مسار متعرج للعلاقات العراقية الإيرانية المشروع الإيراني التوسعي والعقبات التي تعترضه/٢

نزار السامرائي

مسار متعرج للعلاقات العراقية الإيرانية المشروع الإيراني التوسعي والعقبات التي تعترضه/٢

لأنها أطراف ضعيفة في العلاقات الدولية، كانت العلاقات بين البلدان الصغيرة، انعكاسا لطبيعة التحالفات القائمة بين الدول التي تدور في فلكها، والتي كانت قد خرجت منتصرة في الحرب العالمية الأولى، وكانت الأخيرة هي التي تفرض على الدول الصغيرة الخيارات التي تريدها لها، من أجل ضمان ألا يحصل صدام جديد بين المنتصرين.
وحددت الدول الكبرى لذلك إطارا ثبتته في مواثيق دولية، في ميثاق عصبة الأمم ومن بعدها ميثاق الأمم المتحدة، غير أن إيران ما كان لها أن تُسلّم في أي ظرف بما يُمليه عليها الميثاق من التزامات تجاه جيرانها، لكنها مع العراق فقط كانت تتعامل بروح استعلائية، وما كان لإيران أن تتصرف على هذا النحو، لولا الدعم الدولي متعدد الأطراف الذي حظيت به بلاد فارس من الغرب، وعلى نحو خاص من بريطانيا التي كانت اساطيلها البحرية تغطى معظم البحار والمحيطات في العالم، فمساحة إيران ما كانت تتعدى إقليم فارس الذي لا تزيد مساحته عن 122,608 كيلومتر مربع، بينما تبلغ مساحة إيران الإجمالية حوالي 1,648,195 كيلومتر مربع.
وبالتالي فمساحة إقليم فارس كانت تمثل حوالي4/7% من إجمالي مساحة إيران الحالية، ولكن بعد ظهور مؤشرات على توفر النفط في منطقة مسجد سليمان الواقعة في إقليم الأحواز العربي، حسمت بريطانيا كل الخيارات والمقترحات المطروحة على حكومتها من ممثليها المنتشرين في المنطقة تحت لافتات تجارية أو علمية أو آثارية أو بصفة مستشرقين، على وضع هذه الثروة تحت سيطرة بلد واحد وربطه معها باتفاقيات سياسية وعسكرية وتجارية طويلة الأمد.
لقد كان البئر الذي تم حفره في حقل مسجد سليمان، الواقع في إقليم الأحواز العربي، سببا في ضم إقليم الأحواز البالغة مساحته 378 ألف كيلو متر مربع، أي أكثر من ضعف مساحة إقليم فارس وبهذا فقد أُلحِقت هذه المساحة الكبيرة بكيان "فارس" الذي يقل عنها مساحة لتحكي قصة ظلم تعرضت له قضية لم تحض بأي شكل من أشكال الدعم العربي، لأكثر من قرن من الزمان، بل طغت عليها قضايا قومية أخرى كانت تتردد على الألسنة وأجهزة الإعلام على مدار اليوم، مثل القضية الفلسطينية التي لا تختلف مع قضية الأحواز في التكييف السياسي والقانوني وبالمعايير القومية بشيء، إلا أن فلسطين أرض احتلها يهود تم تجميعهم من مختلف أرجاء المعمورة وبوعد بريطاني لهم بتأسيس وطن قومي لهم في أرض الميعاد، بل خاضت سبعة جيوش عربية ضد الكيان الصهيوني عند إقامته، ولكنها خسرت الحرب، وحظيت القضية الفلسطينية بدعم استثنائي، في حين أن الأحواز استُلبت من قبلِ دولة توصف بأنها إسلامية وبقرار بريطاني أيضا ولم يقاتل معها أحد ولم تتبرع لها دولة عربية بأي دعم مالي أو تأييد سياسي.
وبحفر أول بئر في الأحواز "مسجد سليمان" يكون بذلك أول بئر نفطي يتم حفره في منطقة الشرق الأوسط في عام 1908، هذه المنطقة التي ستتحول بعد نصف قرن إلى أكبر خزان نفطي منتج في العالم، وإلى أكبر متحكم بسوق الطاقة الدولية، من تلك اللحظة بدأ التفكير في مكاتب وزارة المستعمرات البريطانية يتجه صوب توسيع ممتلكات بلاد فارس، وذلك بمنحها المزيد من الأقاليم التابعة للمملكة المتحدة فيما وراء البحار، أو غض النظر عن خططها للتوسع الإقليمي، وهكذا تم ضَم إقليمُ الأحواز، الذي كان إمارة يحكمها الشيخ خزعل الكعبي بكل ما يختزن من ثروة المستقبل، فكان لا بد من رسم خطة محكمة للتخلص منه لتكون النهاية المأساوية لهذه الإمارة العربية، وبروز دولة كبيرة المساحة تمتلك ثروة هائلة، وموقعا استراتيجيا وسواحل طويلة، ثروة تدير ماكنة الاقتصاد العالمي لثلاثة قرون قادمة على الأقل، فوقع الخيار على بلاد فارس والتي ستتحول إلى اسم إيران عام 1935، ليوجد لها المبرر لإخضاع المكونات القومية في تلك الدولة، بعد أن كان اسمها القديم يوحي بالانتماء القومي الواحد.
إيران واستنادا إلى هذا الاتساع الجغرافي والسواحل الطويلة الواقعة على البحر العربي والخليج العربي جنوبا وبحر قزوين شمالا، مع تلك الثروة المتدفقة من باطن الأرض، والتي لا يمتلك الإنسان الفضل بتكوينها، وحتى استكشاف مكامنها لا تمتلك دول المنطقة فضلا في ذلك، وكجزء من رد الجميل لبريطانيا ربط رضا خان سياسة بلاده بالمحور الذي تقف على رأسه المملكة المتحدة.
ونتيجة لهذا الدعم الأوربي، سيطر على حكامُ فارس وَهمُ القوة الذاتية الغلابة منذ مطلع القرن العشرين، وبنت حساباتها على مبدأ واحد، وهو أنها ستبقى خيار الغرب المفضل في سياسته الشرق أوسطية، وسيحافظ عليها كبيضة قبّانه في المعادلات الاستراتيجية الإقليمية سياسياً واقتصادياً، مع طموح يفوق مقاسات فارس وحجمها، بأن تكون فكرة قابلة للتنفيذ، لمشروع دولي عابر للقارات، على المستويين الاستراتيجي طويل الأمد وقصيره، ولكن إيران وهي في ذروة الشعور بأن أبواب المجد قد شُرعّت لها، نسيت عاملا مهما أنّ لا قوة سياسية لدولة تبنى من فراغ أو استنادا إلى وعود خارجية، فكل القوى الدولية في الوقت الحاضر ومنذ أن عرف الإنسان شكل الدولة، ما كان بإمكانها أن تتحول إلى قوة مؤثرة في العلاقات الدولية، أو ما يُطلق عليه مصطلح مركز استقطاب دولي، ما لم تتوفر لها العناصر التالية:-
1 – أن تكون ذات تأثير إيجابي مقبول وفاعل في جيرانها وفي القوى الإقليمية، ولها علاقات طيبة معها لا تعتريها أزمات أو خلافات على الحدود أو الثروات، ولا يحصل تدخل متبادل في الشؤون الداخلية.
2 – يجب أن تمتلك قوة عسكرية قادرة على فرض رأيها على جيرانها الأقربين، وتمنعهم من التفكير بشن عمليات حربية ضدها، ثم الانتقال إلى الخطوة التالية وهي التأثير الممتد إلى الأقاليم البعيدة، شرط أن يكون جيشها جيشا مهنيا محترفا، ولاؤه للوطن لا للنظام القائم، وشرط أن يلتزم بالأوامر الصادرة له من السلطة السياسية، كما يجب أن يتم إعداد الجيش عبر تدريب يأخذ بأحدث الأساليب المعتمدة لخوض الحروب الحديثة، وتخريج الضباط من معاهد عسكرية تبدأ بالكلية العسكرية ثم كلية الأركان وتنتهي بكلية الحرب، كما يجب عدم تحكيم المزاج السياسي بمنح الرتب العسكرية، وتفعيل المقاييس العلمية المعتمدة في أقوى الجيوش في العالم، شرط توفر الملاك المطلوب للرتب العليا، ويفضل المزاوجة في مؤسسة الجيش، بين التجنيد الإلزامي والتطوع، لرفد المؤسسة العسكرية بالمقاتلين الجدد بصورة منتظمة.
فلا بد من امتلاك قوة عسكرية لها قابلية الاستمرار لزمن طويل، ويرتبط هذا إلى حد بعيد بما تمتلكه الدول من قوة بحرية تستطيع السيطرة على الممرات الملاحية الدولية، وهذا ما انطبق على بريطانيا التي كانت أكبر دولة بحرية لعدة قرون، حتى أزاحتها الولايات المتحدة من هذا الموقع منذ خروجها من داخل حدودها السياسية لتشارك في الحربين الأول والثانية في أواخر أيامهما، ثم تكرست هذه الحقيقة بامتلاكها لأكبر أسطول حربي في العالم، يضم حاملات الطائرات والغواصات النووية والبوارج ومجموعة الأساطيل التي تغطي البحار والمحيطات، وما زالت عملية تطوير هذه الأساطيل بإنفاق ميزانيات ضخمة عليها تفوق ميزانيات دول مهمة، للحفاظ على التفوق والسيطرة على العالم.
إن المكانة السياسية لا تُصنع من فراغ، أو لمجرد أمنيات لا تستند إلى حاضر مؤثر، وإنما تستذكر أمجاد الماضي فقط من دون إضافة مجد جديد إليه، الحديث في التاريخ المجيد ليس عيبا، ولكن أن تتوقف عنده ساعة الزمن، ولا تغادره لصناعة شيء جديد يصلح لعدة قرون ميدانا لتتغنى به الأجيال اللاحقة، هو وصفة لموت تدريجي لأية أمة تستعيض عن بناء المستقبل بتأليف قصائد التغزل بالماضي.
3 - أن تمتلك منظومة أسلحة متكاملة، تُصّنع داخليا، ولا تحتاج إلى سلاح مستورد يحد من حريتها في التحرك دفاعا عن مصالحها، أو تنفيذا لخططها الخارجية، مع ضرورة إيجاد مراكز للبحث العلمي في مجال تطوير الأسلحة استنادا إلى تجارب العالم المعاصر في الحروب الحديثة، إلى جانب مراكز للدراسات الاستراتيجية لرسم الأهداف القريبة والبعيدة المدى.
4 – يعد السلاح النووي ومنذ أن استخدمته الولايات المتحدة ضد اليابان عام 1945، من أبرز عناصر قوة الدول لردع أي تهديد خارجي، وبقدر ما تمتلك الدولة المسيطرة من قنابل ورؤوس نووية، فإن العالم سيتجنب خوض المواجهة معها، بل سيتصرف معها بكثير من النفاق خوفا منها أو طمعا بتأييدها، وبذلك ستشكل رادعا عن تعرضها لأي عدوان خارجي، كل هذا يجب أن يستكمل حلقاته من خلال امتلاك قاذفات القنابل الاستراتيجية والصواريخ العابرة للقارات والغواصات القادرة على حمل مختلف أنواع الأسلحة النووية.
5– يجب أن يمتلك البلد الذي يسعى ليكون مركز استقطاب بين الكبار، اقتصادا متنوعا في مختلف المجالات الزراعية بما فيها من مساحة شاسعة، مع بيئة مناخية متنوعة تتيح له انتاج غذائه بنفسه، والصناعية مع إطلالة بحرية طويلة، تمنع محاصرته في أي ظرف من الظروف، أو على الأقل المحاصيل الاستراتيجية اللازمة لتجنيبه المجاعة في ظروف الحرب أو أية ظروف استثنائية.
6 – عدد سكان يتناسب مع المساحة الجغرافية للبلد، بحيث يكون العدد مكافئا لحاجات الاقتصاد صناعيا وزراعيا ويؤمن متطلبات الأمن القومي، من مجندين وعاملين في القطاعين الزراعي والصناعي، بحيث لا يكون عدد السكان عبئا على الاقتصاد الوطني وموارد البلاد زيادة أو نقصانا.
7– انسجاما بين السكان فيما يتعلق بالولاء للوطن، وعدم نمو تيارات يهتز في ضميرها الولاء الوطني، في حال نمو أي أفكار دينية أو قومية أو سياسية تهدد النسيج الاجتماعي، الذي يجب أن ينصهر في بوتقة واحدة، هي الوطن الذي يجب أن يدافع الجميع عنه، بصرف النظر عن قناعاتهم السياسية، يجب أن يبقى الوطن فوق كل الولاءات الفرعية.
8- يجب أن يمتلك أي بلد قدرات اقتصادية من ثروات طبيعية مثل النفط أو الغاز أو كليهما، وكذلك أهم المعادن مثل الحديد والنحاس والألمنيوم الداخلة في الصناعات الثقيلة، كما أن توفر الأراضي الزراعية الشاسعة التي تؤمن الغذاء الكافي للبلد، لمنع الدول الأخرى من مجرد التفكير بفرض حصار اقتصادي عليه، بل ربما يتضرر الآخرون من فرض قيود على التجارة معه، وهذا يتطلب وجود قاعدة صناعية رصينة تنهض بأعباء ترسيخ متانة القاعدة الاقتصادية المتنوعة فيه.
9 – ربما تجد بعض الدول في الحروب الأهلية التي خاضتها في حقبة من تاريخها، طريقا مناسبا لامتلاك القدرة القتالية واعداد قواتها، وصولا إلى اكتشاف الحلول الناجحة لما يمكن أن يعترض سبيلها في الحروب الخارجية، هذا ما حصل في الولايات المتحدة وبعض بلدان أوربا، ولكن العوامل التي أدت إلى نشوب الحرب الأهلية يجب أن تعالج بالحكمة والمرونة السياسية.
لكن هذا ليس معناه أن تبقى النار التي أشعلت الحرب الأهلية خابية تحت رماد الحلول المبتسرة والتي لا تضع علاجا شافيا للمرض السياسي، أي بلد يسعى ليحتل مكانة متقدمة بين الدول، يجب أن يعيش استقرارا راسخا، كي يتفرغ للبناء والرقي.
خلاصة القول أن الدبلوماسية لأي بلد ومهما كانت نشيطة وفعالة، فإنها تبقى عاجزة عن مسايرة حركة التاريخ، فالمكانة السياسية تابعة لمدى قوة أي بلد اقتصاديا وعسكريا، وليست سابقة لهما، والتاريخ يحدثنا أن الدول مهما امتلكت من قدرات سياسية ودبلوماسية وعلاقات خارجية، وحتى في حال امتلاكها اقتصادا قويا ومساحة شاسعة، تبقى مجرد أرقام يتم تدوينها في سجلاتها الرسمية أو لدى المنظمات الدولية أو في أطالس الجغرافيا الطبيعية، إلى أن تمتلك القوة العسكرية، ولنأخذ نموذجين، الأول هو كندا الأكبر مساحة من الولايات المتحدة، وروسيا، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي أكبر دول العالم مساحة، ولكنها بعد أن فقدت قرارها السياسي ومنهاجها السابق تحولت إلى دولة أقل تأثيرا في السياسة الدولية عما كانت عليه موسكو قبل أكثر من ربع قرن.
فما هي القوة الحقيقية التي تمتلكها إيران كي تحلم بإعادة أمجاد إمبراطورية خرجت من التاريخ قبل 1400 سنة، ومحاطة بأقاليم ودول تناصبها العداء، أو على الأقل تخشى نواياها المبيتة بالتوسع، أو لا تنسجم وأطروحتها السياسية والفكرية، بل إن إيران تبذل كل ما الديها من جهد، لتثبت خطأ كل من حولها، وتحاول فرض أيدولوجيتها على جيرانها بالقوة، في موقف عدائي اختارته إيران نفسها، تجاه كل من لا يتطابق مع طموحها الإقليمي والدولي.
وما هو نصيبها من فرص التحول إلى قوة إقليمية دولية؟ وهل تمتلك العناصر المطلوب توفرها في أي بلد كي يصبح قوة دولية؟ وهل لديها قاعدة صناعية قوية تجعلها في غنى عن استيراد السلاح من الخارج؟ والذي لا يُمنح إلا بشروط سياسية صارمة، فالسلاح ليس عقداً لصفقة سيارات أو جرارات أو أجهزة الكترونية من هواتف محمولة وأجهزة راديو وتلفزيون، بل نظام معقد ومتكامل ومتعدد الحلقات، لا يمكن توفره إلا من مصدرين فقط في الوقت الراهن لحين بروز مركز استقطاب دولي جديد، وهما الولايات المتحدة وبدرجة أقل روسيا الاتحادية بما تمتلكه من قدرات في مجال الصناعات العسكرية من العهد السوفيتي.
متى ما امتلكت إيران قاعدة صناعية حقيقية، وامتلكت القدرة على انتاج السلاح المتكامل الحلقات، والذي يلبي متطلباتها في حالتي الهجوم والدفاع وصيانة أمنها القومي، أو على إخضاع الأعداء أو إرهابهم على الأقل، تستطيع أن ترفع صوتها ويكون لها حضورها في المجتمع الدولي، أما جلب الأصدقاء عن طريق وعود بعضها قابل للتنفيذ بتوفير الحماية الخارجية، وكثير منها مجرد وعود لا تصمد أمام أي اختبار جدي فلا نصيب لها من التأثير في مجال العلاقات الدولية الذي يعيش أحادية القطبية، حتى لو برزت بعض الدول الأخرى مثل الصين، في أحد مجالات الصناعة الحربي، أو برزت في مجال الاقتصاد، إذ أنها تبقى عملاقا اقتصاديا وقزما سياسيا وعسكريا، خلاصة القول إن المكانة السياسية والديناميكية الدبلوماسية لا يمكن أن تترك تأثيراتها الإيجابية في المجتمع الدولي ما لم تكن تعبيرا ظاهرا عن قوة عسكرية كبرى.
إيران دولة ملفقة بكل المقاييس، وهي دولة متعددة الأعراق والأديان والمذاهب، ويمكن أن نلاحظ القمع الذي تمارسه القومية الفارسية لبقية القوميات والمكونات، فإضافة إلى الفرس هناك العرق الآذري، ويقترب عدد سكانه مع عدد الفرس، صحيح أن نشوء دولة فارس الشيعية بدأ على يد إسماعيل الصفوي وهو آذري، لكن محور اهتماماته لم يكن منصبا على إقامة كيان آذري، بقدر ما كان يخطط لإقامة دولة شيعية ذات أغلبية تركية ذات توجهات فارسية، لتنافس الدولة العثمانية في توجهاتها.
وهناك البلوش في الجنوب الشرقي والأكراد في الشمال الغربي، وهذان العرقان لا يختلفان بالعرق فقط، وإنما بالانتماء المذهبي، وهناك سكان إقليم الأحواز العربي، وهم عرب أقحاح، يمكن أن يكون كثير منهم من أتباع المذهب الجعفري الاثني عشري، إلا أن هناك ثقلا لا يستهان به من السنة، وهم في تزايد نتيجة التحول بسبب الاضطهاد القومي الذي يتعرضون له.
وهناك الأرمن واليهود، مما يجعل من إيران كيانا هشا ينتظر الفرصة ليشظى ويذهب كل مكون إلى الخيار الذي يرتأيه.
صحيح أن بلاد فارس حققت نصراً على الدولة البيزنطية عندما أثبت الفرس نجاحهم إلى حد كبير خلال المرحلة الأولى من الحرب منذ عام 602 وحتى عام 622، لكن صعود هرقل إلى الحكم كان بداية لتغير موازين القوة بين الطرفين، وهي واقعة أشار إليها القران الكريم في سورة الروم، بسم الله الرحمن الرحيم "الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5" صدق الله العظيم، ففقدت فارس انتصارها، ولم تكسب معركة بعدها أبدا، ولكن الصحيح هو أن هرقل نجح في تحشيد طاقات البلاد وتمكن من إلحاق هزيمة منكرة ببلاد فارس.
وفي العصر الحديث ومع دخول الولايات المتحدة كأقوى طرف دولي جديد بعد الحرب العالمية، ونشوء حالة من الصراع والتنافس الخفي بين حلفاء الأمس المنتصرين في الحرب، وخروج النزاع من داخل أدراج المكاتب إلى الميدان، بدأ السباق بين شركات النفط الكبرى على جانبي الأطلسي، فقد اكتشفت الولايات المتحدة أن انشغال شركاتها النفطية وهي الأكبر عالمياً، في حروب داخلية على مصادر الثروة النفطية في آسيا وأفريقيا، قد أفقدها أهم منابع النفط في الشرق الأوسط، فبدأت المرحلة الجديدة من التنافس المحموم على هذا النفط الأقل كلفة في مراحل الإنتاج، بين الشركات الأمريكية الكبرى، وبينها من جهة وبين الشركات البريطانية والفرنسية من جهة أخرى، فكانت الخطوة الأولى توقيع عقود النفط مع المملكة العربية السعودية، ففي عام 1933وقع الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود اتفاقية امتياز التنقيب عن النفط مع شركة ستاندرد أويل ثم بدأ الإنتاج عام 1938.
وبعد ذلك بعدة سنوات حصل الانقلاب على الكارتل الأوربي في إيران، بعد إفشال حركة الدكتور مصّدق" في إيران والتي كانت بتدبير أمريكي وضعت خطته وكالة المخابرات المركزية CIA، تلك الحكومة التي بدأت بالتقرب من أسوار الكارتل النفطي الأوربي، ثم انتهت بإسقاطها وتوسيع الدور الأمريكي في الرساميل النفطية العاملة في إيران، وهنا يكمن أهم الأسباب التي منحت إيران أفضلية في معادلة النزاع بين الشركات الغربية من جهة، ودخول الاتحاد السوفيتي على المعادلة السياسية كثاني أقوى قوة عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة الذي أشغل المعسكرين بحروب النيابة، مما عزز من مكانة إيران دوليا.
لقد نجحت إيران بما تحمله من إرث سياسي يعتمد المناورة والخديعة واستغلال الاختلاف بين الأطراف الدولية، وعرض نفسها كأفضل زبون يعتمد مبدأ البراڰماتية في علاقاتها مع الآخرين، مستغلة ظرفا وجدت فيه أن دول العالم لاسيما الكبرى تعتمد هذا المبدأ نفسه، واللعب على النهايات السائبة في العلاقات الدولية التي وصل فيها السباق بين الاكتشافات العلمية وما يقام على أساسها من صناعات، والقيم الإنسانية التي ظلت تراوح مكانها في كثير من البلدان، أو تسير إلى أمام حيناً وتتراجع أحياناً أخرى، وبذلك لم يحصل إجماع بين الشرق والغرب على دعم طرف واحد إلا في حالتين، الأولى مع الكيان الصهيوني، والثانية مع إيران، ومما يلفت النظر، أن النظام العنصري في إيران، والذي يتقمص أردية دينية والذي وصل الحكم عام 1979، حافظ على مكانته لدى المعسكرين الشرقي والغربي، كطرف موثوق به في خدمة مصالح الدول الكبرى والموائمة بينها، لأن لإيران زعامة واحدة تستطيع إلزام الدولة الإيرانية بما تقول، على الرغم من أن شوارع طهران تزدحم بشعارات الموت لإسرائيل وللدول الكبرى الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، باعتبارها تمثل قوى الاستكبار العالمي التي جاء الخميني لمحاربتها والقضاء عليها.
في ظل هذه الظروف الملتبسة، حاولت إيران تجربة حظها في مواجهة كانت تظنها محسومة لصالحها، استنادا إلى حسابات غبية، فشنت عدوانها على العراق خريف 1980، وظنت أن ذلك الوقت هو الوقت المثالي لحسم المعركة لصالحها مع كل ما يمنحه ذلك لها من تسيّد على منطقة الشرق الأوسط كلها، وبذلك طوّر الخميني فكرة أن إيران كانت شرطيَ الخليج العربي في عهد الشاه، إلى أن إيران صارت قوة عسكرية وسياسية إقليمية كبرى، ولها الرأي القاطع في منطقة الخليج العربي والبحر العربي والمحيط الهندي والبحر الأحمر، وعلى العالم التسليم بذلك والتعامل معها كحقيقة جديدة لها القدرة على إزاحة غيرها، بالقوة المعنوية التي حمل لواءها المشروع الإيراني القومي والذي يضع العمامة فوق رأسه والعابر للحدود، وبالوسائل العسكرية إذا اقتضت الضرورة، ولما كان من المعروف تاريخيا أن إيران ليست قادرة على خوض حرب طويلة الأمد، فقد تمكنت واستنادا إلى أفكار تعود إلى بداية القرن السادس عشر، من تجنيد فصائل مسلحة محسومة الولاء لمركز التوجيه في قم وطهران، ولكنها وعلى الرغم من كل ما نظمته من تعبئة داخلية وحشدّت من ملايين المقاتلين من جيش وحرس ثوري وتعبئة البسيج، إلا أنها لم تتمكن من قهر إرادة العراقيين، الذين خاضوا عن وعي وإرادة لا تلين أطول حرب شهدها القرن العشرين، ومع أن إيران حصلت على دعم عسكري أمريكي في أكثر من مرحلة من مراحل الحرب، لكن صفقة إيران غيت، تبقى الصفقة الأكثر إثارة، ودحضا لكل ما كانت تطرحه إيران من شعارات معاداة الإمبريالية والاستكبار العالمي، والصفعة الأكثر إيلاما لكل أذرع إيران العسكرية وتنظيماتها شبه العسكرية، فقد أسقطت تلك الصفقة آخر ما كانت إيران ترتديه من أقنعة ثورية ومعادية للدول الكبرى، ومع ذلك فقد صمتت بعض الأصوات المعارضة للتعامل مع أمريكا، لأن ما يصدر عن "الإمام" من مواقف يجب التعاطي معه كإمام واجب السمع والطاعة لأنه يعرف مصلحة الدين والمذهب أكثر من غيره.
بعد ثماني سنوات من قتال اسطوري سجل فيه العراقيون أنصع صفحات المجد، جرعوا في نهايتها المشرقة، زعيم جمع الباطل والردة، الخميني، أمّر كأسٍ للسم تجرعه قائد بلد مشى إلى العدوان بإرادة عمياء، على جار بذل أقصى ما يملك من جهد وطاقة، لتجنب صفحة الحرب التي يعرف من يبدأها ولكنه ومع ما أوتي من قدرة لا يستطيع التحكم بمساراتها أو توقيت الطلقة الأخيرة فيها.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

699 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع