بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2024
بلاد الرافدين في عهد ارطبان الثالث الملك الفرثي (١١-٣٨) م
مسكوكة ارطبان الثالث (Artabanus) تم سكها في سلوقيا (Seleucia) ، ويظهر الملك الفرثي يرتدي تاجا ولدية شعر طويل ولحى وعيون واسعة، الجهة الاخرى من العملة كتب اسمه على حافة العملة، وهو جالس على العرش وتقف أمامه إلهة النصر بزيها اليوناني تقدم له صولجان حكم المملكة.
كانت بلاد الرافدين في عهد ارطبان الثالث (Artabanus) الملك الفرثي (Parthia) من ضمن ممتلكات المملكة الفرثية (126 ق.م - 227 م)، وكان ارطبان الثالث قبل استلامه العرش الفرثي أمير من أصل إيراني-يوناني، استلم الحكم بعد ان تخلص من منافسه الكبير الملك فنونس (Vonones) الذي حكم من (8-12) ميلادي، وكانت فترة حكم ارطبان الثالث يسودها السلام بين الأعوام (19-32) م وخاصة بين القوتين فرثيا وروما، ويخبرنا المؤرخ جوزيفوس (Josephus) قصة الأخوين اليهوديين البابليين انيلاي (Anilai) أو حانيلاي (Hanilai)، واسيناي (Asinai) أو حسيناي (Hasinai) اللذان عاشا في مدينة نيحرادا (Neharda) أو نيردا (Neerda) التي تقع على نهر الفرات (وهي ليست بعيدة عن سـﭙار(Sippar) موقع تل ابو حبة في اليوسفية محافظة بغداد)، وكان الأخوين من زعماء اللصوص اليهود البابليين في الإمبراطورية الفرثية، والذين ذكرهم المؤرخ جوزيفوس واشار إلى مآثرهم، فقد كانا من أب معدم، وأم تنسج الستائر وبعد وفاة أبيهم ارسلتهم امهم الأرملة للتدريب على يد حائك، وهي مهنة لا تليق بالرجال، وكثيرا ما كان يعاقبهم سيدهم على الكسل، لذا هربوا وأصبحوا لصوصا أحرارا في منطقة تكثر فيها الاعشاب والقصب والمستنقعات القريبة من نهر الفرات، وهناك جمعوا حولهم عددا كبيرا من اليهود الساخطين، ونظموا قوات مقاتلة، وكانوا يفرضون على التجار ورعاة الماشية أموال تؤخذ بالقوة منهم، والأكثر من هذا أقاموا دولة صغيرة لصوصية على مفترق نهر الفرات.
في أحد الايام وتحديدا يوم السبت، هاجمهم حاكم بابل الفرثي، ولكنهم صمموا على القتال بغض النظر على ان يوم السبت يوم راحة عند اليهود، ومع هذا تمكنوا من هزيمة حاكم بابل تماما لدرجة أن الملك الفرثي ارطبان الثالث كان راغبا في قمع تمرد الاخوين، لكن انتصارهم جعله يغير رأيه وعقد العزم على الاستفادة من هؤلاء اليهود الشجعان للسيطرة على المرازبة (بمعنى الحكام) ومنهم المرزبان حاكم بابل، فطلب لقاء الاخوين وقدم لهما الهدايا لشجاعتهما وعقد تحالفا معهم، ورفع منزلتهما إلى درجة النبلاء، وعهد لهما بالسيطرة على المناطق المحيطة ببابل وكانوا يحتلونها بالفعل، ويمتدح المؤرخ جوزيفوس الملك ارطبان الثالث بانه حكيم، وساد السلام في عهده لغاية وفاته.
شيد الاخوين اليهوديين (انيلاي) و (حسيناي) التحصينات حول دولتهم الصغيرة، واستمرت تلك الدولة الصغيرة مدة خمسة عشر عاما من (18-33) ميلادي، وكان سبب سقوطها هو زواج أنيلاي من أرملة جنرال فرثي، الذي سبق وان تم مهاجمته وقتله في المعركة، وتسامح انيلاي مع دين زوجته الاجنبية، لكنه واجه التعصب الديني لقومه اليهود مستخدما العنف ضدهم، فهرب بعض أتباعه وسادت الفتنة والشقاق بينهم، ويبدو ان زوجة انيلاي تكرة حسيناي اخو زوجها ربما لتعصبه الديني فقامت بدس السم وقتلته، فتولى أنيلاي قيادة قواته بنفسه، وسعى إلى صرف انتباه اتباعه بالحروب والسرقة، ولكنه وقع في خطا كبير فقد نجح في أسر ميثرداتس (Mithridates)، الحاكم الفرثي في بابل وصهر الملك ارطبان الثالث، ومع ذلك أطلق انيلاي سراح ميثرداتس خوفا من أن ينتقم ارطبان الثالث من اليهود البابليين إذا ما قتل صهره، وسرعان ما عادت الحرب مع ميثرداتس حاكم بابل فانهزم انيلاي وأُجبر على الانسحاب إلى غابات القصب والاحراش، حيث عاش هناك يمارس نهب القرى البابلية حول مدينة نيردا، حتى استنفدت موارده واختفت دولة اللصوص الصغيرة.
تعالت حدة الاستياء البابليين اتجاه اليهود، فسابقا كانوا يشعرون بالخوف من أنيلاي، فاندلعت المواجهات ضد اليهود، مما دفع بهؤلاء إلى الفرار من الاضطهاد إلى مدينة سلوقية (Seleucia) القريبة من مدينة طيسفون (المدائن بالقرب من نهر دجلة المعروفة بين عامة الناس باسم سلمان باك)، ومع هذا لم يحصل اليهود على السلام المنشود في سلوقيا أيضا، واشتدد الضغط الفرثي على انيلاي ولم يذكر المؤرخ جوزيفوس كيف كانت نهاية انيلاي؟ من المحتمل مات في منطقة المستنقعات بين القصب والاحراش بعد ان فرض عليه الحصار في كل مكان.
بعد ان انهى ارطبان الثالث الملك الفرثي تمرد الاخوين اليهوديين حدث تمرد اخر أقل حدة من قبل مجموعة عرقية عرفوا باسم المندائيين (Mandaeans) أو المغتسلة، وذكر الباحث (Ethel Stefana Drower) في بحثه (المندائيون في العراق وإيران: طوائفهم وعاداتهم وسحرهم وأساطيرهم وفولكلورهم، أكسفورد، 1937) بان ارطبان الثالث هجر المندائيين (Mandaeans) (يطلق عليهم في العراق الصابئة) من جبال (ميديا) أو ربما مدينة (Madai) التي تقع في غرب ايران، وقد تكون موطن ارطبان الثالث أو تقع بعيدا في الشرق واسكنهم في منطقة العمارة في بلاد الرافدين، على اية حال كان عهد ارطبان الثالث طويل وكان ملكا قويا فقد استعاد السلطة المركزية من النبلاء، وحقق نجاح دبلوماسي في أرمينيا (Armenia) ربما محاولة منه لجعلها تحت سيطرته، وساد السلام في ربوع مملكة فرثيا (Parthia).
3154 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع