د.محمد عياش الكبيسي
تأثر العراق بأجواء الربيع العربي بأسرع مما هو متوقع، رغم أن العراقيين لم ينتهوا بعدُ من أشرس منازلة خاضتها المقاومة في المثلث أو المستطيل السنّي، والتي أدّت إلى إنهاك الطرفين واختلال المعادلة لصالح القوة الإقليمية الكبرى في المنطقة، والتي رأتها فرصة تاريخية لتمرير مشروعها الإمبراطوري التوسعي، وربما فرصة للانتقام أيضا لمخزون عميق وكبير من الكراهية والحقد ضد العرب عامة والعراقيين منهم خاصة.
انطلق الربيع العراقي في المحافظات نفسها التي احتكرت شرف المنازلة ضد الغزاة الأجانب، ورغم حصول حالات من التحرك ضد الحكومة في بعض المناطق الجنوبية فإنها بقيت صغيرة ومجزأة وقصيرة الأمد، ليبقى الحراك سنّيا عربيا بامتياز كما كانت المقاومة، وهذا فارق جوهري كبير بين الربيع العراقي وبقية الربيع العربي، وهو لا شك يتناسب مع طبيعة الساحة العراقية والتحديات المختلفة التي يواجهها العراقيون، فالعراقيون لا يشكون من استبداد الحاكم وفساد المؤسسات وكبت الحريات بقدر ما يشكون من تغلغل إيراني صارخ عبر حكومة مشكلة ومفصّلة على قياس الولي الفقيه، وهذا يعني أن الربيع العراقي هو فصل من فصول المقاومة وإن اختلفت الآليات والأدوات، وأن العراقيين ما زالوا يخوضون معركة الهوية والاستقلال والدفاع عن عقيدة الأمة وتاريخها وكرامتها وإن تغيّرت وجوه الغزاة وعناوينهم، وهذا ما لم تقدره الأمة لهم، حيث ما زال الكثير من العرب ينظر إلى ما يجري في العراق اليوم على أنه وجه من وجوه الفتنة الطائفية، والعراقيون أيضا قد اضطربوا في التعبير عن قضيتهم نتيجة لتعقيد المشهد وكثرة المداخلات والمجادلات وتشابك المشاريع الداخلية والخارجية حتى صار العراق مرتعا خصبا لكل طامح وطامع، وربما يكون العرب هم الطرف الوحيد الذي يصر على الزهد وتجنب المنافسة المشروعة وغير المشروعة.
العراقيون لم يعتادوا النزول إلى الشارع للتعبير عن مواقفهم ومطالبهم، فهم أهل السلاح والقتال كابرا عن كابر، وقد شبّ هذا الجيل وشاب على الحروب من سنة 1980، حيث اندلعت حرب الثماني سنوات وإلى اليوم، في سلسلة متصلة لا تكاد تقف حرب إلا وأنجبت حربا أخرى وهكذا، وحينما كنت أراقب الأمواج البشرية المتدفقة على ساحات الاعتصام كنت أخشى من حرب جديدة لا تبقي ولا تذر، إلا أن اللجان المنظمة لهذا الحراك والمسؤولة عن المنصات وساحات الاعتصام قد تمكنت بالفعل من ضبط الإيقاع بما يتناسب مع الثقافة الجديدة، والتي عززتها تجارب الربيع العربي.
إن القرار المحكم والحكيم الذي اتخذته اللجان أن ساحات الاعتصام لا يمكن أن تتحول إلى ساحات حرب مهما كانت الظروف ومستوى الاستفزازات التي تقوم بها حكومة المالكي والميليشيات المرتبطة بها، وكان التحدي الخطير الذي واجه هذا القرار هو قيام القوات الحكومية بعدة مذابح بشعة في الفلوجة والحويجة وديالى، وكان الشباب يقاطعون الخطباء ويهتفون (حربية..حربية) ردا على دعوة الخطباء (سلمية..سلمية)، لكن الذي يسجل لهذه اللجان ولخطباء المنصات قدرتهم على حفظ التوازن وامتصاص الزخم العاطفي والتعبوي لهؤلاء الشباب، وقد أثبتت التجربة أن الساحات التي تأثرت بذلك الخطاب قد أغلقت تماما، وخرجت عن دائرة الحراك، كما حصل لساحة الحويجة في كركوك ولساحة الأحرار في الموصل رغم وجود حالة من الحراك المقبول في عموم المحافظتين.
لقد حاول البعض تشويه اللجان واتهامها بالتميّع وإيثار غير ذات الشوكة، وهذا أمر متوقع في ظل الثقافة العراقية التقليدية وربما يضاف لها شيء من المزاحمات والمنافسات السياسية والشخصية، إلا أن هؤلاء يفتقرون إلى المصداقية، فاللجان لا تستطيع أن تمنع أحدا من حمل السلاح والدفاع عن نفسه ودينه وعرضه، واللجان لا تسيطر إلا على منصات الاعتصام والساحات المحيطة بها، وفي هذه الساحات لا وجود للمالكي ولا لقواته أو ميليشياته، كما أن ما تقوم به اللجان من فضح الحكومة وممارساتها وأشكال الفساد فيها والدعوة للانتفاض بوجهها لا يمثل عائقا للمقاتلين أو المجاهدين، بل ربما يمكن توظيفه بيسر باتجاه التصعيد الذي ينادي به هؤلاء، وهذا أمر معهود ومعروف في كل الثورات، أما الإصرار على تحويل ساحات الاعتصام وهي تضم المئات من الآلاف من شيب وشباب وصغار إلى ساحات حرب فهو لا شك يفتقر إلى الشعور بالمسؤولية بكل أبعادها، وحتى الأخلاقية منها، كما أنه ينم عن حالة من الضعف والعجز الذاتي.
إن الاعتصامات والحشود الجماهيرية لا يمكن إلا أن تكون أداة ضغط سياسي على الأنظمة، وهذا قد تحقق بالفعل، وما زال رأس النظام حائرا ومضطربا، فمرة يسب ويشتم ويهدد ببحر من الدماء، ومرة يتعهد بتنفيذ جميع المطالب، ومرة يضطر لتوقيع (ميثاق الشرف) وهو اعتراف ضمني بخلو الوعود والمواثيق السابقة من هذا الوصف، هذا الضغط ينبغي أن يستمر كأداة قوية لإحراج المالكي سياسيا وأخلاقيا، ولا بد للجان أن تضاعف من قدراتها الحشدية وأن تطور من وسائلها وأساليبها لكي ترقى بالقضية إلى مستوى الاهتمام الإقليمي والعالمي الشعبي والرسمي.
إنه ليس من مهام اللجان إعلان الحرب على الحكومة، ولا حتى تطبيق النظام الفيدرالي وإعلان إقليم الوسط أو الإقليم السنّي وما إلى ذلك، ولا أي قرار مصيري آخر، فهذا كله أكبر من اللجان وقدراتها، وهو خارج صلاحياتهم أصلا، بل هو بحاجة إلى توافق جماهيري عام، وغاية ما يدخل في مهام اللجان هو عرض الخيارات المتاحة على الجمهور والتوعية بمآلاتها وتداعياتها، وترك القرار للجمهور، وهذا ما فعلته اللجان بالضبط.
إن ردود الفعل الطبيعية على استفزازات المالكي وميليشياته موجودة، وقد بلغت في الأسبوع الماضي مستوى المواجهة المؤثرة، حيث تم إسقاط طائرة مروحية على تلال حمرين، وهذا تطوّر خطير وهو رسالة قوية موجّهة للمالكي ومن يقف خلفه، إلا أنه ليس من المعقول أن نزج بساحات الاعتصام في مثل هذه المواجهات، ولا حتى أن نطلب من اللجان بيان موقفها في مثل هذا، أما الحلول السياسية وهي الأقرب إلى طبيعة الساحات فإن هناك تناميا في الوعي بضرورة انتزاع أكبر قدر ممكن من الصلاحيات ومحاصرة النظام المركزي الاستبدادي بكل الوسائل المتاحة، ولا شك أن اللجان كان لها الدور الفاعل في هذا الوعي.
إن محافظة اللجان على هذا التوازن لتسعة أشهر رغم كثرة الإشكالات والعقبات ينم عن قراءة صحيحة لطبيعة المشهد ولخارطة الصراع فيه، وقدرة جيدة على الإدارة والتنظيم، وإنه لمن المؤسف أن تتعامل مؤسساتنا العربية الرسمية وغير الرسمية بشيء من الغفلة أو التجاهل لهذه التجربة الثرية، وقد التقيت الأسبوع الماضي بالدكتور محمد طه حمدون وهو المشرف على ساحة سامراء والناطق الرسمي باسم الحراك في المحافظات الست، وقد أثار تساؤلا مشروعا أن الإعلام العربي قد تجاهل الحراك واللجان الشعبية، مع ما للجان هذه من دور واضح في إدارة الحراك وتنظيم الساحات وتحديد المطالب والمراحل، وحتى اختيار التوقيتات والمناسبات وأسماء الجمع.
صحيح أن الحراك لم يحقق للمحافظات المنتفضة مطالبها أو حقوقها، وهو ليس مثلبة بحقه في ظل اختلال توازن القوى، والتغلغل الإيراني العميق، والإهمال العربي والإسلامي، إلا أن الحراك تمكن بالفعل من إحياء الهوية الأصيلة وترسيخها في أشد موجة تشويه ومسخ تتعرض لها هذه الهوية، كما تمكن من حشد الجماهير بطريقة غير مسبوقة في تاريخ العراق كله، مع القدرة على ضبط التوازن المعقد وتحويل الحراك إلى محضن كبير لمختلف النشاطات والفعاليات السياسية والثقافية والتربوية.
736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع