سيف الدين الألوسي
في كل الفترات والعهود الزمنية التي مرت بالعراق , يزداد كل إنسان تجربة ومعرفة بالبشر , ويتعلم تجارب ودروس جديدة من مدرسة الحياة الغير مفهومة التي نمر بها جميعا كعراقيين !!
تخرجنا من كلياتنا في أواخر السبعينيات و كلنا طموح بخدمة هذا البلد وكل حسب اختصاصه , وضع حظنا العاثر جيلنا في فترة حرجة من تأريخ العراق مرت بكل أنواع قصص ومونتاج الأفلام الهندية والاميركية والمصرية .. كجيل الخمسينيات نحن, وكذلك أجيال الاربعينيات والى السبعينيات, مررنا والى اليوم بقصص وحوادث تصلح أن تكون مواضيع لأفلام هوليود الحربية والعاطفية والانسانية و لعقود قادمة من الزمن !!
من تلك القصص الكثيرة والتجارب , وبعد أن أستشهد من أستشهد وتأسر وتعوق من اخوتي في الكلية واصدقائي وجيراني في منطقة سكني وغيرهم الكثير من أخوتي العراقيين كافة , تبين لي أن من كان وطنيا بحق ولا يعرف دروب التملق والانتهازية والكلاوات هو الخسران دائما !!!
في الحرب والظروف الصعبة هنالك نوعان من البشر , الاول هو التوجه نحو الدين والثاني هو نحو الهروب من الواقع المر والتوجه نحو شرب الكحول , (و بسبب المستقبل المجهول والتفكير بالعائلة والاولاد والخوف من الآتي لرب العائلة وفشله بتوفير الرزق والراحة بسبب الظروف الغير طبيعية للبلد والحياة ) , دفعت تلك الاسباب الكثيرين الى تلك الحياة التعيسة و هربا من الواقع المزري والطموح الذي قتل وتلاشى بدون أرادة منهم . ( تم تسامي أكثر هؤلاء الناس من الحالة الصلبة الى الحالة الغازية بدون المرور بالحالة السائلة ومثل النفتالين !!!) .
تسرح معظم هؤلاء الاخوة بعد نهاية حرب أيران , وقسم منهم خدموا أحتياط في حرب الكويت كأنهم حصان شغل ومشاريع دائمة للتضحية والاستشهاد في سبيل هدف غير معلوم !! ( الأول الحرب الايرانية كان معلوما أما الثاني فهو غير مفهوم حتى لكبار القادة العسكريين !!؟؟) ..
بعد حرب الكويت وفي أيام الحصار رأى هؤلاء (و من نجا منهم من تلك الحروب ) بأنهم طلعوا (( مالص )) لا سكن لهم ولا تقاعد ولا سيارة ولا تيفو !!!
من بين هؤلاء وأنا كنت أحدهم ولكنني أفضل قليلا لكوني أسكن في بيت مفرز من دار والدي , أصدقاء أثنين , أحدهم أبن تاجر و خريج جامعة مانشستر سنة 1978 بالادارة وخدم في الدروع منذ أصرار والده على عودته سنة 1980 رغم عدم قناعته! , حيث تحول من جامعة مانشستر الى كتيبة الدبابات العاشرة في اللواء العشرين من الفرقة الخامسة ( قيادة قوات محمد القاسم ) وبرتبة ن ع مخابر درع , والآخر كان معي في نفس الكلية وفي كتيبة الاستمكان عند الخدمة العسكرية والاحتياط حيث كان في بط 2 ك مد متو 15 فق مع 3 ( قيادة قوات صلاح الدين ) وبرتبة ن ع مساحة ( ترفعت كل دوراتنا الى ر ع وكل حسب أختصاصه ) , المهم تسرحنا في نفس الفترة وقبل دخول الكويت بأيام وأشهر قليلة وحسب المواليد !! ..
تسرح الاول والمشاكل تركض وراءه , حاول العمل بكل شئ ولم يوفق , توجه الى العرق ( سيد الصنوف !! ) بدأ بالأدمان ( يشرب صباحا ومساءا كنا نسميه اواكس لتحليقه المستمر رحمه الله ) , حاول العمل معقب معاملات في الطابو ولكونه لا يقبل الرشوة ولا يعرفها فلم يتوفق !! حاول العمل مترجما للأنكليزية في أحدى المكتبات ولم يوفق لكونه ليس بخريج آداب أنكليزي وليس لديه هوية للمترجمين , مع العلم أنه كان يتكلم أنكليزي بلبل وأحسن من صاحب دكتوراه من كلية الاداب في اللغة الانكليزية !! بقى حاير بأمره وبأمر عائلته الى يوم الأحتلال وقد ساءت صحته وكثرت أمراضه ومشاكله !
الثاني والده قاضي سابق متقاعد , تزوج في أواخر الثمانينات وبعد أنتهاء الحرب بقليل , سكن في غرفة وملحق صغير في دار والده , كان مسجلا على سيارة في الشركة العامة للسيارات منذ نهاية السبعينيات ( 2000 دينار مقدمة ) , توفق أخيرا بأستلام سيارة برازيلي موديل 1984 ولكونه لم تكن له واسطه فقد أستلم اللون القهوائي ( البني ) الغير مرغوب به من أحدا ... بعد تسريحه أخذ يستعمل سيارته كسيارة أجرة ولكونه أبن قاضي ومعروف وخريج كلية علمية ومن الاوائل, فقد أخذ يعمل ليلا وفجرا على خط العلاوي معسكر التاجي أو العلاوي حامية المسيب أو معسكر المحاويل , وبعد أن يأخذ المقسوم من مزيج ( بطل الجن مع السفن اب ) !!
قبل الاحتلال بأيام قليلة كان الاول قد أشترى كمية و دزينة من العرق أحتياطيا !! وبالدين من محل المشروبات القريب على بيتهم والقريب جدا على أحد بنوك مصرف الرشيد الذي في نفس محلتهم !! بعد أحتلال بغداد تم السطو على البنك من قبل الحواسم ((( أحفاد النمساويين والسويسريين الكفرة ))) , خرج المرحوم الشهم صديقي سكرانا بسكينة المطبخ ظهرا يحاول الدفاع عن البنك ويصرخ بأعلى صوته (( لكم غيره سزيه أكو واحد يبوك بيته ))) , ومنع الكثيرين من سرقة البنك ومع مجموعة خيرة من العراقيين ولكن أخذ البعض يلومه كونه سكران دائما ومطفي وخللي الوطنية تفيدك !!!! بقى في حيرة
من أمره الى أن توفاه الله تعالى في نهاية سنة 2004 بجلطة دماغية من الفاقة والعوز والذل و لم تكن مستشفى اليرموك مهيئة لأنقاذه !! كونه !!!!!
الثاني بيته قريب من أحد الدوائر المهمة والبيوت الرئاسية , سيارته البرازيلي صارت مثل الهيكل العظمي ( صوندة لتبخير الدهن محورة بجانب بطيخة الصالصنة و بسبب أستهلاك المحرك ) , وقف ضد الحواسم السراق بمسدس والده البرونك أبو الشعار الملكي نمرة 13 , ومنع السراق من هدفهم وهو واضعا نص جن في جيب دشداشته الايسر والمسدس في الجيب الأيمن , ومن ثم سلم بعض المسروقات من تلك الدوائر ومنها أطباق دش وكومبيوترات وغيرها الى جامع قريب , وبعد فترة تم التصرف بها من قبل إمام الجامع وبيعها !!!!! ... بقى في حيرة من أمره , التقينا بعد سنة وهو لا يزال بالبرازيلي ولم يرزق بأولاد وسيارات المنفيست تملأ بغداد , وقال لي ... أبو عبد الله أحنه (( أكبر زو !!! ))) , سيارتي لا تسوى فلسين وحتى لا تجلب لي جواز مزور s ومع زوجتي , خلي الوطنية والشرف تفيدنا , ومن ثم سمعت أنه غادر الى الاردن ومن ثم في مصر حيث لا يزال ينتظر لجوئه وبعد أن ساءت حالته الصحية جدا ....... تلك حقائق عشتها وهنالك من هؤلاء العراقيين الاصلاء الكثير والكثير , ولكن ماذا نقول لأرض تكره محبيها مع الأسف .
1222 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع