاتها الوطنية والعالمية والتي تتجاوز المائة وخمسين مشاركة ، وتتمثل هذه المشاركات بمعارض شخصية افتراضية وواقعية للوحات الزيتية والمائية فضلا عن لوحاتها المبهرة لتنسيق الزهور الطبيعية والتي جسدت من خلالها نبض الطبيعة والبيئة العراقية.
في تعاملها اليومي فهي في منتهى الرقة والعفوية ، ولها بصمتها الفنية المميزة، وقبل كل هذا فهي تمتلك في أعماقها قوة لا يستهان بها في مقارعة المرض الخبيث الذي تعاني منه منذ عدة سنوات .. وترجح بأن ارادتها الصلبة وتفاؤلها وثقتها المطلقة بالله وبنفسها كفيلة بقهرالمرض وتجاوزهذه المرحلة العصيبة في حياتها .
تشي لوحات الخياط المرسومة بالألوان المائية في غالبيتها تبنيها لقواعد المدرسة الانطباعية أو التأثرية في الفن وهي مدرسة فنية أوجدت في القرن التاسع عشر وإستمدت إسمها من عنوان لوحة للرسام الفرنسي كلود مونيه الموسومة (انطباع شروق الشمس) التي قام بإنجازها في العام 1872 م، وتعزو الفنانة هذا التأثر لأنها ترى بان الانطباعية (تقترن بمفاهيم الفن الكلاسيكي القديم) ولأنها تيسر سبل (تفكيك الالوان علی اللوحة ثم اعادة تركيبها امام العين) وتذهب بالقول الى (ان عشقها للالوان والطبيعة تصل حد النخاع وان فترة الرسم لديها تشبه فترة الصيام أو تطهير النفس من ادرانها والتسامي الكلي في الاحساس الی حد التلاشي واحيانا الشعور بنوع من الخشوع والتنسك اللذين يسبقان الاحتفالات الدينية، وان رسم البيئة والطبيعة هو نوع من التلاحم بين الانسان والطبيعة او هو حالة التوحد مع الله) . ومن هذا المنطلق فإنها تستمد من نسغها الصاعد في شراينها التصاقها الروحي بالطبيعة العراقية رغم سياحاتها السندبادية حول بلدان العالم. ولاشك أن طبيعة تلك البلاد فاتنة ومهيمنة على أحاسيس ومشاعر الإنسان، وهي ملهمة بالخاصة للفنانين لكي يعكسوا جمالها الاستثنائي وتوظيف معطياتها الآخاذة في منجزهم الابداعي ، وقد تغدو طبيعة العراق مقارنة بها متواضعة بحكم الطقس وعوامل الجغرافية ورعاية الإنسان لها ، لكن تمسك سميرة بالانغمار بطبيعة بلادها في جلّ لوحاتها يتجاوز كل تلك المغريات، وتعكس وفائها لأرضها وناسها وحرصها على إبراز موروث وأدب وحضارة العراق في ارجاء المعمورة .
يقول الكاتب الفرنسي دوشاتوبريان أشهر كتاب عصره والمتوفى في ١٨٤٨م أن ” الفن هو الأسلوب، والأسلوب هو الإنسان” ولأن الأساليب الفنيّة بمعناها الحديث تعني هي الطرق التي يتّخذها الفنان أو المتخصص في مجال فني معين في التعبير عن اتجاهاته وأرائه وأفكاره الخاصة، فمن هنا فإن دراسة أسلوب لوحات الفنانة سميرة تفسر قدرتها على استباط مدلولات المنهج الانطباعي الذي يلزم الفنان بإبراز محصلة تفاعله الإنساني مع الطبيعة والألوان بتركيز شديد ، وبراعة فائقة لكي يستطيع أن يرسُم فكرته بشكلٍ مُتقنٍ وأن يتنفّس من عبق موهبته ، ويستطيع محاكاة فكره بل ويعبر عنه بوضوح بصيغة جاذبة للاهتمام ومريحة للعين ومحفزة للعقل ، ويبدو أن إختيار الألوان المائية بالذات في اللوحة لا يتيح الكشف عن معالم الطبيعة فحسب بل ويحل توتر الفنان ويتحكم في عناصر الماء والطلاء الذي هو الأكثر إثارة في الرسم.
دلالات الالوان
تطغي الوان الازرق والاصفر والاخضر والابيض المائية على لوحات سميرة التي في جلها مناظر لطبيعة الريف العراقي، ولاشك أنّ مدلولات الألوان واسعة للغاية وتحتاج معرفة سايكولوجيتها الى الكثير من الدراسة والتعمّق، فالفنانون البارعون يدرسون سيكولوجية الألوان وتأثيرها على المشاعر والأمزجة بفهم ودراية مستفيضة قبل المباشرة بلوحاتهم ، لذا فإن تفسير انحياز سميرة الخياط الى اللون الازرق في لوحاتها المائية تفسر رغبتها في التفاعل بين مضامينها والمتلقين لها فضلا عن اجواء الثقة والهدوء التي يعكسها هذا اللون ، فيما يعمق توظيفها للون الأخضرفي داخلها تمسكها ببساطة الحياة في الريف العراقي وعشقها اللامحدود للطبيعة والحياة ، اما المساحة الواسعة للون الاصفر التي تهيمن على الالوان الاخرى في أغلب لوحاتها فإنه يفسر رغبتها في إشاعة التفاؤل والسعادة ، والانعتاق من واقعها الصحي الموجوع الى آفاق من الشغف والمتعة الروحية التي تبصم صلاتها بالناس من حولها، فهي تحيل المكان حيثما تكون فيه الى فسحة من البهجة والصميمية وكأنها توحي باصرارها الذي لا يلين على قهر المرض الذي يجابه شتى صنوف المقاومة النفسية والجسدية فيها فتجعل من الرسم عملية مُحاكاة لما تستشعره في أعماقها من معان ٍ أو ما تراه رأي العين، فتحيل اللون الى صوت مسموع له صخب وصدى، اما اللون الأبيض فمن نافلة القول عن مدلولاته الشائعة والمعبرة عن النقاء والبساطة والبراءة وهذه سمات سلوكها اليومي المشحون بالنشاط والإنجاز والتوق للجمال وهو الذي وشحت به معرضها الشخصي الثامن عندما اختارت له عنوان ( القلب اضناه عشق الجمال).
من الواضح ايضا أن الوفرة الابداعية للخياط من خلال حركتها الدؤوبة وحجم منجزها الفني الذي يجسد توقها وانجذابها إلى الفن والرسم بالذات تفسر ايضا انهماكها في التأكيد على دور المرأة ككيان إنساني له حضور مميز في مجتمعنا الحديث ، فهي بذلك تطرح وتعمق في المخيلة الاجتماعية الصورة البديلة للمرأة كإنسانة فاعلة في بيئتها الاجتماعية عندما تغدو تلك المبدعة، والقوية، والمالكة للغتها الخاصة والتي تنجح في تخطي الانطباع النمطي عنها كونها تابعة وضعيفة، وتتسم بملامح سلبية ، وتوصيفها بمحدودية دورها الانساني ، من هنا فإن الصور الملهمة والقدرة الفذة لهذا النوع من الفن اي الرسم بالالوان المائية على التعبير بشكل غير مباشرعن تطلعاتها ، فربما يعتبر الرسم المتنفس لها حتى ادركنا هذه المرحلة في هذا الوقت الذي لا يوجد فيه عوائق تحد من طموح الفنانة العراقية، وانطلاقها في فسحة التعبير من خلال اللوحة المنجزة بالالوان المائية خاصة بل في تجربة الفن التشكيلي بشكل أعم الى آفاق الحياة الفسيحة .
ان فرشاة سميرة الخياط المغموسة بالالوان توحي في حركتها الابداعية بنوع من التأمل في الطبيعة الذي يؤسس لعمل فني يمتاز بعمق العواطف وسحرها، فهي تستقي من روحها لغة أعمق من الكلام أوالكتابة ، فتسبق الفكرة إلى الإلهام، لتحيل اللوحة الى قطعة فنية رمزية ومعبرة تفيض بالتفاؤل والحيوية وقاهرة للياس والقنوط .
2128 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع