بقلم : جابر رسول الجابري
التحريف و التأويل
*المقدمة :
في البداية لابد لنا ان نفهم معنى التحريف ومعنى التأويل ليتسنى لنا ادراك كنه الموضوع ،
*التحريف مصطلح لغوي يعني الميل أو العدول أو الإنسلاخ عن الأصل ،
وهو مصدر لغوي لكثير من الكلمات باللغة العربية مثل (الحرفة، الإحتراف ) اي الصنعة وتعني إبتكار أمر غير طبيعي ،
و أيضا هو مصدر ( الحرف من الكتابة ) الذي يعتبر هو عمود صناعة الكتابة وسبب وجود التأريخ وتطور البشرية ،
ونلاحظ أن هذا المصدر اللغوي ( تحريف ) في حالة حصول تبديل لبعض حروفه سيبقى معنى المستحدث ضمن إطار معنى المصطلح الأصل ، فمثلاً عند وضع نقطة تحت حرف الحاء ليصبح حرف جيم تصبح الكلمة ( تجريف ) و معناها ايضا التغيير في شكل الأصل والقيام بتصغير حجم الأصل وإنقاصه ، أما إذا رفعت النقطة من حرف الجيم ووضعتها في أعلاه ليصبح الحرف خاء فتكون الكلمة المستحدثة ( تخريف ) ليبقى المعنى أيضاً هو العدول والانحراف عن الواقع ومنطق العقل ،
** أما مصطلح التأويل فيعني إظهار وبيان أصل الموضوع قبل التغيير أو الوصول لحقيقة وأسباب نشوء الأصل ،
إن كلمة آل ، أولي ، مفردات لغوية تعود لمصدرها اللغوي ( أول ) ، هذه الكلمات لا تُقال بمفردها دون الإشارة إلى أولها المنسوبة اليه ، فالقول ( آل فلان ) تعني جماعة يعود أصل نسبها لفلان ، و كذلك ( أولي بأس ) تعني جماعة يملكون صفة الانتماء للبأس ،
البعض قد يظن أن كلمة ( آل) و كلمة (أهل) هما مصطلحان يشتركان بمعنى لغوي واحد لكن في واقع الحال أنهما مختلفان ، فكلمة آل كما أوضحنا تعود نسبا وانسلاخاً عن الأصل ( منشأها ) في حين أن كلمة ( أهل )تعني جماعة ترتبط صفتها بمرجع تعيش تحت كنفه ليكونوا معه كمعية ، فليس هناك شرطا ان تعود تلك الجماعة نسبا لنفس نسب ومنشأ المرجع الموصوف و لكن هم مرتبطون معه بأواصر و صلات ،
ومثال على ذلك ( أهل الذكر ، أهل الدار ، أهل العلم ، أهل القرية ) فكل أولئك قد لا ينتسبون لمرجعهم المنسوبين إليه ( القرية ، العلم ، الذكر ) عند النشوء لكنهم يعيشون معه كمعيه له ، ولهذا وصف الرسول العربي الصحابي سلمان الفارسي الذي لا ينتسب بنسبه بأنه ( سلمان منا أهل البيت ) ولم يقل (سلمان منا آل البيت ) ،
مصطلحي التحريف والتأويل هما مصطلحات فلسفية فكرية نسبية لتقييم موضوع ما ، تلك المصطلحات يعتمد وجودها عندما تظهر حاجة لجدل فكري لتفسير و معرفة حقيقة نص كتابي أو حديث مروي أو سرد تاريخي لحدث فعندها يتطلب الأمر معرفة مسار التغييرات التي حدثت على الأصل ، لكن في واقع الحال غالباً ما نصطدم بمعضلة عدم توفر توثيق نصي للأصل لاستخدامه كمرجع لنستطيع أن نقارن بين الأصل والمُحرّف ونتعرف على التغيرات التي طرأت عليه .
**المرضوع :
إختياري لمصطلحي التحريف والتأويل معاً كبحث فلسفي لأن الأثنان يدوران حول محور واحد ألا وهو أصل الحدث والمستحدث ومسار كل منهما ، إلا أنهما متعاكسان في الإتجاه أي أن مسار التحريف يتجه من الأصل بإتجاه المُستحدث أما التأويل فإنه يتجه مَن المستحدث بإتجاه الحدث الأصل ،
الإنسان بطبيعته مُتغير مُتقلب خلال مسيرة حياته سلوكاً وتفكيراً ،
لذلك نجد أن كل ما يتعلق بالإنسان هو أيضا متغير ، ومن تلك المتغيرات ( التفكير ، الكلام ، الظن، السلوك ، نمط العيش ، أكله ونهجه ) تبعاً للظروف المحيطة به أو ليتعايش مع الواقع الحياتي و لذلك كل ما له تماس مع تلك المسميات سيكون عُرضة للتغيير أيضاً ( لهذا يدعُ المؤمن ربه بأن يثبته على حالة الإيمان ، أو التغيير لحالة الإيمان عند الخاتمة ) وسواء كان الفكر ( سياسي فلسفي ديني قانوني إقتصادي وطني ) لابد له ان يتغير يوما وينحرف عن مساره او صياغته التي نشأ عليها أو أقل ما فيها تغير أجزاء منه لتتخذ هدفا قد يختلف عن هدف الأصل الذي نشأت عليه ، ومثال على ذلك تغير نهج الفكر السياسي سواء الشيوعي ، القومي ، الرأسمالي ، العولمة كل ذلك يتغير عن أصل نشوءه وعن الأهداف التي نشأ لأجلها وذلك بسبب تطور وتغير ظروف الحياة ووجوده ولذلك تتطلب الحاجة لجعله ملائم لذلك الحاضر ، فتفكير وسلوك الأجيال الحاضرة دائما يختلف عن تفكير وسلوك وثقافة اجيال الأمم السابقة ( تلك امة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ، وقال العرب مثالا على ذلك ( لا حال يبقى على حاله ) فحتى الدول والدساتير والقوانين والأنظمة بل حتى الكون والخلق كل ذلك متغير وكل ذلك له بداية وله نهاية ، قد يحصل في مسار أي حدث هناك فترات ضعف أو اضمحلال أو فترات قوة وإشراق لكن لكل حدث نشوء وحياة ونهاية أي لا خلود له ، كذلك الدين والشرائع تتعرض للتغيير سواء بسبب وجود حاجة لتطويرها لأن الإنسان تطور لتكون مناسبة لحياته أم بسبب الإختلاف في تأويل الشريعة ( دائماً يبدأ ضعيفا ثم يعود من بعد قوة ضعيفا ليتحول إلى نهاية مساره ( وحيث لا يعلم التأويل إلا الله ) ، لذلك راح الإنسان إلى الاستناد والإعتماد على ظن المفكرين أو الفقهاء كبديل لتحسس طريق مساره في الدين ،
ولهذا السبب إنشطرت الشرائع لمذاهب وتفرعت حتى المذاهب لعدة تسميات بالرغم من أن هدفها واحد ألا و هو تبليغ الإنسان أن له خالق ووجوده ليس عن عبث وأن حياة الدنيا على الارض إن هي إلا رحلة وأن هناك حياة آخرى ما بعد الموت وعليه واجبات كما له حقوق وأن جسده أرضي وأن الروح ستعود لخالقها ،
التحريف كما أوضحنا يعني التغيير أو نسخ لموضوع الأصل أو جزء منه سواء بسبب تغير الظروف أو تغير في ظروف و نهج التابعين وهذان السببان هما وحدهما كفيلان باستحداث حالة التغيير و الأنحراف أو التعديل عن الأصل و سواء بتحريف مسار الأصل أم بإنحراف مسار أهل الأصل (التبعية) فقد حصل التغيير ،
وقد تكن هناك حاجة تدفع السلطة الحاكمة لتحريف أحداث لجعلها تتعايش وتتماشى مع أهداف وفكر السلطة الحاكمة ،
أيضا مثلا على نهج التحريف هو تعديل قانون أو دستور دعت الحاجة ليكون ملائم ومناسب لمسار مرحلة زمنية جديدة أو بسبب عدم ملائمة ذلك القانون للأجيال الحالية في حين كان سابقاً ملائما للأمم التي نشأ عندها ،
المشكلة العويصة التي تطرأ دائماً عند دراسة التأويل أو دراسة التحريف هي فقدان النموذج الأصل كمستند لعدم توثيق اصل الحدث سواء سرد تاريخي أو حديث لكي يكون شاهدا ومرجعا يثبت أن هناك وجود تحريف أو لنتمكن من عمل مقارنة بين الإثنين لنكتشف مدى ومستوى الانحراف الذي حصل في الأصل لكن فقط توفر آراء الكتاب والموثقين حول الحدث الأصل أو الحديث ، وبما أن الإنسان ليس بمعصوم عن التحريف والإنحياز الى رأيه لا يمكن اعتبار رأيه هو الحقيقة والأصل ،
ولمن يعتقد مثلا أن نهج المسلم وفقاً لشريعة القران ثابت كمنهج كما كان ينهجه الأولون عند التنزيل نتسائل معه :
إذا لماذا نبه الله المسلمين في القرآن إلى موضوع انحراف مسار المسلمين عن نهج القرآن حيث تركوه وجعلوه مهجورا
ولجأوا إلى كتبهم التي هي آراء فقهية أي فلسفية ( وقال الرسول يا رب إن قومي إتخذوا هذا القران مهجورا ) حيث لا يوجد رسول عنده قرآن إلا رسول الإسلام ،
إذن ليس شرطا ان ينحرف النص فقط لنقول أن هناك تحريف بل أيضا عندما ينحرف نهج التبع عن نهج النص فعندها سنسجل أن هناك وجود انحراف ، والنتيجة واحدة ألا وهي تغير السلوك البشري لأن الفكر هو من يقود سلوك الإنسان و هو ما يرمي له الدين، إذا التغيير سواء قد تغير النص أم تغير السلوك فكلاهما يعني إنحراف وخروج عن الأصل ، والسبب هو الاعتماد على تأويل المنهج والشريعة وفق رؤية الفقيه الفكرية بالاعتماد على ظنه بصحة البراهين المتوفرة لديه واعتبار غيرها كذب وتحريف ،
لهذا نجد ان الأديان قد انشطرت إلى مذاهب ونحل وملل وكل ملة أو نحلة تعتقد بأنها الأصل والصواب وعداها مُحرف ومُبتدع عن الأصل .
**************
المصادر :
١- مقارنة الأديان/
دكتور محمد احمد الخطيب
٢- فقه السُنة /
للسيد سابق
٣- فقه المذاهب الخمسة/ محمد جواد مغنية
٤- الملل والنحل /
الشهرستاني
٥- رؤية الكاتب وفلسفته عن معنى التحريف والتأويل ومسببات نشوءه
****************
المملكة المتحدة - الرابع عشر من نيسان 2025
1098 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع