المحامي المستشار
محي الدين محمد يونس
بين المظهر والجوهر
عملت بأمرة اللواء (جمال الأتروشي) مدير شرطة محافظة أربيل لفترة قاربت الثمانية سنوات بمنصب المشاور القانوني له وبرتب ملازم أول ونقيب ورائد وكانت علاقتي به ودية على طول الخط وبدايات العمل معه بدأت في شهر (آذار من عام 1974) عندما جاء نقلا من منصب مدير شرطة محافظة كربلاء الى منصب مدير شرطة محافظة أربيل بعد تجدد القتال بين الحكومة العراقية والحركة الكردية على أثر عدم التوصل الى اتفاق حول صيغة الحكم الذاتي لمنطقة كردستان وكان من تداعيات هذا الوضع الجديد هو هروب معظم منتسبي دوائر الدولة في المحافظات الثلاثة (أربيل، السليمانية، دهوك) الى جانب الحركة الكردية ومن ضمنهم منتسبوا دوائر قوىٰ الأمن الداخلي من الضباط والمراتب وفي المقدمة منهم مدراء الشرطة لتلك المحافظات. كان اللواء (جمال الأتروشي) يتمتع بقوة الشخصية، التي استمدها من قوة مواصفاته الذاتية الإيجابية فـــي الصدق والاعتداد بالنفـــس بالإضافة الى كونــه نجل الشخصية الكردية المعروفة والوجيه الشيخ (عبد الحميد الأتروشي) قاضي بغداد الأول في زمن نظام حكم (عبد الكريم قاسم) وكان معروفاً ويتمتع بعلاقات اجتماعية طيبة وواسعة في العراق وفي أربيل بشكل خاص،
بالرغم من المحاولات الكثيرة معه لضمه الى صفوف حزب البعث إلا أنه كان يواجه هذه المحاولات بالرفض متضرعاً من كونه من عائلة دينية ولا يحبذ الانتماء الى الأحزاب وكان ادعائه هذا بنية التهرب من هذه المحاولات وعدم استعداده للانتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي وهو كردي القومية ومما يجدر ذكره بأنه كانت له علاقة مع الحزب الشيوعي في بداية الستينات من القرن الماضي وجرىٰ إلقاء القبض عليه وتوقيفه لعدة اشهر بعد نجاح انقلاب حزب البعث في (8 شباط 1963)، على كل حال كان لنتائج رفضه الانضمام لحزب البعث مردود سلبي على مستقبله الوظيفي في ترقيته الى مناصب أعلى وفي هذا المجال لابد أن أتطرق الى القرار الذي اتخذته الحكومة العراقية في تعين مقدم الشرطة (بهاء الدين احمد) مدير شرطة محافظة (دهوك) بمنصب محافظ أربيل في عام (1978) ومراعاتاً لمشاعر اللواء (جمال الأتروشي) وربما تأثره من هذا القرار لأحقيته بهذا المنصب فقط قامت الجهات المعنية في نفس الوقت بإهدائه سيارة صالون من نوع (فيات نصر) تطبيبا لخاطره هذا وقد استمر المذكور في منصب مدير شرطة محافظة أربيل لغاية بداية عام (1982) حيث أحيل علىٰ التقاعد. لي معه ذكريات جميلة وحكايات طريفة اذكر منها حكايتين عساها تعجب القراء الأعزاء وهي: -
بهاء الدين احمد محافظ أربيل
• في عام (1980) كنت جالساً معه في مكتبه لإنجاز بعض الأعمال التي تستوجب مشاورتي معه بشأنها إذ دخل عليه مراسله رئيس العرفاء (عبدول) وهو يردد بعد أدائه التحية (سيدي جاي فد واحد شيخ عرب يريد يشوفك) أعطاه الإيعاز بالسماح له بالدخول، عندما دخل وكان يرتدي الملابس العربية ومن افخر أنواعها وفي قمة الشياكة وهو طويل القامة معتدل البنية وأبيض اللون، نهض مدير الشرطة من مكانه واستقبله مصافحاً إياه ومرحبا به ( أهلا وسهلاً بالشيخ...تفضل استريح... الله بالخير شيخ) وبعد السؤال عن الصحة والأحوال والقيام بواجبات الضيافة من شاي وقهوة ومضي ما يقارب الربع ساعة بادره مدير الشرطة تفضل شيخ أخاف عندك شغلة ؟
- أجاب شوف السيد مدير الشرطة أنت الشيخ (وكان يكنىٰ بالشيخ جمال) ترة آني لا شيخ ولا سيد آني رجال كاولي من مدينة الكمالية في بغداد واسمي (سلمان) وجايك بشغلة أريدك تساعدني بيها على أثرها التفت مدير الشرطة نحوي وهو يقول باللغة الكردية (محي الدين) شايف هيجي شغلة صارلي ساعة اناديه شيخ شيخ وتاليها طلع كاولي، قلت له سيدي هاي دوائر الشرطة تستقبل جميع الناس ومن مختلف الفئات هسة خلي نعرف شعنده والتفت نحو الضيف قائلاً.
-- ها شيخ الكاولية بيش تريد نساعدك ؟
- فأجاب قبل شهر حل علينا ضيف رجال من أهل أربيل وبقىٰ عندنا ثلاثة أيام ودارينا وخدمنا وبالأخير طلب أيد أختي الصغيرة وصارت القسمة وجابها معاه الىٰ أربيل ومن تركتنا هاي أختي ومن يومها حال الضيم حالنا ظلينا بلا شغل وهسة آني جايك تسويلي جارة.
-- مدير الشرطة : شسويلك جارة
- سلمان : دز على هذا الشخص وهو معروف في أربيل ويشتغل تاجر سيارات واسمه (....) واطلب منه خلي يرجعلي أختي حتى آخذها وارجع بيها لبغداد بعدين صارله شهر وياها بعد شله بيها ماشبع منها وفوگاها عنده نسوان إثنین غیر های أختی.
• وفعلاً أرسل مدير الشرطة في طلب الزوج والذي حضر ورفض أنهاء علاقته بزوجته الكاولية بأي شكل من الأشكال وبرر ذلك من قيامه بالعقد عليها شرعا على سنة الله ورسوله وقد دفع لشقيقها أموال طائلة كما وأنه ينتظر الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالىٰ لقاء سحبه لهذه الفتاة من براثن الفساد والعمل الشائن وعند استفسار مدير الشرطة منه عن كيفية زواجه من هذه الفتاة الكاولية وهو من عائلة معروفة، أجابه لست الوحيد بل هناك الكثير من الرجال من الذين تزوجوا من الكاوليات ومن مختلف طبقات المجتمع العراقي وفيهم من المسؤولين الكبار في الدولة وضباط الجيش والتجار علناً أو سراً في النهاية طلب مدير الشرطة منهما أن يخرجا ويقومان بحل مشاكلهما فيما بينهما أو عن طريق المحاكم. وأخيراً فاتني أن أذكر بأن مدير الشرطة استدعىٰ مراسله (عبدول) بعد انصراف هذا الشيخ المزور ووبخه في إطلاق وصف (الشيخ) عليه متسائلاً على أي أساس اعتبره شيخاً وكان رد المذكور من قيافته وملابسه وسبحته الكهرب.
ملعب أربيل ويظهر في الصورة الصف الأمامي وعلى يسار الصورة الأول جمال الاتروشي والخامس بهاء الدين احمد والصف الثاني الأول على اليمين كاتب المقال
• الحكاية الثانية حصلت في عام (1979) عندما دخلت عليه وكان متذمراً وعند الاستفسار منه عن سبب ذلك أجابني بأن محافظة أربيل قد فاتحتنا ومديرية الأمن بالنظر في التماس جماعة من المصريين الذين قدموا طلباً للموافقة على فتح مدينة ألعاب في مركز المحافظة تمارس فيه مختلف النشاطات والفعاليات الفنية والرياضية والمسابقات ولمدة شهر واحد وأضاف مدير الشرطة بأنه رد على كتاب المحافظة بالرفض على الطلب حفاظاً على سلامة أمن المحافظة وأخلاق شبابها من الانحراف وتعارض ذلك مع القيم الأخلاقية والدينية السائدة في هذه المدينة في حين وافقت مديرية أمن المحافظة على طلب المذكورين وأبدت عدم ممانعتها وعلى هذا الأساس ودون أي اعتبار لقرار الرفض الصادر من مديرية الشرطة، أجازت محافظة أربيل للمذكورين المباشرة ببناء مدينة الألعاب بالاعتماد على قطع الخشب والصفائح المعدنية وفعلاً تم بناء المدينة في قطعة ارض خالية في ذلك الوقت في مقابل جامع (الشيخ مصطفى النقشبندي) في مركز محافظة أربيل،
جامع الشيخ مصطفى النقشبندي
ومع بداية العمل أصبحت مكتظة بالناس وخاصةً الشباب منهم لكونه لم يكن حدثاً مألوفاً عندهم وحقق للقائمين على إدارة المدينة أرباح ومردود مالي كبير وفي اليوم الخامس من افتتاح المدينة لاحظت عدم ارتياح مدير الشرطة وقلقه من الأخبار المتداولة عن التصرفات غير المقبولة التي تجري في مدينة الألعاب هذه من فعاليات رقص وغناء وقمار وسحر والمشاكل التي تصاحبها بين المواطنين مرتادي المدينة والمسؤولين والعاملين في هذا المكان من مشاجرات تستلزم مداخلة الشرطة باستمرار وفضها، فقد اصبح المكان وما يمارس فيه من تصرفات مخلة بالآداب حديث أهل أربيل من الأخيار الملتزمين وخاصة رجال الدين الذين افصحوا عن استنكارهم ورفضهم لما يجري فيها، اقترحت على مدير الشرطة أن يخولني ويسمح لي بإيقاف نشاط المصريين ووضع حد لسلوكهم المنافي لتقاليد مجتمعنا من خلال هدم هذه المدينة الملعونة، أجابني آني مخولك بشرط ما تجينا أي مسؤولية، أجبته خليها عليّ وما عليك، اتصلت بالمقربين مني من منتسبي الشرطة ووضعنا خطة مُحكمة بالتعاون مع مجموعة من الشباب والفتيان وحثهم على مهاجمة مدينة الألعاب من خلال رشقها بالحجارة وإزالة الحواجز فيها، وفعلاً تم إزالتها من الوجود خلال ساعتين من الزمن ولم يبق أثر للمدينة سوىٰ بعض قطع الحديد والخشب المتناثرة هنا وهناك وخلال أعمال الشغب والتخريب كانت تردنا اتصالات كثيرة عن طريق الهاتف طبعا الأرضي تطلب النجدة وتدخل الشرطة لإيقاف هذا الهجوم الكاسح وكنا نوعدهم بالتدخل ونعتذر لعدم تمكننا من الوصول مع سياراتنا بسبب رشق الحجارة وبصورة كثيفة وخوفاً من إصابة سيارات الشرطة بأضرار من خلال رشقها من قِبل المشاغبين وهكذا انتهت مدينة الألعاب المصرية وتوقفت عن العمل وصاحب ذلك ارتياح من أهالي مدينة أربيل، لم يبق منها سوىٰ ذكرياتها وما دَوّناه عنها في حكايتنا هذه.
2217 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع