شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية

د.سعد العبيدي

شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية

في مساء السادس والعشرين من شباط عام 1991، انسحبت آخر مفرزة نفسية من الكويت. كتب آمرها في تقريرٍ موجزٍ أن الطريق الواصل بين مدينة الكويت وصفوان صار يُعرف بين الجنود بـ طريق الموت.
على طوله تمتد طوابير المنسحبين مشيًا، وقد خلع البعض أحذيتهم نتيجة الورم الذي أصاب أقدامهم، يجرّون أجسادهم المرهقة كمن يجرّ خطاه فوق جمرٍ خفيّ. وأشارت المفرزة الثانية في اليوم التالي إلى أن ممرات مركز إخلاء الشهداء، قريبًا من ساحة سعد، امتلأت بالجثامين حتى لم يعد فيها موطئ قدم، وأن بعض الجثث تُركت على الرصيف. وجاءت الثالثة بما هو أشد وجعًا؛ إذ دوّنت أن الجنود الذين وصلوا البصرة يتقاذفهم الإحباط، بعضهم ينتقد قادته، وبعضهم يساوم على بندقيته، كأن الحرب انتهت بانكسار الروح في ساحةِ قتالٍ تاهت فيها القيادة.
وُضعت تلك التقارير، وغيرها، على طاولة نقاشٍ مفتوح في اللجنة النفسية العليا للمركز المتقدم بأبي الخصيب، لإعداد التقرير المعنوي إلى القيادة العامة للقوات المسلحة. استغرق النقاش وقتًا أطول من المعتاد، لما تضمّنه من حقائق لم تعتد القيادة سماعها من قبل، وخُتم باستنتاجٍ صريح: انهيار معنوي حاد، تفكك في البنية النفسية، وفقدانٌ لسلطة الضبط.
نُقل التقرير إلى القيادة العامة في مقرّها البديل، بيتٍ وسط البصرة، مساء الأول من آذار، بواسطة اللواء الركن مدير التوجيه المعنوي والعميد الأخصائي النفسي. كان البيت مضاءً بالفوانيس. حول الطاولة الرئيسية جلس الفريق سعدي وزير الدفاع، والفريق حسين رئيس الأركان، وإلى جواره الفريق سلطان معاونه للعمليات. كانوا متماسكين رغم الإرهاق، تبدو على ملامحهم آثار الشدّ والسهر المتواصل.
بدأت المناقشة فقرةً تلو أخرى. وعند الانتهاء قال رئيس الأركان بنبرةٍ يختلط فيها العتب بالحيرة، كمن يفتّش في كومة قشٍّ عن إبرة نافعة:
- أنتم معشر النفسانيين نظريون، بعيدون عن الواقع العملي... لم تُشيروا في تقريركم إلى مقترحٍ يرفع المعنويات في هذا الوقت الصعب.
قال العميد الاختصاصي بهدوءٍ يفرضه الموقف:
- سيدي، نحن – وحسب الصلاحيات – لا نملك تفاصيل عن الموقف القتالي، لذلك قدّمنا تحليلًا لإشاراتٍ ومشاهداتٍ وردتنا من المفارز النفسية، واستنتجنا بناءً عليها. ومع ذلك نرى ضرورة إخلاء شوارع البصرة من الجنود المحبطين، للتقليل من الأثر الجمعي لمشاعر الإحباط.
هزّ رئيس الأركان رأسه بأسى وقال:
- ألم أقل إنكم نظريون؟ لا نملك الآن أي وسيلة إخلاء. فالقطارات متوقفة، والنقلية الآلية مدمّرة، والجهد المدني خرج عن السيطرة. ثم أضاف بحزم:
- اذهبوا فورًا إلى جميع الفيالق، أوجزوا القادة، ألقوا محاضرات، قولوا إن الأمريكان هم من طلبوا وقف إطلاق النار، وليس العراق الذي ما زال قادرًا على قتال الأعداء.
ترك الفريق سلطان مكانه وسار معهما نحو الباب. وفي الممر الداخلي سأل العميد عمّا لم يُكتب في التقرير، فأجابه بثقة الزمالة:
- في حالات الانكسار، وعندما يفشل المقاتلون في توجيه مشاعر العدوان نحو عدوهم، يعيدون توجيهها – عند ضعف السلطة – إلى قيادتهم العليا.
وبعد أن ردّ التحية، أثنى الفريق على جرأة التقرير، وطلب تنفيذ أمر رئيس الأركان على الفور.
ساد صمتٌ لدقائق في السيارة المتجهة إلى المقر في أبي الخصيب، كسره العميد مخاطبًا اللواء بنبرةٍ خفيفة:
- جاءت في وقتها.
انتبه اللواء إلى الكلام وسأل عن القصد، فأجاب:
- إن حالة الانكسار امتدت إلى المجتمع، وكمّ العدوان في النفوس يكبر ويتضخّم، ولأن سلطات الضبط فقدت السيطرة، وهذا واقع قد يفضي إلى حدوث شيءٍ لا يمكن تحديد طبيعته، لكنّ وقعه سيكون أشدّ من هذا الحاصل وأخطر.
ابتسم منذر بألم وقال:
- عدنا إلى التكهنات. لرئيس الأركان الحق في أن يصفكم بالنظريين.
ردّ العميد بجديةٍ هذه المرة:
- ليست تكهنات، إنها تحليلات. ومع هذا، أرى ضرورة البدء بالتنفيذ مع شروق شمس الغد، وتبليغ المنتسبين بإخلاء المقر كذلك قبل الشروق. وهكذا أصدر اللواء أوامره حال وصوله إلى المركز.
عند حلول الصباح، بدت البصرة كمدينةٍ لم تفق بعد من صدمتها. الأجواء مغطاةٌ بالدخان المتصاعد من آبار النفط المشتعلة، والجنود ينتشرون في الشوارع ببنادق أثقلتها المعنويات المنهارة، يتحركون ببطء، بوجوهٍ شاحبة وعيونٍ زائغة، كمن فقد الاتجاه والمعنى معًا. وعلى الضفة الأخرى من شط العرب، كانت مجاميع من الجنود تتكدّس في نقاط الانتظار، صامتين، يتطلعون نحو المدينة كأنهم يراقبون ما تبقّى من وطنٍ يغرق، ولا يملكون سبيلاً لإنقاذه.
وكذلك كان الطريق إلى مدينة العمارة، مقرّ الفيلق السادس، الذي لم يتواجد فيه سوى قائده اللواء الركن عبد الواحد، وقليلٌ من هيئة ركنه وجنود الحماية. وفي النقاش معه عن الحالة المعنوية، قال بلهجةٍ جادّة، كمن يعلن خبرًا لا يريد تصديقه: سقطت البصرة بيد المنتفضين.
عندها جال في فكر العميد ما لم يستطع البوح به، هامسًا في نفسه: حين تُشنّ الحروب وتُقاد بالطموح الذاتي لا ببصيرة العسكر، تكون النتيجة محتومة... انفجار الهزيمة من الداخل.
***

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1246 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع