د.صلاح الصالحي
سارة زوجة ابراهيم في الفن والتاريخ (سفر التكوين 17: 1-16)
ورد في العهد القديم وضمن سفر التكوين (17: 1-7، 15-16) ( فاجعل عهدي بيني وبينك وإكثرك كثيرا جدا، فسقط ابرام على وجهه، وتكلم الله معه قائلا، اما أنا فهوذا عهدي معك وتكون ابا لجمهور من الامم، فلا يدعى اسمك بعد ابرام بل يكون اسمك ابراهيم، .....وقال الله لابراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي (Sarai) بل اسمها سارة).
من المعروف ان أسم ابرام أو (إبراهيم فيما بعد) كان شائعا منذ الالف الثالثة ق.م، فعلى سبيل المثال لدينا في مملكة إيبلا (Ebla) في سوريا شخصية تحمل اسم ابريوم (Ibrium ) أو(Ebrium) (القرن 24 ق.م) وكان معاصرا إلى توديا (Tudiya) ملك آشور(وهناك معاهدة يعتقد انها ابرمت بين إيبلا واشور أو مع منطقة ابيرسال وتقع جنوب شرق تركيا حاليا) وكان مركز إبريوم في ايبلا (Ebla) يأتي بالمرتبة الثانية بعد الملك وعلى الأرجح يشابه حاليا منصب (وزير) بالأكدية أحار (A-ha-ar)، وبالسومرية سوكال- ماخ (sukkal-maḫ)، أو منصب (سيد الخزانة) أو (سيد القصر) (lugal SA.ZAXki)، أو (رئيس الوزراء)، ومثل هذا المنصب المهم وجد في سلالة أور الثالثة حيث كانت الملكية الحقيقية بيد السوكال-ماخ (sukkal-maḫ)، وأيضا ورد الاسم في نصوص أواخر عصر البرونز فلدينا عمي-شاتمرو الثاني (Ammi-štamru) ملك اوغاريت (موقع رأس شمرا على ساحل البحر المتوسط في سوريا) حيث أورث عرش مملكته إلى ابنه (أبرانو) (Ibiranu) (معنى الاسم إبراهيم) على اثر اتهام زوجته ذات الاصول الحثية بالزنا فهربت مع ولدها إلى مملكة امورو (Amurru) عند اخيها الملك شاوشكا-موا (Šaušga-muwa)، فنصب عمي-شاتمرو الثاني ولده ابرانو من زوجته الثانية ملكا على اوغاريت.
واما ساراي (Sarai) فقد وصفت في الكتاب المقدس بانها الأم، واعتبرت نبية وشخصية رئيسية في الديانات السماوية (اليهودية، والمسيحية، والاسلام) وتصورها الكتب المقدسة بانها امرأة تقية، ومشهورة بضيافتها وجمالها الرائع، فهي زوجة إبراهيم وأخته الغير شقيقة، فقد ذكر إبراهيم زوجته ساراي بأنها أخته الغير شقيقة : (ابنة أبي، ولكن ليست ابنة أمي)، كما وصفت بانها ملكة، وهي عمة لوط (نبي لوط)، وحسب ما ورد في التوراة هاجرت مع زوجها من مدينة اور (Ur) في جنوب العراق إلى مدينة حران (Haran) (تقع جنوب تركيا حاليا)، ومنها إلى أرض كنعان (فلسطين)، وأنجبت ساراي طفلا واحدا هو إسحاق، وغير الله اسمها من ساراي إلى أسم سارة (Sarah) الذي يعطي معنى باللغة العبرية (أميرة) بينما يصفها مفسري التوراة بانها ملكة ربما قبل هجرتها من مدينة اور!
تظهر سارة في كثير من الأحيان وكأنها بدوية أكثر من كونها ملكة أو أميرة، ومن المؤكد أن خزانة الملابس الملكية ليس لها معنى كبير في الحياة البدوية اليومية لسارة في مناخ مترب مثل مصر، وتذكر التوراة شخصية سارة لدرجة أننا ننسى اسمها يعني (أميرة)؟ والاسم بمثابة فكرة عن هويتها، والملفت للنظر حول سارة والغريب في نفس الوقت نجده في مجال الفن وضمن الأعمال الفنية التي تتناول (الحياة اليومية لسارة في مصر) والتي جسدها الرسام الفرنسي (Jacques Joseph Tissot) (1836-1902) ميلادي (وكان رساما توضيحيا وايضا رسام كاريكاتير فرنسي)، فقد صور في لوحاته قصص إبراهيم وسارة في مصر، ومن بين العدد الهائل من اللوحات التي انجزها الفنان الفرنسي البعض منها تناولت موضوعات الكتاب المقدس، فقد انجز الفنان (Tissot) لوحات فنية تصور أحداث الكتاب المقدس بشكل رسوم بالوان مائية، ولم يكن دائما على حق في رسم الأشكال، لأنه في بعض الأحيان يدخل الرومانسية في اعماله الفنية، ففي القرن التاسع عشر الميلادي كان علم الآثار في عهد الفنان الفرنسي (Tissot) لم يكن مكتملا بعد فما زال في بدايته وكان اقرب الى سرقة الاثار من دول الشرق الادنى القديم، ولذلك فان لوحاته من الصعب ان تكون صور دقيقة تماما، ولكن جسدت لوحات الفنان (Tissot) سارة في مصر وكأنها تبدو أميرة فعلا أكثر بكثير من كونها بدوية .
اللوحة الأولى: اميرات مصريات معجبات بجمال سارة، استخدم الفنان الالوان المائية (اليمين)، اللوحة الثانية: تم نقل سارة إلى قصر فرعون، استخدم الفنان الالوان المائية ايضا (اليسار)، اللوحات من اعمال الرسام (Jacques Joseph Tissot)،. (من مقتنيات المتحف اليهودي في لندن).
تظهرسارة في كلا اللوحتين وهي ترتدي ملابس متشابهة، وان لغة جسد سارة وتعبيرات وجهها في هذين اللوحتين تستحق النظر فيهما، فنجد على وجه سارة الخوف والريبة من المجهول، وما يحيط بها من سيدات القصر المصري الغريبات عن تقاليدها المجتمعية، فهي ملفوفة بطبقات من الملابس مع أساور ذهبية فوق ساعديها، وهناك غطاء الرأس (التاج) صور باتقان وهو يغطي كل شيء ما عدا وجهها، ويبدو ان غطاء الرأس يشبه بشكل أو باخر غطاء الرأس (التاج) المتقن الصنع للغاية للملكة بو-آبي (Pu-A-Bi-Nin) ملكة مدينة أور السومرية (2600) ق.م، ومعنى اسم الملكة السومرية (كلمة أبي)، ويطلق عليها أيضا اسم (شوباد) أو شبعاد (Shubad)، والتي حكمت في عصر فجر السلالات الأول (2600) ق.م، ويلاحظ هناك تشابه في رسم التاج بين الاثنين الملكة السومرية والملكة سارة ضمن الإطار المتقن الصنع في استخدام الذهب، والزهور النجمية الموجودة على تاج غطاء الرأس، والتي تشبه الأشكال الموجودة على خصر سارة في لوحة عجيبة جدا في وقت لم يكتشف قبر الملكة بو-آبي بعد فكيف توصل الفنان الى تصور هذا التشابه الدقيق.
غطاء الرأس لسارة كما تصورها الفنان الفرنسي (Tissot) (اليمين)، غطاء رأس الملكة السومرية بو-آبي (اليسار) (متحف جامعة بنسلفانيا)
تم اكتشاف قبر الملكة بو-ابي ضمن المقابر الملكية في أور في عام (1928) على يد الآثاري (Leonard Woolley)، وتؤرخ المقابر الموجودة في أور والتي تقع بالقرب من نهر الفرات في جنوب العراق إلى ما بين (2600-2500) ق.م، ولا تنسب الملكة بو-آبي لأي ملك أو زوج، مما يجعلنا نعتقد إنها حكمت لوحدها، وكانت شخصية قوية مهمة في المجتمع السومري، وكان قبرها زاخرا بالأثار والهياكل العظمية، فقد وجدت فيه (حفرة الموت) وتضم هياكل (68) امرأة و (6) رجال دفنوا معها بعد تخديرهم وقتلهم بالسم، أو يعتقد بآلة حادة وجدت آثارها على بعض الجماجم، كما عثر في قبرها على اثنين من الهياكل العظمية معها في القبرمحتمل موظفين أو مقربين كانوا في خدمتها، لقد دُفنت بو-آبي بمراسيم ملكية متعارف عليها في دفن الملوك.
وبالنسبة لدفن سارة باعتبارها من الاباء، فنحن نعرف شيئا عن دفنها أيضا، ويخبرنا سفر تكوين (23)عن موتها وأن إبراهيم اشترى لسارة قبرا وهو (كهف المكفيلة) القريب من حبرون من بني (حث) (Heth) لدفن زوجته مما يدل على أن الحثيون يمثلون احد القبائل الأصلية في فلسطين (التكوين 23: 4 - 9)، وكان السكان الشرق الأدنى القديم يستخدمون المغارات منذ العصور الحجرية سواء للسكن أو لدفن موتاهم أو الاثنين معا، وهذه المغارات طبيعية لم يتدخل الإنسان في تهيئتها، واثبتت التنقيبات الاثرية إلى أن سكان الكهوف كانوا منتشرين في جميع بلاد الشرق الأدنى القديم بما فيها فلسطين لاسيما في المناطق الجبلية التي تتوفر فيها الكهوف، وعلى سبيل المثال كهف جبل الكرمل (Carmel) ويقع على بعد عشرين كيلومتر جنوب حيفا (Haifa) في فلسطين، وبطبيعة الحال كان سكان فلسطين في عهد (ابراهيم) يفضلون ان يدفنوا موتاهم في الكهوف خاصة بالنسبة لذوي المكانة العالية في المجتمع، ويعتقد الباحث (Henri-Victor Vallois): (ان الدفن في الكهوف الطبيعية كان لأسباب سحرية أو دينية لذا اعتقد القدماء بقدسية الكهوف منذ العصور الحجرية)، ولكن لا نعرف كيف امتلك بني (حث) مغارة المكفيلة (Machpelah) القريبة من حبرون (Hebron) هل كانت سكن لهم أو ارث من الأجداد إلى الاباء؟
انتقلت التاثرات اليهودية إلى اتباع المسيح فبعد صلب يسوع تمت عملية دفنه كما ورد في (سفر متي 27:57-61): (ولما كان المساء، جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف، وكان هو أيضا تلميذا ليسوع. فهذا تقدم إلى بيلاطس(الحاكم الروماني) وطلب جسد يسوع. فأمر بيلاطس حينئذ أن يعطى الجسد. فأخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي، ووضعه في قبره الجديد الّذي كان قد نحته في الصخرة، ثم دحرج حجرا كبيرا على باب القبر ومضى. وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الأخرى جالستين تجاه القبر) وفق المعتقدات المسيحية فإن يوسف الرامي كان رجل من الأغنياء، وكان من بلدة الرامة بفلسطين، وكان قد حفر لنفسه قبراً في الجبل، ولكن بعد ان استلم جسد المسيح اشترى الكفان من الأقمشة الغالية ليكفن بها يسوع ثم قام بدفنه في المغارة التي اعدها لنفسه سابقا.
ان اسلوب الدفن في مغارة أو (كهف صناعي) مارسه القدماء، وذلك بعمل الكهوف الصناعية في الجبال حيث يتم حفر فتحات داخل الصخر وتعميقها فتشكل كهف صناعي، ويسد المدخل المطل على الخارج عادة بالأحجار التي ترص بعضها فوق بعض اما بانتظام أو غير انتظام، وفي أغلب الأحيان لا تلتصق هذه الأحجار بملاط بل تتماسك بفعل رصها بعناية، ومن المحتمل هذا الاسلوب في الدفن ولد نتيجة عدم وجود عدد كاف من الكهوف للسكن ودفن الموتى، فعمدوا على حفر الكهوف الصناعية واستعمالها كمقابر، وكان الحفر يتم بأشكال مختلفة ولكن في اغلبها بيضاوي الشكل أو مربع أو مستطيل، واطلق الباحثين على هذه الكهوف المحفورة تسمية (الحوانيت) أو (الحونت) (Les Haouanet) والمفرد (حانوت) ويعني دكان (ويطلق في مصر على من يمارس عمل دفن الموتى حانوتي)، عموما أن حجم هذا النوع من الكهوف أو المغارات الصناعية صغير لا يسمح للتمدد بداخلها لهذا فهي غير صالحة للسكن، وشكلها الصغير جعل من وضعية الدفن بداخلها تكون منطوية وهي الوضعية الأكثر شيوعا في الدفن.
صور تمثل مقابر الجوانشي في جزر الكناري (جزر الخالدات)، وقد حفرت بالجبل وتعود إلى عصور ما قبل التاريخ (عدسة المؤلف)،
كانت مقابر (الحوانيت) معروفة في العراق ومنها كهوف الطار(Al-Tar) جنوب غرب كربلاء (Karbala)، ومغاور مجول جنوب مدينة عانه (Anah)، ثم المقابر المثقوبة في صخور الجبل عند شاطئ بيبلوس (Byblos) (جبيل في لبنان حاليا) والتي ترجع لأحدى الأسر المالكة (2000) ق.م قد حفرت بهذه الكيفية، ولدينا امثلة أخرى من العصر التاريخي المتأخر عن عمل مساكن في الصخر مثل مساكن الانباط (Nabataeans) في الأردن واشهرها الكهف المعروف باسم خزنة فرعون في البترا (Petra)، وأيضا مدائن صالح في نواحي العلا (Al Ula) في شمال غرب المملكة العربية السعودية، وكهوف تل أبو مطر(Tell Abu Matar) إلى الجنوب من بئر السبع (Beersheba) في فلسطين، وهذا النوع من القبور منتشر بكثرة في الشرق الجزائري مثل كهوف تبسة (Tebessa) في شرق الجزائر، وكهوف تيبازا (Tipaza)على الساحل الغربي للجزائر، وفي المغرب الاقصى نجد كهوف تازة (Taza) شرق المغرب، وكهوف أزمور (Azemmour) قرب الجديدة (El Jadida) على الساحل الأطلسي، كما عرف هذا النوع من دفن الموتى في جزر الكناري (Canary) فقد كان الجوانشي (Guanche) وهم سكان تلك الجزر القدماء كانوا يدفنون موتاهم في الكهوف حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وبذلك فان طريقة الدفن في الكهوف الصناعية كانت معروفة في فلسطين ومكلفة ماديا وكان يدفن فيها الاغنياء وصفوة المجتمع بما فيهم (يسوع الجليلي) (والجليلي نسبة إلى مدينة الجليل حيث ولد السيد المسيح).
652 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع