د. جمعه الغزي
اليهود وتجارة الأقمشة في مدينة العمارة.....
تُعد التجارة من أهم ركائز تطور المدن، فهي تمثل وسيلة لانتعاش الاقتصاد وتلبية احتياجات السكان، وقد كانت مدينة العمارة منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر مركزًا تجاريًا نشطًا، ازدهرت فيه عدة مجالات مثل الزراعة والحرف والصناعات التقليدية. ومن أبرز الأنشطة التي لاقت رواجًا واسعًا تجارة الأقمشة، نظرًا لما لها من أهمية أساسية في حياة السكان اليومية.
وقد لعبت الطائفة اليهودية في العمارة دورًا بارزًا في هذا المجال، إذ امتلك بعض تجارها مهارة وسمعة واسعة في تجارة الأقمشة، مما جعلهم جزءًا مهمًا من الحركة الاقتصادية والاجتماعية في المدينة.
كرجي إسحاق وزوجته "كرجية"
من بين الشخصيات البارزة في تجارة الأقمشة بمدينة العمارة، برز التاجر كرجي إسحاق وزوجته "كرجية". كانا يقيمان في محلة "التوراة" (المعروفة محليًا بمحلة القادرية)، حيث امتلك كرجي مخزنًا للأقمشة، واشتهر بلقب "أبو الأقمشة".
اعتمد كرجي في تجارته أسلوب البيع بالأجل؛ حيث يدفع الزبون ربع القيمة مقدمًا، ويُقسط المبلغ المتبقي على فترة ثلاثة أشهر، وهو ما عزز إقبال الناس على التعامل معه. كما كان يتجول بين محلات العمارة وسوق السراي، عارضًا بضاعته على الأهالي.
أما زوجته، فقد شاركته النشاط التجاري من خلال بيع الأقمشة من منزلهما، حيث اعتادت نساء المحلة على قصدها لشراء قطع الأقمشة المطرزة يدويًا، إضافةً إلى المفارش والستائر التي كانت تُعدّها بنفسها. وهنا يظهر بوضوح المزج بين المجالين الأسري والتجاري، وهو سمة مهمة في النشاط الاقتصادي لليهود في العمارة.
التاجر روبيل ونهايته المأساوية
برز أيضًا التاجر اليهودي روبيل، الذي عُرف بتجارته المتنقلة بين محلات العمارة وأريافها. كان يعرض الأقمشة والملابس على أبناء العشائر بالبيع بالتقسيط، وهو أسلوب ابتكاري عزز رواجه لدى مختلف شرائح المجتمع. غير أن رحلاته التجارية انتهت بمأساة، إذ تعرض في إحدى جولاته إلى هجوم من قطاع الطرق الذين قتلوه وسرقوا ما بحوزته من أموال وأقمشة، ثم ألقوا جثمانه في نهر قريب.
لقد عكست حادثة روبيل المخاطر التي كان يواجهها التجار أثناء تنقلهم بين الأرياف والقرى، كما أبرزت في الوقت نفسه حيوية الدور الذي لعبه اليهود في تنشيط السوق المحلي من خلال جلب الأقمشة والملابس إلى أماكن بعيدة عن مراكز المدن. وهنا يتضح أن تجارتهم لم تكن مجرد نشاط اقتصادي عادي، بل كانت جسرًا للتواصل بين سكان العمارة وأبناء العشائر في الأرياف، ما جعلهم جزءًا أصيلًا من النسيج التجاري للمنطقة.
إن دراسة نشاط اليهود في تجارة الأقمشة بمدينة العمارة تسلط الضوء على جانب مهم من تاريخها الاجتماعي – الاقتصادي. فقد كان اليهود جزءًا بارزًا في الحياة الاقتصادية، وأسهموا في تلبية حاجات المجتمع من خلال أساليب تجارية مرنة مثل البيع بالأجل والتقسيط. كما تكشف القصص الفردية، سواء نجاحات كرجي وزوجته أو نهاية روبيل المأساوية، عن طبيعة الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها العمارة في تلك الفترة.
وبذلك، يبقى حضور اليهود في تجارة الأقمشة شاهدًا على التعددية الاقتصادية والاجتماعية التي ميزت تاريخ المدينة قبل منتصف القرن العشرين.
713 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع