هل هناك شذوذ جنسي في النصوص الأدبية لبلاد الرافدين ؟ هل هناك شذوذ جنسي في النصوص الأدبية لبلاد الرافدين ؟

بقلم الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم

بغداد 2023

هل هناك شذوذ جنسي في النصوص الأدبية لبلاد الرافدين ؟

سوق العبيد في بابل قديما

تتصف مجتمعات الشرق الأدنى القديم بالذكورة، فالرجال لهم الحق في كل شيء فلهم الافضلية في ممارسة السياسة، وسن القانونين، والافضلية في الارث...الخ، وحدد نشاط المرأة في خدمة منزل الزوجية وانجاب الاطفال وتربيتهم، وكان الزواج أساس قيام الأسرة ولهذا العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة تنطلق من المفهوم المتعارف عليه اجتماعيا، ومع الاختلاط الذكوري اليومي في الاسواق واماكن العمل حتما يولد لقاءات بين الذكور وبينهم قلة من الذين لديهم الاستعداد للممارسة الجنسية الشاذة، فيولد حب ولقاء بين أشخاص من نفس الجنس، أوالإكراه الجنسي، أواللقاءات الجنسية المثلية العشوائية، أو الدور الجنسي المحايد ، وعلى العموم ممارسة الشذوذ الجنسي ليس موضوعا شاعا ومتكررا في أدب بلاد الرافدين، وايضا ليس واضحا ومعروفا للباحثين، ولهذا يمكن ان نعود إلى المصادر الأدبية التي قد تلمح إلى هذا النوع من العلاقة مثل: ملحمة كلكامش، والقوانين الآشورية من العهد الوسيط، ومقتطفات من أدب الفأل عند البابليين، ونص يعود إلى العهد البابلي القديم، لعلنا نجد إشارات عن نوع من التفاعل الحميم بين الذكور (نادر جدا ان يذكر الشذوذ الجنسي بين الإناث)، والسؤال الذي يطرحه الباحثين في التاريخ القديم هل هناك نوع من العلاقة الشاذة بين الذكور في نصوص بلاد الرافدين أم لا؟

في نصوص العراق القديم، نجد العلاقة بين شخصيتين ذكرا في الملحمة هما (كلكامش وأنكيدو) وهذا العمل الأدبي وصلنا عن نسخة بابلية من العهد الكاشي، وهي مليئة بالتلاعب الألفاظ واللغة الحميمة التي توحي بهذا النوع من العلاقات، وتظهر في الملحمة وجود لقاءات جنسية مثيرة بين كلكامش ونساء أوروك: (لم يترك عذراء لحبيبها، ولا ابنة محارب، ولا زوجة نبيل)، والعلاقة بين كلكامش وإنكيدو(من وجهة نظر بعض الباحثين يحمل اللوح (12) عبارات حميمة على لسان كلكامش وهو يخاطب انكيدو الميت في العالم الأسفل مثلا: (جسدي) الذي كنت تلمسه فيبتهج قلبك...(جسدي هذا مثل) ثوب عتيق أكله القمل...(انكيدو) الذي كنت تلمسه فيبتهج قلبك... هل رايت مخصي القصر؟ رأيته مثل عمود مسند في الزاوية)، وأيضا هناك في الملحمة علاقة بين إنكيدو وشمخة (Šamḫat) وهي (إحدى مومسات المعبد اللواتي يطلق عليهن عشتاريات) من اجل اغرائه والسيطرة عليه)، وكذلك بين كلكامش وعشتار(نظرت الإلهة عشتار ذات يوم إلى كلكامش ملك اوروك (الوركاء) (موقع اثري في محافظة ذي قار) فأسرها جماله، وفتنتها رجولته، فعرضت عليه أن يتزوجها، ولكن الملك الشجاع كلكامش رفض عرضها خوفا، وخشية خيانتها له)، وهكذا ليست هناك حاجة على الإطلاق للتقليل من أهمية الطابع الجنسي للقاءات الجنسية الغير متجانسة، ويعلق الباحث (Martti Nissinen) بقوله نشعر بوجود حب عميق بين كلكامش وإنكيدو، مما يوحي لنا بوجود علاقة مثلية بينهما .
المعروف ان كلكامش نصفه إله، أما أنكيدو فهو وحش بري، والإلهة عشتار وضيفتها ليلا الحب والجنس، ربما كانت العاهرة شمخة التي قضت ستة ايام وسبع ليال مع انكيدو وهو صاح يضاجعها هي الشخصية الوحيدة التي يمكن اعتبار دورها الجنسي (طبيعيا) بين رجل وامرأة كما يقرها الجمهور الرافدي القديم ما ورد في الملحمة، ومن الواضح تماما لا يمكن وصف العلاقة بين كلكامش وإنكيدو بأنهما (مثليان جنسيا) بسبب وجود حب الصداقة المتبادلة، أو أن لديهما علاقات جنسية، فالملحمة لا تدور حول المثلية الجنسية، أو حتى الشهوة الجنسية المثلية، ولكنها تدور حول الحب والصداقة بين شخصين من الذكور، بل يتلاشى الجنس مع تقدم قصة كلكامش ورفض اقتراح الإلهة عشتار باقامة علاقة مع بطل الملحمة وبذلك يختفي الجنس، مما يفسح المجال أمام تطور كلكامش نحو ما يمكن تسميته (بالزهد الذكوري)، كما نلاحظه في رثاءه المفجع على جثة أنكيدو في اللوح (12) من الملحمة التي تدور حول المصير البشري المتمثل بالموت.
عثر على مجموعة من الالواح الطينية تضم فؤول (النذور) فيها علاقات جنسية شاذة، وأطلق عليها شوما ألو (Šumma ālu)، وهي بعنوان (Šumma ālu ina mēlê šakin) وترجم العنوان على أنه (إذا كانت المدينة تقع على مرتفع) وهذا العنوان أخذ من السطر الأول من مجموعة الالواح المسمارية التي تضم (120) لوح طيني من النصوص المسمارية في بلاد الرافدين القديمة، وتسرد هذه الالواح أكثر من عشرة آلاف فأل، تبدأ بعبارة (إذا كان كذا وكذا...) ثم يذكر (وصف سوء الحظ أو حدوث أمر ما سلبي) أو (إذا كان هناك عدد كبير جدا من الأشخاص...) ، ثم بصف (فسيحل سوء الحظ أو الحدوث اشياء سلبية).
عند مراجعة هذه المجموعة نجد أربعة فؤول تفترض الاتصال الجنسي بين ذكرين:
1- إذا مارس رجل علاقة جنسية مع أسينو (assinnu) فسوف يعاني من الاذى كثيرا (CT 39 45: 32). (وصف الأسينو على أنهم مومسات المعبد، أو المخصيين (تم قطع العضو الذكري بالكامل)، أو المستهترين أوالراقصين في المهرجانات) (يطلق عليهم في العراق سابقا تسمية الشعار وهي كلمة ماخوذة من الشعر الطويل لهؤلاء الراقصين)، ولكن الباحث (Lambert) اعتبر (الأسينو) رجل مخصي، ويطلق عليه مصطلح (Sag.ur.Sag) أي (الرجل المحارب)، فمن وجهة نظره أنه في العصور السومرية المبكرة كان المحاربين من (الخصيان)، ولكن في نصوص اخرى يطلق على الاسينو ((lú)ur-munus) بمعنى (الرجل-المرأة) أو sinnišā[nu]) بمعنى (رجل بطراز امرأة) أو (رجل يشبه المرأة)، وتتضمن قوائم الموظفين البابلية أحيانا رجلاً يحمل مغزل (بيلاكو) pilakku) ) للإشارة إلى أنه شاذ جنسياً والذين كان لهم دور يلعبونه في الطقوس الدينية).
2- إذا مارس رجل علاقة جنسية مع كيرشيقو (geršeqqû) (رجل مخصي)، فسوف يتخلص من الحرمان الذي يعاني منه لمدة عام كامل (CT 39 45:33).
3- إذا مارس رجل علاقة جنسية مع عبد ولد في البيت، فسوف يحل عليه البلاء والاذى. (CT 39 45: 34)
4- إذا مارس رجل الجنس الشرجي مع نظيره الاجتماعي(بمعنى مساو له بالمرتبة الاجتماعية)، فسيصبح هذا الرجل في المقام الأول بين إخوته وزملائه (CT 39 44: 13).
وهكذا نجد ثلاثة من هذه الفؤول الأربعة تظهر وبشكل واضح: الجماع مع ذكر آخر، وان من يمارس الجماع الشاذ له الهيمنة واكتساب القوة، ومن الممكن قراءة هذه الفؤول على أنها دعوة عامة لأي شخص مذكر ليصبح شاذا جنسيا! وهذه التنبؤات لا علاقة لها بالأخلاق ولا تحدد نوع السلوك المقبول، انما تتعامل مع حالات فردية، وهي غير محتملة إلى حد ما، حيث يتجاوز سلوك المواطن الذكر قيود الأعراف الاجتماعية، وأن الممارسة الجنسية بين الذكور يُنظر إليها على أنها تجاوز للحدود المحددة اجتماعيا، كما تقترحه المادتان من القوانين الآشورية من العهد الوسيط:
(المادة 19): (إذا أساء رجل في السر إلى سمعة صاحبه (تابعو) (tappāʾu) (بالعربي تابع)، قائلا: (الجميع يمارسون الجنس معه)، أو قال له في نزاع أمام الناس: (الجميع يمارس الجنس معك، وانني سوف أتهمك بذلك)، فاذا لم يتمكن من اثبات التهم، فسوف يضرب خمسين جلدة بالعصي، ويوضع في خدمة أعمال الملك لمدة شهر كامل، وينتف (شعره؟) ويدفع وزنة واحدة من الرصاص).
(المادة 20): (إذا لاط رجل بصاحبه، وأثبتوا عليه التهمة ووجدوه مذنبا، فعليهم أن يمارسوا الجنس معه، ويخصى).
تتعلق (المادة 19) باتهام كاذب في ممارسة جنسية مع ذكر آخر، بينما تذكر (المادة 20) ممارسة جنسية بين ذكرين والعقوبة اغتصاب الرجل بنفس ما فعله مع صاحبه مع إضافة عقوبة الاخصاء للفاعل الذي قام بالعمل الجنسي، ولكن نتسائل إذا كانت عملية اللواط مرفوضه من قبل المشرع الاشوري فكيف شرع عقوبة اللواط مع الرجل الذي لاط بصاحبه! كما اننا لا نعرف العقوبة المفروضة على الشخص الثاني الذي كان يلاط به لم تتطرق المادة في ذكره، وبالمناسبة عثر خلال التنقيبات الاثرية في موقعي كالخو ونينوى على تماثيل طينية تصور ممارسات جنسية طبيعية وأخرى شاذة ايضا.
أثيرت مسألة الشذوذ الجنسي في بعض الأحيان فيما يتعلق بـ(محبي عشتار) الذين يطلق عليهم: أسينو
(assinnu)، وكورجارو (kurgarrû)، وسينيشانو (sinnišānu) وهؤلاء يطلق عليهم تسمية (محبي عشتار)، ورد ذكرهم في عدة نصوص وفي فترات مختلفة كممثلين لجنس (لا ذكر ولا انثى) أو ذكور مخصين حيث يتم قطع العضو الذكري بكامله، وتشير اسطورة نزول الإلهة عشتار إلى العالم الأسفل بان الإله انليل خلق اثنان من أسينو وهما في غاية الجمال ليحلو محل عشتار في العالم الأسفل وعندها يسمح لها بعودة إلى الحياة، وأحيانا يطلق عليهم ڰالو (kalû ) و (kuluʾu) المذكورين في عدة نصوص وفي فترات مختلفة، واعتبروا كممثلين لجنس ثالث، ويظهر هؤلاء الأشخاص في أدوار مختلفة، ولديهم نشاط ودور جنسي شاذ مع رجل ذكر، فهم يرتدون الملابس النسائية، وافعالهم هي تقليد لقدرة عشتار على تجاوز الحدود الجنسية، وربما كان من بينهم أولئك الذين ولدوا على أنهم (خنثى) أو تم إخصاؤهم وهم صغار السن، وهناك بعض التلميحات الغامضة على تورطهم في الأفعال الجنسية مع أشخاص ذكور، ومع ذلك إذا كان هذه الأفعال قد وقعت بالفعل، فلا ينبغي تفسيرها كحالة من التفاعل بين نفس الجنس(مذكر مع مذكر) لان لاسينو (assinnu) لا يعتبر ذكرا انما انثى في مفاهيم المجتمع الرافدي القديم، ومن الانشطة التي مارسها كل من أسينو وكورجارو وسينيشانو هي الرقص في المناسبات الدينية والدنيوية وبملابس نسائية، ومن إحدى واضائفهم ممارسة الرثاء والندب ڰالو (kalû) في المعابد باعتبارهم (محبي عشتار)، وسواء أخصوا أم لا، وسواء كانوا متورطين في أفعال جنسية مع أشخاص ذكور أم لا فإن دورهم كان دور جنس ثالث نظرا لكونهم ليسوا رجالا ولا نساء، ولم يكن من المتوقع منهم أن الالتزام بمفاهيم المجتمع الاخلاقية السائدة، ولهذا نشاطهم الجنسي كان مع المواطن الذكر، فمن وجهة نظرهم يقومون بمحاكاة دور عشتار وقدرتها الجنسية باعتبارها إلهة الحب والجنس، فهم مثلهم مثل الأشخاص الذين ولدوا مخنثين ولهم نشاط جنسي شاذ مع الذكور.
على اية حال هل هناك مثليون جنسيا في أدب بلاد ما بين النهرين؟ يمكن الاجابة على هذا السؤال بنعم، فلدينا حادثة توضح وجود ممارسة اللواط، وما هو موقف المجتمع في مدينة ايسن خاصة إذا قام الزوج بأعمال تسيء إلى زوجته فلها الحق في طلب الطلاق، فهناك نص قضائي يؤرخ إلى زمن الملك (أشمي-دكان) (1953-1935) ق.م وهو أحد ملوك سلالة ايسن (2017-1794) ق.م جاء فيه بان الزوجة وتدعى (عشتار-اومي) قدمت شكوى إلى قضاة مدينتها تتهم فيها زوجها بممارسة عادة اللواط، وبعد ان استطاعت هذه الزوجة ان تثبت للقضاة بأنها شاهدت زوجها وهو يضاجع رجلا آخر، أصدر القضاة حكمهم باسم الملك فحلقوا رأس الزوج، وثقبوا انفه، واخذوه في مسيرة في شوارع مدينة ايسن (موفع اثري في محافظة القادسية) تشهيرا به، وسمحوا للزوجة بالطلاق، كما نلاحظ العقوبة على ممارسة اللواط لا تصل لحد الاعدام، بينما خيانة الزوجة في قوانين الشرق الأدنى القديم تنص على عقوبة الاعدام ، ولكن في حالة خيانة الزوج لزوجته لا نجد عقوبة الاعدام انما غرامات، أو الزواج إذا كانت البنت قاصر، أو تعويض مادي، وإذا مارست الأم الجنس مع ولدها كلاهما يحرق بالنار، ولكن إذا مارس الأب الجنس مع ابنته يطرد من المدينة، وهكذا القانون يضعه الرجال الاقوياء ويطبق على الفقراء والضعفاء.
كان الاخصاء الكامل معروفا في إيران ضمن الديانة الزرادشتية، وتذكر بعض النصوص بان بابل كانت تورد الخصيان للقصر الاخميني وخاصة في بداية عهد الدولة الاخمينية، واشتهر الخصي الفارسي ويدعى (باجواس) أو (بابواس) (يعتقد انه أسينو واصله من بابل) الذي احتكر إدارة البلاد الاخمينية في قبضته، وأثبتت سياسة هذا الخصي فشلها واعتمادها على الدسائس حتى وجد نفسه مضطرا إلى قتل سيده ارتكزركزس الثالث الملك الاخميني عن طريق السم كما قتل معظم أولاده، ونصب أصغر أولاد الملك القتيل المسمى (ارسيس) (Arses) على العرش الاخميني، ثم قتل الملك ارسيس ايضا ، وأثبت هذا الخصي بانه لا يرجى منه نفع مادام هو خصي.
أما في الهند وضمن تعاليم الدين الهندوسي يتم اخصاء كامل للاشخاص منذ الطفولة ضمن تعاليم الهندوسية فلهم مكانة دينية معينة وتطور الأمر حاليا إلى ممارسة الدعارة الذكورية بسبب الفقر.
وفي اليونان الأمر مختلف تماما فيما يخص الشذوذ الجنسي لدى الذكور، فقد كانت شائعة ونراها في الرسوم على المزهريات الملونة حيث صور رجل بالغ وامامه صبي يحمل دجاجة ربما الدجاجة رمز للصبي الذي يلاط به أو ربما أجره هو قيمة الدجاجة، وايضا توجد لوحات جدارية حول ممارسة الجنس مع الأطفال، ومن المحتمل يعود هذا إلى ان الالعاب الرياضية في اليونان التي كانت تمارس من قبل رجال وهم عراة، وكذلك التماثيل الرخامية التي تجسد الالهة وهم عراة ايضا، وهناك نص يوناني يذكر ان رجل بالغ اخذ فتى بموافقة ابية ورضاه إلى الغابة، وهناك التقى الفتى بمجموعة من الرجال، ودار حديث فاضح ولعدة ايام مع الترغيب والترهيب، ومن بعد يعود الرجل البالغ ومعه الفتى إلى المدينة، فاذا رغب في البقاء مع الرجل الشاذ جنسيا عندها يكون المسؤول عنه ويرافقه دائما، واذا أراد الفتى العودة إلى منزل ابيه فله الحق في ذلك.
اعتقد ان هذا الموضوع برمته يحتاج إلى دراسة علمية واسعة وتحليل للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي رافقت وجود الشذوذ الجنسي في مجتمعات الشرق الأدنى القديم.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

3315 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع