حوار سياسي بعنوان ( السياسة و القداسة )

 جابر رسول الجابري

حوار سياسي بعنوان(السياسة و القداسة)

المقدمة :
السياسة كمصطلح لغوي مشتق من مصدر ساس يسوس سياسة ويعني رعاية وادارة شؤون الخيل ،
أن أول أطروحة فكرية وصفت مفهوم السياسة في التاريخ كانت على لسان الفيلسوف اليوناني أفلاطون على شكل محاورة فلسفية عن فن إدارة المدن و إدارة طبقات الشعب و نظام الحكم لتحقيق العدالة والمثالية في نهج الحاكم ، تحمل عنوان ( الجمهورية ) ( Socratic dialogue ) ، تحدث فيها عن دور الحكمة السياسية في إدارة ورعاية الطبقات الاجتماعية الثلاث (نظام الحكم ، الحاكم ، الشعب) بشكل مثالي .

لاحقا في القرن الرابع الهجري زمن حكم الدولة الإسلامية تم استخدام مصطلح السياسة لأول مرة للإشارة إلى رعاية شؤون الناس أو لادارة أمور الرعية وبنفس الوقت هو الذراع الساند لوجود نظام الحكم ،

ومن أجل التفريق بين من يمارس سياسة الخيل و بين من يمارس سياسة الرعية تم وصف الأخير بمصطلح السياسي بديلا عن تسمية سائس ،

بنهاية القرن التاسع عشر ميلادي بدأت السياسة تتحول من مفهوم فلسفي إلى علم مستقل يدرس في الجامعات جنبا إلى جنب مع دراسة القانون و الديبلوماسية ، لذلك تم تأسيس أقسام خاصة به لتمييزه عن بقية العلوم الأخرى بعد ان بات وجود السياسة ضرورة ملحة لإسناد أنظمة الحكم وأيضا ليكون حلقة وصل لتنفيذ اجندة نظام الحكم وتسييس الشعب لطاعة أوامر النظام .

أما القداسة فهو مصطلح ديني بحت يخص الإله لكنه انتقل بمرور الزمن لوصف الحاكم او المرجع الديني باعتباره رأس هرم الدين فأصبح شخص الحاكم أو كرسي الحكم معيارا للقداسة ، ولذلك ستتم محاكمة كل من ينتقد سلوك ونهج المقدس حتى لو كان سلوك الحاكم فاسداً ظالما ،

الموضوع :
لابد لأي نظام حكم في أي دولة أن يرتكز على محورين رئيسيين لحفظ وجوده واستمرار نهجه ، الأول هو محور السياسية والذي يعني رجال وطاقم نظام الحكم ، والمحور الثاني محور القداسة سواء قداسة الدين لنظام الحكم الديني أو قداسة القانون للدول العلمانية أو قد يشترك احياناً الدين مع القانون في تشكيل هالة القداسة لبعض أنواع أنظمة الحكم ،

آ- محور السياسة

* الدولة العميقة :

مصطلح الدولة العميقة مصطلح جديد لكن مفهومه قديم جدا فمنذ ولادة فكرة المُلك والحكم نشأ معه مفهوم الدولة العميقة والتي واجبها توجيه وقيادة نظام الحكم من خلف كواليس عرش الحاكم ، سجل التاريخ عدة حالات من قيام الحاكم بتنصيب نفسه بمنصب الحاكم والدولة العميقة معا كما حدث مثلا في حكم الفراعنة في مصر أو في إمبراطوريات العراق مثلا حكم النمرود أو گلگامش الذي اعتبر نفسه سليل الآلهة ،

وايضا كما هو الحال عند الأنظمة الديكتاتورية أو بعض الأنظمة الملكية غير الدستورية في العهود الغابرة ،

نشأ مفهوم الدولة العميقة في البداية على شكل مفهوم المعبد أو مجلس الكهنة لادارة طبقات الشعب والحكم , وقد اكتسب قدسيته باعتبار المعبد حلقة الوصل بين العبد والمعبود ومكان اداء الشعائر المقدسة ،

بمرور الزمن تحولت إلى تسمية مرجعية الدين عند نزول الشرائع السماوية لكنها ما لبثت أن تحولت مرجعية الدين إلى اداة بيد الحاكم أو الخليفة لتنفيذ رغباته ونهجه ونزواته الشخصية ،

لهذا نجد في حاضرتنا بعض من المطبلين الإسلاميين الى إضفاء قداسة عند الحاكم وهم يرفعون شعارا قد اكتسبوه من خلال إقتطاع جملة من أية قرآنية فاستخدموها كدليل على رؤيتهم( إن الحكم إلا لله ) (و من لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون ) لكنهم تناسوا أو تغافلوا عن سرد تفاصيل وأحداث الآية التي أشار الله فيها لهذا الموضوع عن تحكيم النبي إلى أصحاب شريعة غير شريعة الرسول لان الله كان قد انزل شرائع سماوية متعددة وقد أقر في كل واحدة منها بأحكام القضاء التي نزلت من أجل الفصل في الخلافات الشرعية ولا علاقة لها بسياسة الحكومة وسلوك ونهج الحاكم أو العرف الاجتماعي للشعب ,

لهذا السبب وجدنا أن الكثير من الحكام استغلوا قداسة الدين فراح الكثير منهم مهرولاً لتغيير نسبه إلى نسب الرسول (ص ) كي يضيف على حكمه أو ملكه صفة شرعية بالانتماء لقداسة الإله حتى لو كان ذلك الحاكم ظالماً جائراً فاسداً ،

لكن مع مرور الزمن تطورت أنظمة الحكم بتطور المجتمعات المدنية فتحولت الدولة العميقة ايضا إلى أن تتخذ عدة أشكال و مسميات ،

فبعض الأنظمة الملكية الغير دستورية لازال فيها الملك هو رأس السلطة وهو نفسه الدولة العميقة لأنه هو أيضاً مَن يُدير مؤسسة المرجعية الدينية حتى لو اتخذ من تشكيل مجلس رمزي بديلا عنه لكنه يمثل الحاكم بأمر الله وراعي الدين وخليفة الله لحكم الشعب وادارة شؤونه ،

أما الملكية الدستورية فإنها تختلف ففيها الملك يشاطر حقوقه الدستورية مع الدستور (والسلطات التشريعية والسلطات التنفيذية) وأيضاً بمشاركة مؤسسة القضاء والإعلام لاجل مراقبة و توجيه مسيرة نظام الحكم وادارة الشعب ،

أما في النظام الجمهوري فقد اتخذ مفهوم الدولة العميقة عدة مسميات منها كما في أنظمة الحكم الديمقراطي تسمية :

البرلمان

مجلس الأعيان

مجلس الشيوخ

مجلس الشعب

كل تلك المجالس تعتبر بان الحاكم هو مجرد موظف مؤقت يؤدي واجباته لتنفيذ تشريعات ذلك المجلس ،

أما في الأنظمة الديكتاتورية يكون الحاكم هو نفسه يؤدي واجب الدولة العميقة والذي هو نفسه يوجّه ويرعى و يحافظ على وجود نظام حكمه ،

ولكن في حكم الأنظمة الثورية والحزبية فإن الدولة العميقة تتخفى تحت مسميات مختلفة منها :

مجلس قيادة الحزب

مجلس قيادة الثورة

المجلس العسكري

وأيضا في أنظمة الحكم الراديكالي فان الدولة العميقة اتخذت مكانها بمسميات صريحة منها :

مجلس حفظ الشريعة (كما في نظام حكم داعش الإرهابي أو نظام حكم القاعدة أو نظام بوكو حرام أو نظام حكم طالبان )

الا انها باتت اكثر نشاطا ووضوحا في قيادتها لمسيرة النظام الحاكم فأطلقوا عليها تسمية

(مؤسسة حفظ و رعاية النظام)

كما هو الحال في نظام الحكم الديني المتطرف مثل نظام الملالي لولاية الفقيه في ايران

أو كما حدث في العراق حديثاً عندما لجأت الدولة العميقة إلى نهج تشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر أو حكم المكون الأكبر والهدف من كل ذلك هو السيطرة على أعمدة الحكم الثلاث التي أشار اليها الدستور العراقي

(البرلمان+القضاء+رئيس الوزراء )

كل ذلك لأجل ادارة الحكم والشعب وفق رؤية الدولة العميقة والتي هي تحت مسمى رؤية الكتلة الأكبر للحفاظ على مسيرة نظام الحكم .

ب - محور القداسة

بدأ ظهور القداسة في التاريخ قبل وجود الدولة ، والقداسة كانت تشمل كل ما هو يتعلق ومرتبط بنهج وشعائر العبادة والأشخاص الذين قائمين على تلك الشعائر،

القداسة هو احترام رمزي يؤديه الفرد اتجاه الإله ومؤسساته وطقوسه حتى لو كان ذلك الاله صنما او كوكبا فإن هدف المواطن هو ايجاد وسيلة تكفل له حياة ما بعد الموت ،

مفهوم القداسة له تأثير نفسي وسلوكي على الفرد في المجتمع لذلك تمخضت القداسة فولدت الأنظمة الديكتاتورية والحكم الديني المتطرف بل وأصبح الفرد اداة لتنفيذ اجندات الحاكم كونه مقدس ،

كل الاديان سواء منها الديانات الفلسفية الفكرية مثل الديانة البوذية او الطاوية او الهندوسية ..الخ تملك دولة عميقة تدير سياساتها ونهجها في غرف مظلمة لحفظ نظام الحكم الذي تديره ، ولا يسقط نظام الحكم إلا بظهور دين جديد يأتي به الحاكم الجديد او المحتل وهذا ما حدث عند سقوط الإمبراطوريات القديمة عبر التاريخ فعند ظهور دين يتم هجر الالهة التي كانت مقدسة لديهم ليتم تقديس الاله الجديد ومؤسساته، أو التحول من مذهب إلى آخر حسب رؤية الحاكم.

وكذلك التحول في وجود الشرائع السماوية فقد تخلى القدماء من قداسة شريعتهم ولجأوا لشريعة جديدة جاءت بها جيوش المحتل ونظام الحكم الجديد .

الخاتمة :

للسياسة والدولة العميقة وسائل متعددة للحفاظ على وجودها منها

١- شبح نظرية المؤامرة أو صناعة عدو وهمي يُزرع في خيال الشعب من اجل ضمان إستمرار النفوذ وإحكام السيطرة على الرأي العام وضمان تنفيذ أهداف النظام ،

ومثال على صناعة الوهم هي خلق الحروب وخلق الشائعات عن عدو وهمي على شكل مخلوقات فضائية سيغزون الكرة الأرضية من أجل إستعباد البشرية وتدميرها،

الهدف من ذلك خلق تلاحم والتفاف المواطن حول النظام العالمي ،

او كما فعل نظام ولاية الفقيه الايراني عندما خلق عدواً افتراضيا للشعب الايراني تارة عدو مذهبي اندثر مع التاريخ (بني امية ) واخرى عدو حاضر دولي فبرر سعيه لإمتلاك قوة نووية بدلا من قوة اقتصادية بأن على الشعب الإيراني الدفاع عن نفسه مما ادى ذلك إلى تدمير ايران بسبب سلوك نظامها السياسي وقد سيؤدي أيضاً إلى تدمير عقيدتها مستقبلاً ،

كما خلق النظام العراقي الحالي أيضاً لشعبه فبث فيهم الطائفية ثم صنع لهم عدو مخيف داعش سيقضي على وجودهم ، أو أن السُنة سيعودون للحكم إن لم تنتخبوا أحزابكم الفاسدة أو مثلما خلق لهم خوف من عودة نظام حكم حزب البعث البائد الذي هو أصلا تفكك وجوده في الساحة الشعبية منذ ثمانينات القرن الماضي وانهار صرحه كلياً عندما أقدم على احتلال الكويت وهو الذي يدعي بانه راعي للقومية العربية وضيع العراق وشعبه بعدها أصبح النظام مجرد عصابة تحكم العراق ،

زاد في اجتثاث وجوده الشعبي عندما تم إعدام وسجن رموزه وقياداته بعد السقوط ،

٢- الإعلام الموجه أو المحاضرات الاجتماعية أو خلق الأخبار الكاذبة وبثها على شاشات التلفاز أو خلق الأزمات كل ذلك يهدف إلى دفع المواطن باتجاه تحقيق اهداف النظام الحاكم ،

ومن الأمثلة على وسائل التوجيه :

قنوات إعلامية مقابل ثمن مدفوع

مؤسسة التوجيه السياسي / المعنوي/ الشعبي / الإعلامي وبما أن الإعلام هو السلطة الرابعة أي المراقب لنهج السلطات الثلاث (تشريعي تنفيذي القضاء ) لصالح الدولة العميقة الحاكمة .

٣- تفتيت المجتمع وتقسيمه إلى مكونات واحزاب وصنع اهداف وهمية لهم بدلا من الوحدة الوطنية وتشكيل ميليشيات لحماية الأهداف المبتكرة سواء كانت تلك الأهداف تحت شعارات دينية او قومية او مذهبية فهي كلها شعارات مؤقتة وفق المرحلة ومتطلباتها ،

كما حدث لشعب فرعون عند تقسيمه لطوائف، أو كما حدث عند رفع شعار القومية (كنظام عنصري ) في العراق و سوريا مما ادى لاضمحلال شعور المواطنة والتعايش عند الشعب ، ولذلك ما أن سقط النظام حتى ظهرت نزاعات فئات الشعب إلى الواجهة وراحت كل فئة تطالب بحقوقها القوميه ، علما ان نظام البعث كان يرفع شعار الوحدة والحرية والاشتراكية لكن في الحقيقة لم يتمكن النظام خلال مدة نصف قرن من تحقيق واحدة من تلك الشعارات ،

وكذلك ادى رفع النظام الديني او المذهبي شعارات تهدف وتدعوا لتطبيق الشريعة لكن في حقيقة الأمرخلال عقدين ونصف من الزمن لم يستطع تحقيق شعار واحد من شعارات قيم أخلاقيات الدين الحنيف بل اثبت ان هذا النظام هو نظام شيطاني يحمل شعارات وهمية مقدسة ويدعي الديمقراطية لكنه في حقيقته نظام ديكتاتوري ارهابي وظالم وفاسد ، وقد نشر الفساد والسرقة واللصوصية والنهب والجاسوسية بحجة التهيئة لولادة نظام الهي عادل.

ملاحظة :كل المعلومات في هذه المحاورة الفلسفية تمثل رؤية الكاتب على الرغم من وجود مصادر

المملكة المتحدة

العاشر من كانون الاول عام 2025

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

937 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع