استخدام البخور وتجارته في العراق القديم


الأستاذ الدكتور صلاح رشيد الصالحي*

استخدام البخور وتجارته في العراق القديم


شكل 1: المباخر: مبخرة على شكل مكعب استخدمت لفترة طويلة في العراق القديم (اليمين)، مبخرة منصات البخور أو الأعمدة توضع في المذبح على اليمين واليسار أو واحدة فقط (الوسط)، مبخرة صغيرة يسهل حملها والتنقل وفق الطقوس الدينية (اليسار)

كان استخدام البخور واسع الأنتشار في جميع أنحاء الشرق الأدنى القديم، وأشارت المصادر المسمارية بأهمية طقوس التبخير، سواء في المجالين الديني أو الخاص، ويبدو أن الرائحة اللطيفة المنبعثة من خلال حرق البخور كانت عنصرا لا غنى عنه، فقد وردت في ملحمة كلكامش، وعلى لسان اوتا-نبشة (Uta-napištim) (نوح في الديانات السماوية) وهو يروي كيف حصل على الخلود: ( أخرجت القرابين وقربتها للرياح الأربعة، وضعت بخورا على قمة الجبل، نصبت سبعة قدور وسبعة (أخرى)، وكدست أسفلها قصبا، وآسا، استنشقت الآلهة الاريج الطيب، فتجمعت الآلهة كالذباب على صاحب القرابين...)، كما ذكر المؤرخ هيرودوتس (480) ق.م بان (البخور كان مستعملا في بابل)، لكننا لا نعلم في أي وقت أدخل البخور لأول مرة إلى بلاد الرافدين، ومع هذا هناك إشارات تدل على معرفة السومريين بالبخور منذ زمن قديم جدا، كما أشار المؤرخ هيرودوتس بان البابليين يحرقون زهاء طنين ونصف الطن من البخور سنويا في مهرجان آكيتو السنوي (Akitu) (رأس السنة البابلية) الذي يصادف بين 1-12 نيسانو (نيسان) من كل عام، لذا يعتقد ان معرفة استخدام البخور كان منذ الالف الثالثة والثانية ق.م، وربما منذ عصور ما قبل التاريخ، وشملت المواد العطرية المستخدمة في محارق البخور: العرعر، شجرة الأرز، الطرفاء، والسنط (الصمغ) واللبان والمر، وعلى الرغم من أن النصوص المسمارية لا تقدم وصفا دقيقا لحرق البخور، إلا ان صناعة مواقد البخور كانت معروفة سواء من الطين، أو الحجر، أو المعادن النفيسة، كما تذكر النصوص المسمارية أيضا أن (موقد البخور كان ممتلئا بالفحم المحترق) في المعبد، كما استخدم البخور في مراسيم دفن الموتى، وتعطير الهواء في مكان الوفاة، من أجل إخفاء رائحة الموت التي تخيم على منزل المتوفي (ولا زالت العوائل العراقية عند زيارتهم للمتوفي في المقابر توقد البخور أمام القبر)، وأطلق على البخور مصطلح قُطران (qutrinna) (كما في اللغة العربية القطران) كما في العبارة (قُطرانَ ولاإصين) (qutrinna ul iṣṣin) بمعنى (لا يشتم البخور).
كان البخور ثمينا للغاية، ولذلك تم الاهتمام بالطرق التجارية من أجل السعي للحصول على مكونات البخور، فسارت القوافل لتصل إلى المناطق النائية، كذلك ابحرت السفن لنفس الهدف من أجل جلب اللبان والمر (من جنوب الجزيرة العربية، وعُمان) ولدينا دعاء إلى الإله مردوخ كبير آلهة بابل(Marduk) حيث أعلن نبوخذنصر الثاني ملك بابل (634-562) ق.م وهو يصلي: (أنا أمسح جسمي كل يوم بالزيت، وأحرق البخور، وأستخدم مستحضرات التجميل حتى تجعلني استحق عبادتي لك)، وفي حوليات سرجون الثاني ملك آشور يذكر انه استلم الجزية من (ايتا- امرا) (Ita-mara) ملك سبأ كما ورد في النص: ( من مكرب ملك يمنات..)، ومكرب بقلب (ك) إلى (ق) يصبح (مقرب) ويعني (الكاهن) لأنه قريب من الإله فهو لقب ديني، والحقيقة كانت هدية وليست جزية، لان السبأئيون يرغبون في التعاون مع الاشوريين لضمان استمرار طرق التجارة من جنوب الجزيرة العربية (اليمن) إلى شمالها (فلسطين وسوريا) والتخلص من منافسة عرب الحجاز (مكة والمدينة) الذين احتكروا الطرق التجارية وخاصة تجارة البخور والتوابل والعطريات، وربما كانت السيطرة على طرق التجارة المربحة هي التي حفزت نبونائيد (556-539) ق.م الملك البابلي ان يؤسس لنفسه مقر للحكم في تيماء وذكر انه سيطر على مدينة خيبرو (خيبر) ومدينة اثريبو (يثرب) (المدينة المنورة)، وعلى مدينة العلا، أما الموقع الاخر للبخور فهو (ميلوخا) وقد اختلف الباحثين حول موقعها إما وادي السند في باكستان أو الصومال الان النصوص القديمة تشير الى ان سكان ميلوخا من ذوي البشرة الداكنة (السود)، وهناك مصدر آخر للبخور هي (مگان) ويعتقد انها عُمان حيث تضم جبالها معادن القصدير والنحاس، وكذلك اللبان والمر وهما من مكونات البخور، وفي نص اشوري من عهد آشورناصربال الثاني(آشر-ناصر-أﭙلِ) (Aššur-nâṣir-pal) (883–859) ق.م ذكر الجزية التي دفعها معظم حكام بلاد سوخي (Suḫu) (الفرات الأوسط في العراق) الجزية (بالاكدي منداتو) وتضمنت:(الفضة، والذهب وبكميات كبيره، والعاج، والبخور، والاخشاب، والملابس الزاهية الألوان، والكتان)، وهذه المواد تدل على غنى بلاد سوخي في تلك الفترة، وبما أن الحصول على البخور مهمة لمعابد في بلاد الرافدين ومصر فان اتصال التجار في كلا الدولتين قد تحقق لجلب البخور، ومن وجهة نظر الباحث (Frankford) كانت في جنوب الجزيرة العربية أو الشاطئ الصومالي، حيث ارسلت السفن البحرية لجلب البخور، فيلتقي التجار السومريين والمصريين ويتم التبادل الثقافي بينهم ويطلع التجار المصريين على ما أنجزته الحضارة السومرية وبالعكس ايضا.
يحرق البخور في معابد (يطلق على المعبد بيت الإله، وكل من يعمل فيه هم عبيده) بلاد الرافدين وتقدم وجبات الطعام للتمثال المقدس يوميا (التمثال بالأكدى صلمُ (ṣalmu) وهو قريب من اللفظ صنم) ، وتدعى تلك المراسيم (فتح الفم) (pīt pî) وقبله يسبقه (غسيل الفم) (mīs pî)، ونحن نعرف بأن التماثيل المقدسة صنعت من الخشب وتغطى بالمواد الثمينة، وهي عادة الذهب والاحجار الكريمة، وهذه الزينة تحتاج إلى صناع مهرة مثل النجارين وصاغة الذهب وصناع الجواهر، ومن ثم فان مراسيم فتح الفم هدفه حتى يستطيع الإله ان يأكل ويشرب ويشتم رائحة البخور الذي يحرق مع كل وجبة طعام، كما في النص الآتي:
(ṣalmu annû ina la pīt pî qutrinna ul iṣṣin akala ul ikkal mê ul išatti)
(هذا التمثال، بدون فتح الفم لا يشتم البخور، ولا يأكل الغذاء، ولا يشرب الماء)
كما استخدم البخور في الاحتفالات الدينية فعندما يسير موكب الآلهة يرافقه حرق البخور في مواقد يحملها الكهنة، كما يحرق البخور في المعابد فمن المعروف ان العراقي القديم يتصف بالتدين الشديد، لذا لا تنقطع رائحة البخور داخل المعبد، كما يستخدم البخور في اداء طقوس الموتى، وتذكر المصادر المسمارية ان على الإنسان في بلاد الرافدين قضاء ساعاته الأخيرة على سريره الخاص، محاط بالعائلة والأصدقاء، ويحرق البخور بكثرة، وبعد أن يتوقف تنفس الانسان، تبدأ طقوس لتمكين الروح (etemmu) من مغادرة الجسد، حيث يجلس شخص (غالبا كاهن بسيط) على كرسي بجانب السرير المتوفي ليرتل فقرات من الادعية للإله مردوخ، ومن ثم يتم تحضير الجثة للدفن: فيتم غسلها، ومسحها، وارتداء المتوفي رداء أحمر (الأحمر لون الدم) أو يلف بقطعة من الكتان أو حصيرة من القصب (بارية بالعراقي)، وأثناء السهر عند جثة الميت (taklimtu) يتم وضع الممتلكات الشخصية والطعام والشراب وخشب الصندل حول المتوفى فهذه الأشياء سترافقه إلى القبر مع بعض الهدايا للآلهة الذين يحكموا العالم الأسفل وهما الإله نركال وزوجته اريش-كيكال لضمان الترحيب بالمتوفى، ثم يحرق البخور وتوضع المشاعل حول السرير، وتستمر مراسيم الدفن ثلاثة أيام، أما عن تكاليف الدفن فقد كانت باهضه، يأخذ مسؤولو الدفن سريرا ومقعدا جنائزيا جنبا إلى جنب مع الملابس التي توفي فيها الشخص، وكمية من الحبوب، والخبز والبيرة، وعملية الدفن فرصة للابتزاز ولذك سعى اوركاجينا (Uru-inim-gina) ملك لـﮔش (2340) ق.م في تخفيض الرسوم الجنائزية عندما شرع الإصلاحات، وفي ثقافة بلاد الرافدين من الضروري جدا دفن الميت حتى يحصل على القرابين الطعام والشراب لأن القبر بمثابة (بيت) للموتى حيث يمكن التواصل بينهم وبين الاحياء عند زيارة اهل المتوفي للقبر، واذا لم يدفن الانسان تبقى روحه هائمة تؤذي الاحياء.
كانت فترة الحداد مهمة خلال الطقوس الجنائزية تستمر مراسم الحداد لوفاة الشخص لمدة سبعة أيام، ولم يكن المشيعون يشملون العائلة والأصدقاء فقط، فقد يحضر الجيران أيضا الذين كانوا يرتدون ملابس الخيش أو الملابس الممزقة، الغير المغسولة، ويرمون على انفسهم الرماد، واحيانا يكون هناك المشيعون المحترفون يعملون مقابل اجور وهم يندبون ويصرخون باسم المتوفي، وتمزق النساء ملابسهن وشعرهن ويخدشن وجوههن، ويكون الرجال صاخبين يبكون بصوت عالٍ، وعند زيارة قبر المتوفي يتم حرق البخور اعتقادا منهم بان الموتى يستنشقون رواح العطريات، وقد يوضع الطعام مثل الخبز والعسل والحبوب وأحيانا اللحم فوق القبر، وبعدها يتم سكب الماء على القبر، وقد توضع المجوهرات والملابس على تمثال صغير للمتوفى، إذا كان غنيا، ويتم استدعاء الموتى بالاسم، لمنع الأشباح الأخرى من الاستفادة من القرابين، كانت هذه المناسبات فرصة للمعيشة والتواصل مع الموتى، أو طلب المشورة منهم أو الترجي منهم للتوقف عن ازعاجهم في الاحلام، ويمكن إجراء المحادثة الفعلية مع الموتى من خلال وسيط يطلق عليه (مربي الأشباح)، وفي نهاية الزيارة تبحر أرواح الموتى في قوارب للعودة إلى العالم السفلي..
وبالمناسبة حاول الرومان السيطرة على تجارة البخور والمر والصمغ والتوابل وهو ما يعرف (طريق البخور) ويعرف ايضا باسم (طريق التجارة العظيم)، فارسلت حملة بقيادة أيليوس جالوس عام (24) ق.م وكان يحتل منصب الحاكم الروماني لمصر، حيث سارت الحملة الرومانية برفقة ادلاء من عرب الانباط وعلى طول ساحل البحر الأحمر حتى وصلت الى مشارف مدينة ماريبا أو ماريقا (Mariaba) اي (مارب) في اليمن، ولكن الحملة فشلت لكثرة الوفيات بين جنودها بسبب الأمراض والعطش، فعادت الحملة بعد تكبدت خسائر كثيرة في صفوف الجنود الرومان، واعتقدوا ان سبب فشل الحملة على اليمن يعود الى خيانة الادلاء الانباط لذلك تم قتلهم، وهكذا ومن خلال الاحداث التاريخية قديما وحديثا لم تتمكن اي دولة من فرض سيطرتها على اليمن، ومن ثم تستحق ان يقال عنها (اليمن مقبرة الغزاة).

*تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2024

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

676 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع