الفنان إسماعيل فتاح الترك عشرون عاما على رحيله

صبيح صادق

الفنان إسماعيل فتاح الترك عشرون عاما على رحيله

يعترف الفنان إسماعيل فتاح الترك في مقابلة له مع الناقد عادل كامل:

"كنتُ أحصل على ست خيزرانات هي حصيلة توجيهي اليومي من المعلمين، الأولى لتأخري عن الدوام.. والثانية لأني لم أحضّر واجبي (أو لأن شقيقتي كتبته لي والمعلم كان يعرف ذلك حالاً) والثالثة لأني لا أعرف قراءة المحفوظات في الاصطفاف.. والرابعة لأني لم أقلم أظافري.. والخامسة لأني لم أت بمنديل.. والسادسة لأنني حرك في الصف ولا أنتبه للأستاذ".
عاش إسماعيل فتاح الترك طفولة سعيدة للغاية، يقول:
"كل ما حصل بعد الطفولة لا يغني بشيء عن تلك الأيام العظيمة ذات النكهة الفريدة الخالية من المسؤولية"
الفنان الترك، في صغره، لم يفكر بغير اللعب بالشارع، لم يشعر بأي مسؤولية أمام عائلته، حتى أنه في الساعة التي كان فيها والده يحتضر، سارعت العائلة الى مناداة الصغير إسماعيل الذي كان يلعب خارج البيت، لتخبره بأن والده في لحظاته الأخيرة ويريد أن يوصيك قبل وفاته، فاضطر إلى قطع اللعب والاتجاه نحو البيت. يقول الفنان الترك في مقابلة له مع الصحفي فائز جواد:

"كنت يومها العب مع اقراني في الشارع، دخلت على والدي وهو على فراش الموت، وما كنت أعتقد بأنه سيموت، وجدني حافي القدمين، وجيوب ثوبي مزدحمة بالحصى الذي احتفظ به لصيد العصافير، فما كان منه إلاّ أن هز يده قائلا: هل أنتَ مَن سيـُعتمد عليه؟".
هذا هو الفنان الذائع الصيت في مجال الفن، إسماعيل فتاح الترك الشخصية المتواضعة، والدائم الابتسامة الذي تمر ذكرى وفاته العشرين هذا العام.

بداية النبوغ

دخل إسماعيل فتاح الترك إلى معهد الفنون الجميلة ببغداد، عام ١٩٥٣، فشكـّل ذلك الحدث نقطة البداية كي يثبت عبقرتيه ونبوغه.
في البداية، اختار الترك فرع الرسم، وبعد ذلك غيّر دراسته إلى فرع النحت، وذلك بفضل الفنانين إسماعيل الشيخلي وجواد سليم. يقول:
"في المعهد كان لدينا درس الأعمال اليدوية يدرّسنا فيه الأستاذ الشيخلي، وكنا نشتغل بالطين.. في الدرس الأول جذبتُ انتباه الفنان الشيخلي، فأخذني إلى الفنان جواد سليم.. فقال لي الأخير: لابد أن تكون نحّاتاً! وبالفعل وجّهني جواد، وله الفضل في كل ما حصل بعد ذلك".
يُدين فتاح الترك لجواد سليم بالكثير، ولهذا عندما يسأله الكاتب عادل كامل: ماذا تفعل لو أن جواد سليم معنا الآن، يجيب فتاح الترك:
"أنحني له وأقبل يده . . . إن النحت العراقي الجديد لابد أن يمر تحت نصب الحرية.. حتى يأخذ أبعاداً عراقية مبدعة ومعاصرة"

بعد تخرج إسماعيل فتاح الترك، تم تعيينه في المدرسة الرستمية، بعدها سافر في بعثة دراسية إلى إيطاليا للدراسية في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، وتخرح عام 1963، ثم درس في معهد سان جاكومود وتخرج منه عام 1964. بعد عودته إلى العراق، عـُيـِّن أستاذا في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، وكان أحد أعضاء جماعة بغداد للفن الحديث.
تميز الترك بإنجاز أعمال شخصية تعبيرية غير معتادة، يقول الناقد ماجد السامرائي ان الترك "وجد نفسه وهو يقدم أعماله إلى لجنة تحكيم "معرض نادي المنصور" في ايار مايو 1958 "فناناً مرفوضاً"، لا لرداءة عمله، بل لاختلاف هذا العمل، وخروجه فيه على ما كان سائداً في الحياة الفنية، على اهميته وعلو مستواه. وشمل هذا "الرفض" أعمال فنانين آخرين من بينهم: نوري الراوي، وسعد الطائي، وكاظم حيدر، ووداد الاورفلي، الذين سيصبحون من بعد، من الأسماء الكبيرة بمنجزها الفني، وقد تقدموا في عملهم برؤية فنية مختلفة، ورأوا للعمل الفني صورة أخرى".
ويذهب الناقد كريم النجار الى ان "الذي يتطلع مليا لأعمال هذا الفنان سيحسده كثيرا على هذه الروحية والإحساس الشديد بالألم الداخلي الذي جسده برسوماته وأعماله النحتية التي أصبحت شواهد تزين بغداد في أكثر من موضع"..


انجازاته
صمم إساعيل فتاح الترك العديد من الأعمال الفنية المهمة، منها تماثيل لأبي نواس، والواسطي، والفارابي، وعبد المحسن الكاظمي، ومعروف الرصافي، وانجز نصب الشهيد، وهو حسب تعبير الترك: "إن صاحب العمل هو الشعب العراقي.. والعبقرية العراقية. . . أنا أعتقد أن نصب الشهيد هو خلاصة كل تجاربي الفنية، على صعيد الإبداع والمعاناة وبالقيم العظيمة المرتبطة بالإنسان العظيم.. وكان لديّ شعور بأنني أستطيع التعبير عن إنساننا.. فجاء نصب الشهيد".
 أقام الفنان الترك سلسلة من المعارض الشخصية، في الكثير من الدول، وحصل على جوائز مهمة عديدة، منها: الجائزة الأولى للفنانين العرب، مسابقة سان فيتا، روما، 1962، جائزة النحت الأولى، للفنانين الأجانب، في ايطاليا، حي ماركيتا، 1963، جائزة الدولة للفنون الجميلة بغداد 1989، وشارك في وضع التصاميم للزخارف الداخلية لمسجد الشيخ زايد الكبير، واشترك مع الفنان ضياء العزاوي في إقامة معرض في دبي، عام 2003.
الهجرة الأخيرة
غادر إسماعيل فتاح الترك العراق للعمل في دولة الامارات العربية المتحدة، ثم داهمه مرض السرطان، وعندما أيقن بأن المرض سينهكه، قرر العودة إلى العراق. كان آخر ما قاله، وهو مريض، في اتصال مع أخته في بغداد:
"متى أرجع للوطن حتى أشوف جماعتي الفنانين، ونشوي سمك، ونعيد ذيج الأيام، وإن شاء الله العراق راح يتغير".
وقبل أن تصل الطائرة الخاصة التي كانت تقله من الامارات العربية المتحدة إلى العراق، فارق الحياة، يوم 21/ 7 / 2004.

زواجه
كان الترك قد تزوج من زميلته في الدراسة بإيطاليا، الفنانة الألمانية ليزا التي رافقته في الكثير من نشاطاته، وحسب ما ينقل الناقد كريم النجار عن صهيب بن إسماعيل فتاح أن والديه "شكـّلا ثنائيا فنيا، أحدهم يرقب أعمال الآخر، ويتبادلان الرأي بنقاط القوة والضعف في أعمالهم، حد الاحتدام، وكان يأخذ برأيها أغلب الأحيان لما تمتلكه من وعي وإساس فني عال".
أصيب إسماعيل فتاح الترك بصدمة عنيفة بسبب وفاة زوجته ليزا، عام 1992، ومرَّ بفترة عصيبة. يذهب الناقد كاظم شمهود، إلى أن الصدمة التي تعرض لها الفنان الترك "انعكست على أعماله، فخرجت الوجوه في لوحاته حزينة منكسرة".
بعد ذلك تزوج الترك من داليا شاكر محمود. ومن سخريات القدر أن عائلة هذا الفنان الكبير لم تلق الرعاية التي تستحقها، فقد اشتكت داليا شاكر، في مقابلة لها مع الصحفيـّة زينب الربيعي، عالم ٢٠١٠، اشتكت من التقاعد القليل لزوجها والذي يبلغ "ما يعادل 200 دولار كل شهرين، لها ولأولادها القصر، علما بأنها تقيم في الشارقة، وهذا المبلغ لا يسد حاجة عائلتها وان كانت تقيم في العراق".

آراء بعض الفنانين
بعد عام من وفاته يتحدث صديقه الفنان ضياء العزاوي حول أول لقاء له مع فتاح الترك في الستينيات، يقول:
"أصغي إليك وأنا أتذكر لقاءنا الأول في الستينيات بعد انقلاب فبراير الدموي، أنت اليافع القادم من روما محملا بروح التمرد وببضعة أعمال هي ما تبقى من مخزونك الدراسي في إيطاليا، معك كانت زوجتك ليزا بنت القبائل الجرمانية المدهشة الجمال والمندهشة بما يحيطها من عالم جديد. أما أنا فقد كنت خارجا من موقف السجن المركزي محملا بتلك الصور المحزنة لمشاهدة الذاهبين للتعذيب، ولبعض من خانته عزيمته وهو يدل على رفاقه لتضم ضمن قائمة المحققين".
تلميذه الناقد عادل كامل يقول: "أتذكر الفنان إسماعيل فتاح الترك، قبل عشرين سنة، عندما قدّم ثمرة أعماله الفنية في بغداد. كانت تلك الأعمال تحمل مضمون الاغتراب. وعرفتُ الفنان بشكل يومي، بعد سنوات قليلة، عندما كان يحدثنا عن صدق المعنى الإبداعي من خلال تأملنا العميق للموت أو الميلاد: ولهما معاً.. وما بينهما على وجه الخصوص".
وقد خصص صديقه الفنان ضياء العزاوي، العدد الثاني في المجلة الاليكترونية التي يشرف عليها “ماكو"، عام ٢٠٢٠، للفنان إسماعيل فتاح الترك، وشارك في الكتابة في ذلك العدد المهم، بالإضافة إلى ضياء العزاوي: عمار داود، تغريد هاشم، سهيل سامي نادر، مي مظفر، رافع الناصري، سامان كمال، معاذ الآلوسي، بدر الحاج، حسنين الابراهيمي، كريم رسن، علي جبار، محمود العبيدي، نزار يحيى. وقام الصحفي خليل صويلح بتقديم عرض لهذا العدد الخاص، قال فيه إن إسماعيل فتاح الترك هو: "أحد ضحايا الحرب والحصار والاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، إذ نُهبت أعماله من "متحف الفن الحديث" في بغداد، على مرأى من جنود الاحتلال كجزء من "تدمير الذاكرة الجماعية للشعب العراقي". كما فُقدت غالبية أعماله بسبب لا مبالاته وإهماله، وخضعت بعض لوحاته إلى التزوير في ظل الفوضى التي عمّت البلاد".
كتب صديقه الناقد محمد الجزائري يرثي صديقه الفنان الترك:
"كأن قدرنا أن يتهاوى خالقو الجمال والسرور الصعب واحدا إثر آخر، أو كأن الحروب والكوارث والمنافي تحرق أخضر المبدعين وتعطب أجسادهم، وتوقف نبض قلوبهم".

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1062 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع