الإلهة اليونانية سايكي (الفراشة) على ظهر جمل عربي

أ.د.صلاح رشيد الصالحي

الإلهة اليونانية سايكي (الفراشة)على ظهر جمل عربي

سايكي ورحلة الأرواح
ترتبط شخصية الإلهة سايكي رمزيا برحلة الأرواح مقتربة بذلك من دور (مُرشد الأرواح) الذي أداه تقليديا الإله هيرميس (Hermes) (بالروماني ميركوري) عندما كان يرشد ارواح الموتى إلى العالم الأسفل ، وفي التقاليد اليونانية القديمة تتولى الإله سايكي هذه المهمة التي صورت في نقش رخامي نذري عثر عليه في آسيا الصغرى، حيث تظهر فتاة صغيرة (تجسد الإلهة سايكي) بأجنحة فراشة تسافر على ظهر جمل عربي، وتجلس في سلة ذات عمودين جانبيين منحنيين يُستخدمان كسرج يركب على ظهر الجمل العربي (ذو السنام الواحد)، وهو أمر غير متوقع في العالم اليوناني والروماني ان تركب الإلهة اليونانية جمل، ولكنه ليس مفاجئا في العالم الشرقي جلوسها على ظهر جمل عربي لأن مشهد اللوحة يرمز إلى رحلة الروح إلى العالم الأسفل، ويورخ اللوح إلى حوالي (300) ق.م، آبان حملة الاسكندر المقدوني (Alexander) على بلاد الاناضول، وسورية وفلسطين، ومصر، والعراق، وايران، وحتما المنتصر ينشر ثقافته ويأخذ ثقافة من الشعوب المهزومة بمعنى (أخذ وعطاء)، لذا تم دمج الإله سايكي بتقاليد الثقافة الشرقية (كما هو الحال مع الإله سيرابيس (Serapis) وهو إله يوناني عبد في مصر فهو إله توفيقي مستمد عبادته من الإله اوزيريس عند المصريين، وانتشرت عبادة الإله سيرابيس على نطاق واسع في القرن الثالث ق.م) ، وايضا سمى ابن (أذينة) و (زنوبيا) ملكة تدمر ابنهما (وهب اللات)، وجاء اسمه في اليونانية (Athenodors)أي (هبة اثينا) أي ان (اللات) التدمرية كانت الإلهة أثينا، واثينا ليست سوى كوكب الزهرة، ونفس المضمون مع الإلهة سايكي ، يبقى من هي هذه الإلهة:
الإلهة سايكي أو بسيكي Psyche)):
كانت سايكي إلهة الروح، وهي زوجة الإله إيروس (Eros) (كيوبيد الروماني) إله الحب، وكانت في يوم من الأيام أميرة بشرية، فلم تولد سايكي إلهة، بل كانت ابنة أحد أفراد العائلة المالكة اليونانية، وكان للأميرة أختان أكبر منها، لكنها كانت محط اهتمام والدها منذ سنواتها الأولى، وعلى الرغم من جمالها الفاتن، لم يجرؤ أحد على طلب يدها للزواج، وأعجب بها الرجال من بعيد، وحتى الكهنة قالوا إن جمالها يتجاوز الإلهة نفسها، ولهذا فرغت المعابد المخصصة للإلهة من المتعبدين، وتوجهوا بالتقرب والدعاء لسايكي، واعتقدت الإلهة افروديت (Aphrodite) (إلهة الجمال والحب، وخلقت من زبد البحر) أن الأميرة تجذب الانتباه لأن الكثيرين كانوا يعبدون جمالها، وحتى الرجال زوار معبد الإلهة افروديت حولوا عبادتهم نحو الفتاة سايكي، لذلك استشاطت افروديت غضبا وأرسلت ابنها الإله إيروس (إله الحب والرغبة الجنسية) لتنفيذ أوامرها بضمان أن تقع سايكي في حب شخص بشع وبغيض ومكروه من الجميع، أضف إلى ذلك رحيل أخواتها الغيورات، فأصبحت الأميرة سايكي وحيدة، وأثار انعدام فرص الزواج قلق والدها على مصير ابنته، فذهب إلى عرافة الإله ابولو (Apollo) في معبد دلفي (Delphi) طالبا النصيحة حول مستقبل ابنته، على اية حال أثار جمالها الفائق غضب وحسد الإلهة أفروديت (فينوس الرومانية)، واعتقدت خطا ان الامور تحت سيطرتها وكما خططت لها، ولكن سارت الأمور باتجاه معاكس، فعندما ذهب الإله إيروس إلى سايكي لتحقيق رغبات والدته، تعجب كثيرا من جمالها الخلاب، فوقع الإله إيروس في حبها، ونسي في النهاية رغبات والدته الإلهة افروديت، ومن ثم نجت المسكينة من المؤامرة التي دبرت لها، عموما ترجم اسم سايكي أو (بسيكي) إلى (النفس) (اعتقد ان علم النفس سايكلوجي Psychology اشتق من اسم هذه الإلهة)، و(الحياة)، و(الروح)، و (الفراشة)، و (العثة)، بينما ترجمها الشاعر اليوناني هوميروس (Homer) إلى (الشبح)، وهي إشارة إلى أرواح الموتى التي قابلها أوديسيوس (Odysseus) بطل ملحمة الأوديسة (Odyssey)، ولذلك غالبا ما تُصور في الالياذة على أنها امرأة جميلة بأجنحة فراشة.
الإلهة سايكي والفراشة
وصفت سايكي بانها فائقة الجمال وتملك أجنحة فراشة، ومن معاني اسمها (الروح) و (النفس)، فبعد وفاة البشر تبقى اجسادهم في العالم الأسفل (الدفن الأرضي) وهو الشائع (وهناك حرق الموتى وجمع الرماد ودفنه، كما هو عند الحثيين، واليونان، والرومان، وايضا الدفن في السماء بوضع الجثة على مصطبة عالية بعد ان تقطع لتاكلها العقبان والنسور، ومن ثم يتم جمع ما بقي من العظام وتلف وتدفن، وانتشرت تلك الطريقة لدى الفرثيين الفرس (Parthian) في معابدهم، وفي موقع جطل هويوك (Çatal Höyük) في بلاد الاناضول ولا زالت تستعمل هذه الطريقة في منطقة التبت (Tibet) في الصين ضمن الديانة البوذية)، اما بالنسبة للروح فاختلف الباحثين بشأنها: يعتقد البعض انها لا شكل ولا حواس بمعنى الروح شفافة خفيفة الوزن مثل الفراشة، ويرى البعض الاخر ان الروح تاخذ شكل المتوفي ولكن بدون حواس، ومن ثم يحتاج كلا الشكلين الى مرشد يقودها نحو العالم الاخر وهذا ما تقوم به الإلهة سايكي، اما الفريق الثالث وهو التفسير الحديث يرى لا وجود للروح انما (طاقة) (energy) فعندما يتوقف الجسم عن توليد الطاقة وهي الحركة مثل عمل القلب والرئتين والدماغ عندها يموت الانسان وهذا الرأي بعيد عن هذا الموضوع.
تشبيه الإلهة سايكي في الديانات
⦁ في المسيحية: شكلت التفسيرات الثقافية حول رمزية الفراشة، وربطها برحلة الروح بعد الموت وانها ابداع من الرب .
⦁ في الاسلام: جاء في قول الله تعالى: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) (سورة القارعة: 4)، وقد جاء ذكره على سبيل التشبيه لحركة الناس عند البعث يوم القيامة، حيث يخرجون من قبورهم كالفراش المبوث أي المنتشر، إشارة إلى كثرتهم وضعفهم، ويلاحظ هناك تقارب في التشبيه بين الإلهة سايكي الفراشة التي تقود ارواح الموتى إلى العالم الأسفل، وحالة الأرواح الهائمة (كالفراش المبثوث) فلابد من مرشد لها، فهل هناك جذور عميقة للإله سايكي استمرت لقرون طويلة في ثقافة شبه الجزيرة العربية ؟ اعتقد نعم! الان الانسان يملك مخزون فكري من التقاليد، والعادات الاجتماعية، ومفردات لغوية، وافكار دينية، وحتى الاجسام تحمل جينات وراثية عمرها الاف السنين، ولذلك يمكن القول ما زالت التقاليد القديمة لها وجود في حياتنا ومنها على سبيل المثال استخدم البخور في مراسيم دفن الموتى أوعند زيارة القبور(اعتبر سكان بلاد الرافدين ان القبور بمثابة بيت للموتى)، فعند زيارة قبر المتوفي يتم حرق البخور اعتقادا منهم بان الموتى يستنشقون رواح العطريات، وقد يوضع الطعام مثل الخبز والعسل والحبوب وأحيانا اللحم فوق القبر، بينما يتم سكب الماء (لازال العراقيين عند زيارة المقبرة يتم سكب الماء على القبر) والبيرة والنبيذ وسوائل أخرى على القبر، وقد توضع المجوهرات والملابس على تمثال للمتوفى، إذا كان غنيا، ويتم استدعاء الموتى بالاسم، لمنع الأشباح الأخرى من الاستفادة من القرابين، كما ان حرق (البخور) كان بمثابة إله يرافق الآلهة ويجعل الناس أقرب إليهم، وأطلق على البخور مصطلح قُطران (qutrinna) كما في العبارة (قُطرانَ ولا إصين) (qutrinna ul iṣṣin) بمعنى (لا يشتم البخور)، (ولا زالت العوائل العراقية عند زيارتهم للقبور توقد البخور والشموع أمام القبر)، علما ان أجسام الموتى بعد تحللها تعود إلى التربة كما خلقت أول مرة اما الأرواح فقد انطلقت إلى السماء.

بغداد 2025

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

543 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع