
بقلم : صلاح الدين راشد

رواية بيروبيجان: أوراق بنيامين.. تراجيديا الصقيع وشرخ الوجود : للروائي الأردني وائل أحمد مكاحله
إن رواية بيروبيجان : أوراق بنيامين لوائل أحمد مكاحله ليست مجرد سرد متخيل لمستقبل ما بعد الكارثة ، وإنما انغماس وجودي عميق في روح المأساة الإنسانية التي ولدت من رحم صراع أزلي . تتجاوز الرواية حدود الواقع الآني بجرأة لترسم سيناريو ما بعد طوفان الأقصى ، حيث ينقلب ميزان القوة وتُجلى القوة الغاشمة عن الأرض التي اغتصبت ، ليجد المنفيون أنفسهم مطرودين إلى منفاهم الجديد الموقت ( بيروبيجان ) . هذا المنفى ، تلك الجزيرة الجليدية القريبة من القطب ، ليس مجرد موقع جغرافي ، وإنما رمز مكثف لبرودة الروح وجمود القلب . استطاع الكاتب ببراعة أن يحول الجليد الكندي القارس إلى مرآة تعكس صقيع المشاعر الذي ضرب كيان مجتمع بُني على أسس الاغتراب والتنكر لحق الآخر ، مجتمع أقصي إلى آخر الأرض ( كأننا وباء وجب التخلص منه ) . الرواية إذن محاولة مكثفة لقراءة المصير في خريطة الوجود المشرذم ، ومحاولة لانتزاع اعتراف إنساني بالجرم من أفواه صانعيه .
في قلب هذه التراجيديا الشاملة يقف ( إيزاك بن ناحوم ) ، مهندس البرمجيات الإسرائيلي السابق ، بطل الرواية وراويها ، الذي يحمل داخله كل تناقضات الصراع . والشاهد على الانهيار، وشرخ الوجود ذاته . نشأ في أتون غطرسة وتعنت أعمى ، ثم وجد نفسه فجأة أمام أوراق بنيامين التي لم تكن إلا صرخة الوعي الأخيرة لصديق قتل . وهنا يكمن جوهر اللمسة الإنسانية التي يطلبها القارئ ، فالرواية ليست عن الانتقام السياسي بقدر ما هي عن الانبعاث الروحي . ( إيزاك ) يولد من جديد حين يكتشف أن اسمه الحقيقي ليس إلا قناعاً على طفل فلسطيني مختطف من مستشفى الشفاء في غزة . يتحول الصقيع الخارجي إلى صراع داخلي هائل ، هل يكون عوناً للشر أم ينتصر الخير في داخله ؟ هذا التمزق بين الانتماء المزور والوجود الحقيقي ، بين الأب الضابط القاتل والابن المخطوف ، يرفع الرواية من مستوى الحدث السياسي إلى مرتبة النقد الأنثروبولوجي للحضارة التي تسمح بخطف الروح وتزييف الهوية . بطل الرواية هو صوت الأجيال الضائعة التي ورثت لعنة الآباء والأجداد ووجدت نفسها مضطرة ( أن نضرس نحن حصرم الآباء والأجداد ) .نجح الروائي مكاحله في استثمار رمزية بيروبيجان بأبعادها التاريخية الساخرة ، فالمقاطعة السوفييتية التي خصصها ستالين كوطن أول لليهود قبل أن يتخلوا عنها لفلسطين ، تعود كمنفى نهائي ، كأرض مؤقتة دائمة . هذه العودة القسرية إلى نقطة الانطلاق الجغرافية تمثل عودة فادحة إلى الصفر الأخلاقي . في هذا المنفى لا يتعلم المنفيون الدرس ، فما زلنا نظلم ونرق ونغش ونطفف ، وما زلنا نقسم البشر إلى أعراق . الرواية هنا توجه سهامها إلى حقيقة أن أي كيان يقوم على الظلم والهيمنة يمتلك بذور فنائه الداخلي ، كما تشير أسفار التوراة التي تتصدر فصول الرواية كنذير ، مؤكدة أن المجتمع الذي قام على فكر ديني متطرف يحمل في داخله أسباب فنائه ونكبته . هذا هو الطابع الإنساني الحقيقي ، لوم النفس على الفشل والاعتراف بأن الكأس تدور ، وأن الظلم الذي أذقناه لغيرنا حين اكتسبنا القدرة على الظلم كان أكبر بكثير من ذاك الذي تجرعناه نحن . إنها تراجيديا الاعتراف المتأخر جداً التي يكتبها الراوي من موقعه الجديد ، وهو يراقب قومه وهم يكررون نفس النهج الفاسد ، مقتنعاً بأن الاعتراف يؤدي إلى التطهر من المرض .
في النهاية تعد بيروبيجان : أوراق بنيامين صرخة قلم مدوية ، تتسلح بالنثر المكثف لتخترق جدار الصمت والعجز . إنها ليست عملاً تنبؤياً بقدر ما هي فعل مقاومة أدبية وفلسفية ، حيث يتشابك الحزن الشخصي لإيزاك المكتشف لهويته مع الحساب الجماعي لأمة تعرضت للإبادة . الرواية محاولة لإحالة طعم العلقم إلى حبر ، وتكثيف الغضب إلى رؤية فنية حادة . إنها رواية تفكيك ، تهدف إلى الكشف عن مخططات تدميرية أكبر من مجرد صراع إقليمي ، وتؤكد أن الخروج من هذا التيه يبدأ بلحظة اعتراف صادقة ، لحظة لا يمكن لأي احد أن يبلغ عمقها أو صدقها ، لأنها تنبع من تجربة إنسانية خالصة ، تجربة الاقتلاع والبحث عن وطن روحي وسط صقيع المنفى الأبدي . هي شهادة مكتوبة بدم وعي متأخر ، وإقرار فني بأن واجب الوطن والمقدسات والدم أكبر من مجرد حبر على ورق .

1326 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع