العوامل البنيوية للتوترات المتصاعدة ( الصراعات الداخلية والنزاعات الإقليمية ) تقود لحروب واسعة النطاق ملاذا للأزمات العالمية

مجيد ملوك السامرائي[*]

العوامل البنيوية للتوترات المتصاعدة( الصراعات الداخلية والنزاعات الإقليمية )
تقود لحروب واسعة النطاق ملاذا للأزمات العالمية

تشير تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومراكز الأبحاث الدولية إلى؛ أن العالم يشهد في العقود الأخيرة تصاعدًا حادًّا في الضغوط البنيوية التي تقود إلى اضطرابات وصراعات داخلية لم تعد محصورة داخل حدود الدولة الوطنية، انما امتدت لتتشابك مع مصالح قوى إقليمية ودولية، وقد أسهم ذلك في تدويل النزاعات وتحويل بعضها إلى حروب إقليمية واسعة النطاق.
ترتبط هذه التوترات بعوامل بنيوية متجذّرة تتطور عبر الزمن، بهدف الاستحواذ على الموارد الاقتصادية حيثما ترسمها السياسة وتنفذها القوه، إضافة إلى الديناميات العالمية المعقدة التي تعمّق هشاشة الدول وتزيد مستويات الاستقطاب الاجتماعي، خاصة عند اقترانها بتدخلات خارجية مباشرة أو غير مباشرة.
أبرز العوامل البنيوية التي تؤدي إلى تصاعد التوترات) داخل الدول)، وتحول الصراعات الداخلية إلى نزاعات إقليمية وحروب واسعة ذات آثار عالمية:
1. ضعف الدولة الذي يتمظهر بضعف مؤسسات الحكم والعدالة والأمن، وبالتالي حدوث الفراغ الذي تستغله القوى الأخرى.
2. اقتصاد الريع؛ الذي يولّد أعتماد الدول على الموارد الطبيعية خصوصًا النفط والغاز، صراعات السيطرة على العائدات مما يزيد احتمالات النزاعات الداخلية.
3. الهويات المتصارعة تزيد من التوترات العرقية والدينية وتختصر العدو بالأوطان، مما يسهم في تفكك الدولة وظهور الفاعلين غير الحكوميين.
.4الضغوط البيئية، اذ ان تغير المناخ ونقص المياه يرفعان حدّة التنافس على الموارد.
.5 التدخلات الخارجية في تشكيل بيئات قابلة للانفجار وذلك؛ بتهريب وانتشار السلاح، وتدفق موجات اللاجئين، والتحالفات الإقليمية من خلال توازنات القوى التي تولد سباقًا للتدخل والسيطرة، وبالتالي تدويل الأزمات الإنسانية، وهذا ما يؤدي إلى تحويل الصراعات المحلية إلى نزاعات إقليمية متداخلة.
اما أبرز التحولات العالمية التي تُعد محركات عميقة لعدم الاستقرار الدولي، والمولّدة (للحروب الإقليمية) الواسعة النطاق:
أولًا: الانفجار السكاني والضغوط الديموغرافية
تشير تقديرات إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة (2023) إلى أن عدد سكان العالم بلغ 8.1 مليار نسمة، مع توقعات ببلوغ 9.7 مليار في 2025 ، وتتركز هذه الزيادة في قارة إفريقيا وجنوب قارة آسيا ما يولد ضغطًا متناميًا على الغذاء والمياه والبنى التحتية، وتُظهر تقارير البنك الدولي (2024) أن الدول ذات النمو السكاني المرتفع تعاني غالبًا من هشاشة اقتصادية وارتفاع في مستوى الفقر، مما يجعلها أكثر عرضة لنزاعات داخلية كما في دول منطقة الساحل الأفريقي الغربي .
ثانيًا: البطالة عامل محفّز للصراع
بلغ عدد العاطلين عالميًا أكثر من 205 ملايين عاطل، ويصل معدل بطالة الشباب إلى أكثر من 20% في مناطق اسيوية وإفريقية وفي أمريكا اللاتينية، وهذا ما يُوفر بيئة خصبة للاحتجاجات والتمردات المسلحة.
ثالثًا: سباق التسلح وتغير ميزان القوى العالمي
في (2024) بلغ الإنفاق العسكري العالمي 204 تريليون دولار، وهو الإنفاق العسكري الأعلى تاريخيًا. ورافق ذلك صعود قوى إقليمية تتبنى استراتيجيات توسعية مثل؛ الهند، الصين في بحر الصين الجنوبي، باكستان، روسيا، وتتنافس جميعها على امتلاك أسلحة دقيقة، وتطوير تكنولوجيا الطائرات المسيّرة، وهذه البيئة تزيد هشاشة الاستقرار وتحوّل العديد من المناطق حول العالم إلى ساحات صراع بالوكالة.
رابعًا: ضعف التعليم وتفكك رأس المال البشري
تظهر تقرير اليونسكو أن 244 مليون طفل لا يذهبون للمدرسة، وأن 770 مليون بالغ يعانون من الأمية الوظيفية/ الحرفية، إضافة لسعة مستوى الامية الالكترونية/ الرقمية المعاصرة. ان انخفاض مستوى وجودة التعليم يُضعف الهوية الوطنية ويزيد من انتشار خطاب الكراهية، مما يجعل المجتمعات عرضة للاختراق الداخلي وللنزاعات الأثنية والطائفية كما في ميانمار وإثيوبيا.
خامسًا: صعود الهويات التقليدية ما قبل الحديثة
تشهد مجتمعات العديد من الدول عودة قوية للهويات التقليدية؛ القبلية منها والدينية والعرقية نتيجة فشل الدولة الوطنية في تقديم نموذج مجتمعي اندماجي فعال، وهذا الفشل يتعارض مع قيم الدولة المدنية الحديثة ويفضي الى عودة الهويات التقليدية، وبالتالي توالّد النزعات التي تغذي صراعات داخلية تستغلها القوى الخارجية لتعميق الانقسام.
سادسًا: احتكار التكنولوجيا وأشباه الموصلات
أنّ 80% من الرقائق الألكترونية المنتَجة عالميًا تُصنع في ثلاثة دول؛ تايوان، كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة، مع توسّعها في الصين، وأن هذا الاحتكار يغذي التنافس الاستراتيجي الأميركي– الصيني، خاصة مع اعتماد صناعة الرقائق الألكترونية على معادن نادرة.
سابعًا: المعادن النادرة
تُعد المعادن النادرة من أهم أسباب الصراعات الجيوسياسية عالميا، لدورها الحاسم في الصناعات العسكرية والتكنولوجية والطاقة المتجددة، وأبرز هذه المعادن:
1. الليثيوم ويدخل في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية والهواتف، ومثلث إنتاجه الأرجنتين، بوليفيا وتشيلي.
2. الكوبالت ويدخل في صناعة بطاريات أيونات الليثيوم، ويأتي إنتاج أكثر من 70% منه من الكونغو وهي منطقة نزاع مستمر على المناجم، وتتداخل فيه شركات صينية وأمريكية.
3. العناصر الفلزية النادرة وتشمل (17) عنصرا مثل النيوديميوم، الديسبروسيوم، اللانثانوم، وهي عناصر ضرورية لصناعة الرقائق الإلكترونية، الأقمار الصناعية والأسلحة الذكية، وتسيطر الصين على أكثر من 70% من الإنتاج العالمي لها، مما يجعلها محور التنافس الدولي.
4. النيكل وهو مهم لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية والفولاذ المقاوم للصدأ، ويتركز إنتاجه في روسيا واندونيسيا، وقد رفعت العقوبات الاوربية والأمريكية على روسيا مستوى تعثر إمداداتها.
5. التيتانيوم ويستخدم في صناعة الطائرات الحربية والمركبات الفضائية، وتعد روسيا وأوكرانيا من أكبر المنتجين له، مما جعل الحرب بينهما ذات أثر مباشر على سلاسل إمداده.
6. البلاتين والبلاديوم ويستخدمان في؛ صناعة محولات تقليل الانبعاثات الضارة من السيارات، وصناعة الوقود النظيف. وعالميا تنتج روسيا40 % من البلاديوم، اما دولة جنوب إفريقيا فنتتج 70 % من البلاتين، مما يجعلهما محور التنافس الدولي الجيوسياسي.
ثامنًا: ان التنافس على مصادر الطاقة، والمياه، والموارد الاستراتيجية يضع هذه مناطق أنتاجها تحت ضغط صراعات داخلية وإقليمية متعددة وكبيرة، اذ يتركّز 48% من احتياط النفط العالمي في الشرق الأوسط. كما تشير تقارير البنك الدولي(2024) إلى؛ أن ندرة المياه تُعتبر العامل الأول للنزاعات المستقبلية في دول آسيا الوسطى، ومناطق حوض النيل. وتشهد العديد من المناطق في جميع القارات تحولها إلى ساحات صراع بين القوى الإقليمية والدولية على الموارد الاستراتيجية/ الذهب، النحاس، المعادن النادرة، واحتياطات النفط والغاز.
تاسعًا: زعزعة الأمن الداخلي للدول عبر التدخلات الخارجية
شهد العالم في (2023) و (2024)استخدام أدوات جديدة لإضعاف دول عديدة، بتدخلات القوى الكبرى من خلال تكثيف أساليب (الحرب الرمادية) التي تشمل؛ دعم جماعات معارضة أو انفصالية، حروب سيبرانية، حملات تضليل اعلامية، واستغلال للأزمات الاقتصادية، وذلك لافتعال الاضطرابات. وتنفذ الحرب الرمادية دون إعلان حرب تقليدية، خصوصا بعد أعتماد تقنيات منخفضة الكلفة وبفعّالية عالية جدًا، كاستخدامات أسراب الدرونز الجوية والبحرية والبرية وبمنظومات ذاتية/ شبه ذاتية التشغيل والمدعومة بالذكاء الاصطناعي لضرب منشآت حيوية، وهذا ما يكشف هشاشة الأمن الإقليمي ويزيد من تعقيد النزاعات المعاصرة.

تتفق تقارير الأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومراكز الفكر الدولية/ معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام على أن؛ النزاعات المعاصرة ليست حوادث منعزلة، أنما نتاج تفاعل عوامل ديموغرافية واقتصادية وتعليمية وتكنولوجية وجيوسياسية متشابكة، وإن فهم العوامل البنيوية للتوترات والصراعات يمثل شرطًا أساسيًا لصياغة سياسات فعّالة للحد من النزاعات الإقليمية والحروب واسعة النطاق. فالنزاعات ذات الأسباب البنيوية العميقة تميل إلى الاستمرار والتمدد، ويعد ضعف الدولة هو العامل الأخطر في ذلك لأنه يسمح للعوامل الأخرى بالتفاعل بحرية. اما التدخلات الخارجية فتحوّل النزاعات إلى حروب بالوكالة. وتظهر المنعكسات العالمية لما تقدم في كل من؛ موجات اللجوء، واضطرابات توريد مصادر الطاقة، وتعثر سلاسل التوريد وبالتالي انكماش التجارة الدولية.
تتمثل الأدوات الضرورية لتجنب الأزمات العالمية، وتمدد الصراعات التي تقود لحروب واسعة النطاق بكل من؛ تعزيز قوة الدولة، تبني أنظمة تعليمية قوية، تحقيق العدالة الاقتصادية، اتباع سياسات سكانية عاقلة. والسعي لتقوية التعاون الإقليمي، ضبط سباق التسلح، تشكيل إطار دولي حقيقي لتنظيم التعاون التكنولوجي، واستثمار المعادن النادرة والموارد الاستراتيجية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[*]مجيد ملوك السامرائي، جغـرافـي، كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي.
# ويكيبيديا # المعرفة # الحكمة # أرابيكا .
المراجع:
1.UNDP 2024. Global Trends of Conflict.
2.UN DESA Population Division. 2023. World Population Prospects.
3.Brookings Institution. 2023. 3.Global Economic and Conflict Drivers.
4.SIPRI IEA. 2024. SIPRI Yearbook 2024

*مجيد ملوك السامرائي Majeed Malok Al-Samarrai جغرافي، كاتب، مؤلف واستاذ جامعي، ولد في مدينة سامراء – العراق. نال من جامعة بغداد شهادة الدكتوراه في الجغرافية 1996 وحصل على درجة (professor) 2004. شارك في 24 ندوة ومؤتمر، واشرف على 16 وناقش 43 من رسائل الماجستير واطاريح الدكتوراه. ألف ونشر 57 كتابا ونشر 80 بحثا، و29 مقالة. استشاري وخبير علمي للعديد من المجلات العلمية، وعضوا في العديد من الاتحادات العلمية. نال 16 تكريما وشهادة تقديــر، ومرشحا متميزا ليوم العلم للسنوات 1997 و 2008. وفي 2024 عده الاتحاد الدولي للمبدعين في العراق من ضمن ابرز ثمانون مبدعا.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1395 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك