د.ضرغام الدباغ
العدد : 405
التاريخ : أيلول / 2024
الطيور
وأنا أسكن في أعلى طابق في بناية وسط غابة تقريباُ مترامية الاطراف، والبناية ترتفع عن الأرض بنحو 70 متراً، بحيث يكون الطابق الأخير يعلو فوق قمم الأشجار بعشرات الأمتار وعلى مد البصر .. منظر جميل أخاذ، يدعوك للتفكير والتأمل في موضوعات عديدة.
الملاحظ وهذا يصعب تفسيره، أن الطيور : الحمام البري، والروشن حمام الغابة، والغربان بأنواعها: الأسود والرمادي، والعقعق الجميل (الأبيض والأزرق الغامق) وما زلت أذكره منذ طفولتي في دهوك عام 1949، ، التي لا أعلم أين تبني أعشاشها، تطير في أيام معينة بكثرة ملفتة للنظر، ولكنها تكاد تختفي في أيام أخرى. لا أدرى أن كان هذا يحدث في أيام الرقود على البيض، ولكني أعلم أن موسم التكاثر عند الطيور مفتوح وليس له مواسم محددة. ربما أن أيام الربيع والصيف توفر الغذاء بكثرة للطيور على الأرض فلا تحتاج أن تبحث عنها في السماء.
كتبت مرة، أني مسحور بطيران النوارس المذهل، بل هي من هواياتي، حتى حين كنت في الوطن، ومكاني المفضل هو شارع أبو نؤاس،، أو جسر الصرافية ومنها صوب الاعظمية حيث أتذكر سنوات شبابي هناك كان كل شيئ جميلاً، حتى الصعوبات والمشاكل، لكن أمنياتنا كانت صغيرة وسهلة، وكنا في عصر اكتشافاتنا المذهلة ...! كنت وما زلت لا أمل من النظر للنوارس وهي تمتطي التيارات الهوائية التي لا تشاهد بالعين، ولكن تدرك بالعقل، وتعلو وتهبط دون الحاجة لتحريك جناحيها، مستمتعة بأجنحتها فالطبيعة منحتها أجنحة واسعة، وجسماً مغزليا جميلاً يساعدها على الطيران الأنيق الرشيق. ومنقاراً صلباً قويا لا يعصى عليها شيئ. وأتذكر كثيرا فيلم الطيور لهتشكوك، الذي شاهدته أظن عام 1963 في سينما الخيام،
يصادف أحياناً أن أشاهد هدهداً ماراً من هنا على عجل، فهو مراسل حربي مهمته نقل البرقيات المستعجلة ...! ومرة شاهدت ببغاء يطير وبالتأكيد كان قد أفلت من قفصه، فرحا بحريته هنأته عليها، ولا أدري هل يمكن أن يعيش في هذه الأجواء الباردة، فسرعان ما سيحل موسم البرد والثلوج، ولكن مع ذلك هذا لا يبرر البقاء والغريد والثرثرة داخل قفص محكم، فالموت في الحرية أجمل. القبول بالعبودية هو أسوء الخيارات.
سجن معي مرة في زنزانتي، معلم طيار أعتقد كان بارعاً، ولكثرة ما حكى لي عن الطيران، صرت أعتقد أن بوسعي أن أصعد على طائرة، وأشغلها وأطير بها ...ومن جملة ما رواه لي، أن ما يحمل الطائرة الحديدية، التي تزن مئات الأطنان(أكثر من 412,775 كيلو غرام) إلى الهواء، وبوسعها ممارسة الألعاب الجوية، والهبوط بسلام، هو الجناحان ...(يبلغ باع جناحا طائرة الجمبو (59و64 متراً) وقد تشاهد طائرة الجمبو ضخمة جداً وتسأل نفسك كيف تطير، تقلع الطائرة بسهولة وأحياناً حتى بمدرجات قصيرة اعتماداً على سعة الجناح، طولاً وعرضاً بالدرجة الأولى ثم على قوة محركاتها. ولذلك تجد الطائرات المثلثة الجناح (الدلتا) تكون سريعة، ولذلك لاحظ أن العصفور الصغير على صغر حجمه إلا انه لا يعتبر من البارعين بالطيران، في حين تعتبر النسريات والصقريات التي تتمتع (غالباً) بحجم كبير، ولكن بباع جناحان واسع، قد يبلغ ال3 أمتار وأكثر ..! قرأت مرة، أن النسر شوهد محلقاً أعلى من جبال الهملايا ... فتخيل ...!
حين تراقب الطيور تكاد توقن أنها تملك راداراً، وإلا كيف ل تصطدم ببعضها حين تطير أحيانا بمجاميع تصل للمئات (الزرازير خاصة) ، أو حين تطير طيرانا متعرجاً بسرعة بين الأشجار ولا تصطدم بها ... وإذا افترضا أن هناك جهازا استشعاريا لدى الطيور، فلابد أنه صغير جداً بقدر حبة عدس واحدة، لأن مخ الحمامة كله لا يتجاوز حبة حمص واحدة ..! ثم الطيران وحركة الأجنحة تحتاج لطاقة كبيرة، وجهاز تنفس (رئة) وقلب بمستوى عال من الأداء ...في حين أن قلبها ورئتها صغيرة جداً قياسا لمهامها الكبيرة ..
أما ذكاء الحمام في الاستدلال على وكره، فأمر مدهش لأقصى درجة. فقد حدث أن أطلقت حمامة من مدينة بخارست / عاصمة رومانيا، ووصلت الحمامة لوكرها في بغداد ...! والعبرة هنا لا تكمن في الطيران لمديات بعيدة، بل كيف أستطاع قراءة الخريطة والعودة للوطن ...؟ حقا العودة للوطن لا تحتاج لخريطة، بل ضع سماعة على قلبك وأستمع لدقات القلب فتعرف طريقك، ألا نستغرب كيف يفقد بعض الناس بوصلتهم ...!
وأطلق صقر من مدينة جوهانسبرغ/ جنوب افريقيا، ووصل إلى فنلندة، والمدهش أن الصقر يتجنب الطيران فوق البحار، وهذا الصقر قطع القارة الأفريقية وصولاً لشمال مصر، ثن أنحرف يميناً فطار مع بموازاة الساحل السوري حتى تركيا، ثم انحرف يساراُ إلى بلغاربا ورومانيا وبولونيا وصولاً لفنلندة ..وهذه خطة طيران مدهشة بالكاد يدبرها طيار ماهر....! مسار هجرة صقر مثبت عليه شريحة مرتبطة بالاقمار الصناعية.. قطع عشرة آلاف كيلومتر في 46 يوم .. (بمعدل : 217 كم يومياً)من شمال أوروبا إلى جنوب افريقيا لاحظ كيف تجنب عبور البحر المتوسط كما تجنب أيضاً عبور جنوب مصر وشمال السودان محلقاً بمحاذاة الساحل لتجنب الحرارة وقلة الغذاء
وبالطبع، أن سرعة الطيور تتقلص كلما طالت المسافة، وكمثال على ذلك: يبدأ الصقر (وهو أسرع الطيور) الطيران بسرعة تبلغ 137 كم / سا، ولكنه بعد طيران أكثر من 299 كم، تقل سرعته إلى 102 كم / سا. وهكذا نزولاً، وحين تفوق المسافة التي يطيرها عن 1600 كم، التعب والإنهاك يخفض سرعته ولا تتجاوز 11 / من سا.
والحمام بنوعه الزاجل يعتبر من الطيور السريعة والطويلة الطيران، وانه يطير بسرعة يتراوح معدل سرعته من 56 كلم إلى 65 كلم / سا. لأن هذا المعدل يقل بالطيع في المسافات البعيدة. وكذلك عمر الطائر. إذ يبلغ متوسط المسافة التي تستطيع الحمامة الصغيرة (التي يقل عمرها عن سنة) أن تجتازها بنحو 160 كلم ، ومتوسط مجموع المسافة إلى تجتازها الحمامة التي عمرها سنتان فأكثر نحو 320 كلم ولكن هناك الكثير من الحمام يقطع أكثر من ذلك .. وكل هذا هي تقديرات فقد قيل ان حمامة زاجل قطعت مسافات طويلة جدا .. مرة مسافة 1920كلم، وقيل عن حمامة أخرى أنها قطعت 1664 كلم ".
ويعمد مربوا الحمام الزاجل إلى تدريب طيورهم على الطيران لفترات طويلة، ولكن هذا ينبغي أن يتم على أيدي مدربين اختصاصيين، وإلا فقد تعجز الحمامة عن الطيران، أو تسقط أعياء، أو تصبح فريسة لطيور الجوارح.
1339 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع